يعتمد الكثيرون في سرد معارك الأجداد على الرواية الشفوية التي تنتقل إلينا بالتواتر جيلا عن آخر، إلا أن غالبية الروايات لا تكون دقيقة، وغالبا ما تكون معرضة للزيادة أو النقصان، إما نسيانا وإما عمدا برفع شأن عشيرة أو قبيلة أو التقليل من أخرى لأغراض آنية وشخصية. قلة قليلة من الذين حضروا هذه المعارك يكتبون، وحتى الذين كانوا يعرفون الكتابة لم يكونوا يهتمون بكتابة أحداث كانوا يعيشونها، فالأصبع كان على الزناد في غالب الأوقات. في الجانب الآخر من المعركة كان الفرنسيون يدونون بشكل يومي تقارير حربية، يرسلونها بشكل مستمر إلى القيادات العليا، سواء في مراكش أو الإقامة العامة بالرباط، لتعريفهم بالوضع في ساحة الوغى، واحتفظوا بكل تلك التقارير رغم مرور عقود طويلة، ثم رفعت عنها السرية وأصبحت متاحة أمام الباحثين في مراكز الأرشيفات الدبلوماسية والفرنسية. ومن التقارير اليومية التي كتبت عن هذه المعركة، نقترح عليكم ما يتعلق بنهاية شهر فبراير، وما عرفه من تطور كبير للأحداث في جبال صاغرو. 28 فبراير 1933 "بالنسبة لخسائر الأرواح فهي كبيرة، ففي القتال الذي دار يوم 28 فبراير قُتل 25 شخصا من إلمشان، وأزيد من 20 شخصا من أيت عيسى وابراهيم، كما قتل 5 أشخاص من أيت إعزا بسبب قذيفة واحدة، وقُتل 4 أشخاص من أيت مرغاد بنفس القذيفة، كما جرح عسو وباسلام وقُتل ابنه"، يقول تقرير من تحرير الاستعلامات الفرنسية يحمل توقيع ثيابود، رئيس المكتب الثاني. وتزيد الوثيقة نفسها أن "القصف المدفعي والطيراني المستمر يتسبب في خسائر كبيرة جدا، ففي كل ليلة يوجد قتلى وجرحى قرب مصادر الماء، إذ أصيبت امرأة تدعى تيدير بنت سعيد في ذراعها الأيمن بشظايا قذيفة وهي تبحث عن الماء في أقّا نوليلي". التقرير الفرنسي الذي يصف حجم الخسائر القتلى في صفوف المقاومين كان يتحدث عن 28 فبراير 1933، وهو اليوم الذي قُتل هنري دولاسبيناس دوبرونازيل المشهور بالرجل الأحمر، الذي أَلف عنه الفرنسيون كتبا عديدة، وسمي حي بالدار البيضاء باسمه وشوارع بفرنسا، لكن طلقة مقاوم اقتنصته في ذلك اليوم، فضاعفت الآلة العسكرية الفرنسية جهودها في قصف المقاومين، إذ يقول التقرير نفسه "إن عددا كبيرا من الدواب والمواشي قتلت، خاصة الأغنام والماعز، بسبب القنابل التي تطلقها الطائرات أو بسبب القذائف أو العطش..بعض المواقع في بوڭافر تحولت إلى مقابر حقيقية". قلة مياه الشرب بخصوص تموين المقاومين يقول التقرير نفسه، الذي جمع الفرنسيون معطياته من المُخبرين الذين يتم ذكر أسمائهم وقبائلهم والدواوير التي جاؤوا منها: "مازالت المواد الغذائية متوفرة بكميات كبيرة عند الرحل، أولئك الذين يترددون على صاغرو بشكل دائم.. لقد جعلهم ذلك يوفرون احتياطيا من الحبوب والتمر". ويزيد محرر التقرير متحدثا عن مياه الشرب: "إن المنابع المتواجدة في بوڭافر والكتل الإبرية تتسبب في جفاف نقط الماء المتواجدة بخويا ابراهيم (اسم ضريح)، كما أن منبع أقا نوليلي الذي يقصده المنشقون ليلا للارتواء أصبح أكثر خطورة. هناك أشخاص لا يملكون شيئا فيجازفون بحياتهم، إذ يتم كراؤهم ليلا للبحث عن الماء". وعن معنويات المقاومين يقول التقرير الذي حرره الفرنسيون إن "متمردي شمال بوڭافر الذين خاضوا القتال الأخير