ونحن نعيش الذكرى التاسعة لانطلاق نسختنا من "الربيع الديمقراطي" الذي كان داميا أكثر من "ربيع براغ"، والمتجسدة في حركة عشرين فبراير، سأحاول من خلال هذه المساهمة البسيطة إحياءها باستحضار جزء مما أسدته هذه السيرورة النضالية للنهضة الشعبية على مستوى الوعي بحقوق المواطنة والمطالبة بإقرارها، ومحاصرة الفساد بفضح الفاسدين والدعوة إلى حسابهم؛ وسأركز في هذا المضمار على جوانب يسيرة تضيء قيمة الحرية كمطلب أساسي وكآلية مركزية في المرافعة من أجل جميع المطالب. قبل خوض غمار النقاش لا مناص من الإشارة إلى الإجحاف الكبير الذي تواجِه به النخب السياسية والفكرية حركة عشرين فبراير، ودورها الراسخ في خلخلة البنيات السياسية والاجتماعية والثقافية السائدة، والحشد الشعبي من أجل بناء المغرب الجديد على أنقاضها. وهنا أستحضر تجربة مقارنة في الجزائر، حيث دعا الرئيس الحالي، الناطق باسم النظام العسكري القائم، إلى جعل يوم انطلاق "الحراك الفبرايري الشقيق" عيدا وطنيا للاحتفاء بما وصفه ب"الانتقال الديمقراطي" في البلاد، في وقت لا أثر في الإعلام العمومي المغربي لذكرى "حراكنا الفبرايري"، التي صمت الأكاديميون والمفكرون وسياسيو الواجهة عن تخليدها، وهو صمت سياسي يروم إقبارها بما شكلته من إزعاج للسلطوية، ومن تهديد لمصالحها، ويؤكد الطابع الالتفافي لما سميت "إصلاحات ثورية" تفاعل من خلالها المخزن سريعا مع مطالب الحركة، بحل البرلمان وإسقاط الحكومة وكتابة دستور جديد، يعلن كفالة كل الحقوق. ولولا المبادرة التي جسدتها الجبهة الاجتماعية، حديثة التأسيس، بالاحتفاء ب"عيد الشعب" بوقفات محلية ومسيرة وطنية بالدار البيضاء، لما سمع خبر عن الذكرى. عودا على بدء فقد نجحت حركة عشرين فبراير في فرض مناخ من الحرية إبان مدها، وذلك بانتزاع الكثير من الحريات، أذكر منها حرية التعبير، بدون سقف، أي بما يشمل انتقاد المؤسسة الملكية، التي تم رفع طابع القداسة عنها من نص الدستور، تلبية للمطلب الفبرايري فصل القداسة عن السياسة. وكان هذا النقد بأشكال إبداعية وغير مسبوقة في وسائل التواصل الاجتماعي والفضاء العمومي (فضاءات النقاش والشوارع أثناء المظاهرات)؛ بل مس المد التحرري حتى قنوات القطب العمومي "المتجمد" باستدعاء الكثير من النشطاء والمناضلين لبرامج حوارية (عبد الحميد أمين في برنامج مباشرة معكم على القناة الثانية، حيث انتقد الطقوس المخزنية)؛ كما شمل الصحافة المستقلة المسموعة والمقروءة والإلكترونية، التي رفعت أسقف خطوطها التحريرية، وانبرت إلى الانفتاح على الآراء الشعبية المنهمرة بعد سقوط جدار تغييب دام لعقود. ومن الحريات المنتزعة بقوة الزخم الجماهيري ونجاحات السيرورات الثورية في المنطقة آنذاك حرية التظاهر السلمي، إذ تمكنت الحركة من تنظيم مسيرات شعبية حاشدة كل أسبوع دون الحاجة إلى طلب ترخيص من السلطات، وبالاكتفاء بإعلان زمان ومكان انطلاقها، وكانت تمر في أجواء حضارية شجعت مختلف الشرائح والفئات على الالتحاق بها. وهنا أشير إلى المساهمة القوية للنساء في صفوفها، وبمن فيهن النساء من أوساط محافظة، ما ساهم بشكل كبير في تقليص النظرة الذكورية لمشاركة المرأة في النضال والمجال العامين؛ وذلك ما حذا بسدنة الأمن بمفهومه المخزني إلى استيراد سياسة "البلطجة" لتعكير هذا الصفو، وتنفير روافد كثيرة من نهر الاحتجاج المتنامي. حرية الضمير والفكر انتعشت أيضا مع الحراك الفبرايري المغربي، وذلك بفضل توفيره حاضنة التقت فيها الإرادات الحسنة من اليسار بمختلف تلاوينه والحركة الأمازيغية والإسلامية أيضا، في تنوع إيديولوجي لم يكن من المأمول اجتماعه تحت سقف واحد وبرنامج نضالي واحد، ولو اختلفت المنطلقات والغايات، ما أشعل نقاشات صاخبة حول طابوهات كثيرة، جاهر الكل بقناعاته فيها، في تمرين ديمقراطي مازال مستمرا ولو اتخذ فضاءات جديدة، ما سمح بتغيير جوهري للنظرة إلى الأنا والآخر داخل الجسم النضالي، وخلق تموجات وأخذا وردا كان لا بد منه لتدبير العيش السلمي المشترك في الميدان، مع استمرار "الصراع الديمقراطي"، اتقاء النموذج التناحري الذي عرفته تجارب مقارنة بعد إسقاط أنظمة الاستبداد. ومع الإشارة إلى استغلال المخزن تراجع الحركة، في سياق هجوم الثورات المضادة في المنطقة، لمحاولة الإجهاز على تيار الحريات المترسخ والمتنامي، عبر العودة إلى "الزرواطة" والاعتقال السياسي، وخاصة لقمع حراك الريف، أكتفي بهذه الومضات والإشارات التي أبقى على يقين بعدم إحاطتها بكل جوانب الموضوع الشاسع، لكن لعلها تستدر الالتفات إلى تقييم حقيقي تشاركي لمساهمة حركة العشرين من فبراير في رسم الدينامية المجتمعية الحالية، التي لم ترسُ بعد على البر الديمقراطي. وتبقى الإشارة إلى أن هذه الحركة لم تنطلق من الصفر، بل هي سليلة المكتسبات التي حققتها الحركة الوطنية وجيش التحرير، وبعدهما حركة اليسار الجديد وما تمخض عنها من حركة مدنية، وذلك في صراع مرير مع الاستعمار والتسلط السياسي.