بدأت تظهر عليهم علامات التأثر، خاصة من حيث العدد، أما جبهة إلمشان وأيت بوداود، فأيت باسلام من مازال يعارض أي تقارب بيننا، رغم نصح أهاليهم من المتمردين ومن الخاضعين بقبول الاستسلام". وختم التقرير بخلاصة مفادها أن "الخسائر في الأرواح وفي المواشي نتجت عن المواجهات الأخيرة بسبب قصف الطائرات والمدفعية، أما الصعوبات التي يواجهها المتمردون في التزود بالمؤن والمواد الغذائية، خاصة الماء، فقد تسببت في إرهاق وضجر شديد في بوڭافر.. ويمكن استغلال ذلك سياسيا، شريطة تشديد الحصار على بوڭافر وتضييق الخناق على المنشقين". 27 فبراير 1933 وفي تقرير آخر وقعه القبطان نفسه، ونسب معلوماته لمُخبر تم إرساله قبل شهرين من بداية المعركة ليكون رفقة المقاومين ويخالطهم كأنه منهم، وتسلل ليلا ليبلغ الفرنسيين حسب ما جاء في التقرير بأن المقاومين للتواجد الفرنسي في المنطقة، والذين يتم نعتهم غالبا في مجمل هذه التقارير بالمتمردين والمنشقين والمقاتلين أو الأعداء، "يتوفرون على ما يقارب 1000 بندقية بمختلف العيارات، أما بنادق 86 وبوشفر فعددها أكبر من 500". وعن مواقف المقاومين يورد التقرير أن "المنشقين أنهكهم القتال وقصف الطائرات ويبحثون عن فرصة للاستفادة من اتفاق سلام؛ أما المبعوثون الذين تم إيفادهم قبل أيام فإن مهمتهم هي جس النبض". وبخصوص مطالب المقاومين حسب ما أفاد به المخبر الذي تم ذكر اسمه ومقر سكنه والقبيلة التي ينتمي إليها فهي "التردد على أسواقنا، أن نرخص لهم بالإقامة في صاغرو أو في الأماكن الخاضعة لنفوذنا، وعدم الخضوع لسلطاتنا، وعدم الإكراه على أداء الضرائب المخزنية". في مقابل "يتعهد المتمردون بعدم خوض الحروب في المنطقة الخاضعة. وبحكم أنه لا يمكن تحقيق ذلك وإرضاء المنشقين فقد تمسكوا بقرارهم الأول: المقاومة حتى النهاية"، كما جاء في هذه التقارير التي جُمعت وترجمت في كتاب "أوراق بوڭافر السرية". قتلى وجرحى وتحرص التقارير الفرنسية على سرد أسماء القتلى المغاربة من المقاومين دون ذكر للقتلى الفرنسيين ولا الموالين لها، ففي هذه الوثيقة التي تعود ليوم 27 فبراير 1933 وردت أسماء القتلى مثل "لحسن أوغزيف من أيت خليفة، بن حماد من أيت إسفول، حمي وعلي من أيت إسفول، ولد باسو وعسو من أيت إعزا، موحى وركوش من أيت عيسى وابراهيم، أوتقات من أيت عيسى وابراهيم، حماد نبوورڭالن من أيت عيسى وابراهيم، سعيد ولد لحو من ملعب، سعيد أقماري من تبسباست، حمو وعبيد من تانوت نومردول". وأشار التقرير نفسه إلى "قتل أربعة أشخاص آخرين من أيت إعزا، لكن المخبر يجهل هوياتهم، بينما جُرح محمد أوعلي موش من تازولايت". ونقرأ في فقرة أخرى من التقرير نفسه: "قتل محارب من أيت إحيى وموسى بقذيفة من طائرة، وقتل 10 أفراد من إلمشان من بينهم يوسف أوتباوشت. أما قطعان المتمردين فقد نفقت بأعداد كبيرة بسبب القصف المدفعي وقذائف الطائرات". وختم القبطان ثيابود الذي حرر تقريره من وادي تازلافت بقوله: "إن إلمشان وأيت بوداود قاتلوا حْرْكات مراكش، وفي آخر مواجهة حدثت ليلا، نام المقاتلون في مواقعهم وأيقظتهم جلبة أنصارنا وهم يتسلقون الصخور، وفي هذه المواجهة تم كسب 25 بندقية وعدد كبير من الخراطيش، وغنم الأعداء بين 10 و12 بندقية ومئات الخراطيش".