عندما أعلن الكاتب والأديب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيص عن كراهيته للعبة كرة القدم وصرح بأنها "قبيحة جماليا"، لم يكن وصفه هذا يتجه إلى التقنيات والمهارات التي يتمتع بها اللاعبون، ولا إلى التنافس الجماعي الذي يطبع رغبة كلا الفريقين في كسب المباراة وتحقيق أفضل النتائج، وحيث أن الصراع الفردي على امتلاك الكرة والانتصار إنما ينصهر في بوتقة جماعية كلية تنتظم وفق خطط وقراءات مسبقة، ووفق قوانين متفق عليها يتم الاحتكام إليها، لا هذا ولا ذاك ما شغل نظرة كاتبنا الكبير بل إن هاجسه المزمن هو خوفه على هذه اللعبة من ثقافة العنف لدى الجمهور الكروي والتي أصبحت تؤثث المشهد الكروي بصفة عامة عندما أصبح هذا الجمهور يتملك المدرجات كمجال للفعل والتعيير، وكمنصة يصير فيها أجرأ وأقوى عندما يكتسب سلوكيات خاصة لربما لم تكن لتعبر عن ظهورها لو بقي هذا الفرد منفردا، وبالتالي يصبح الملعب عنوانا لتصريف المكبوت والعنف والحقد الذي تكتنزه نفسيته. مناسبة هذا الكلام ما تطالعنا به الصحف الرياضية عقب كل نهاية أسبوع، والتي لا تتصدى فيه لنتائج المباريات ولا إلى الحصيلة التقنية، بقدر ما أصبح اهتمامها ينصب على ما يعج به مشهدنا الكروي من أحداث واحتكاكات وضحايا لم تعد على هامش الحدث الرئيسي، بل لتحتل وسط الصورة ولتفرض على المشاهد نوعا من التقزز والاستهجان للعبة صارت عنوانا لتفريغ الانفعالات والمشاعر البليدة وللعداء للآخر، خصوصا عندما تنصهر في طابع جماعي وإجماعي يترصد رد فعل جمهور الخصم داخل الملعب وحركاته وإيماءاته وأشكال عنفه المادي واللفظي. إن أهم ما توصل اليه علماء الاجتماع وعلماء النفس وأخص بالذكر هنا غوستاف لوبون كمختص في سيكولوجية الجماهير هو أن الفرد عندما يدخل ضمن الحشد فانه يفقد السيطرة والتحكم في أفعاله بصورة كبيرة فيجد نفسه مضطرا للتصرف كما يتصرف الآخرون دون وعي بأبعاد ونتائج فعلته، إنها روح الجماهير عندما تتجاوز وعيها الفردي الذي يتحول الى تركيب كلي ووعي جمعي لا يؤمن في ذات اللحظة بالمحاكمات العقلية ولا يتمنطق بالنتائج السلبية للفعل، وإنما يصل إلى درجة الهوس والرغبة في الانتقام والفعل ورد الفعل، نتيجة هياج الجمهور دفعة واحدة وككتلة بشرية ضخمة تتسارع عقبها الأحداث دون تخطيط مسبق، هاجسها المطلق هو محاولة التميز والتأثير ولربما إلحاق الأذى بالآخر. إنه نوع من الاحتماء بالكل القوي (الجماعة) ورغبة في نفي الآخر (يقال إن الآخر هو الجحيم) عبر تشكل سلوك جمعي يلغي الخصوصية الفردية ويتجه لتحريك الجمهور اتجاها عشوائيا يسيطر على الأفراد من خلاله الاستعداد والرغبة والقدرة على فعل أي شيء، خصوصا إذا ما تم مقابلته من الطرف الآخر بالتصرف ذاته ورد الفعل نفسه عبر أدوار جماعية وأدوات لفظية وتعبيرية ذات مضامين مرفوضة أخلاقيا ومجتمعيا، يقول جون دروري john drory " إن الحشود شأنها كشأن الأفراد لها خصائصها السيكولوجية التي توجه سلوكيتها"، مما يجعل هذا السلوك الذي يبدأ عاديا يتحول في خضم عملية ترديد الأناشيد والشعارات والمقاطع التي تنتصر إلى الفريق وتمجد الذات بشكل جماعي إلى نوع من التهييج والغليان الجماعي، وينتقل من فعل عقلاني مشروع وسوي إلى فعل لاعقلاني وصدامي، تغذيه في نفس الوقت التمثلات والتصورات في إطار مقاربة صراعية بين الطرفين تقوم على إلغاء الآخر وشطبه لتثبيت الوجود واحتلال المشهد، وهو ما تجاريه بشكل يومي وسائل التواصل الاجتماعي كفضاءإعلامي تعبيري حر لا يضم رئيسا للتحرير يؤطر ويوجه ما هو مكتوب وصالح للنشر، وإنما يبقى مجالا مفتوحا امام أطياف عدة ومتعددة تجد فيه وسيلة غير كابحة للتنفيس والتهييج وفق سلوكيات تستقي مما هو هامشي وشعبوي وتنهل من اللانهي واللاتنظيم، وتحاول أن تجعل من الصراع مع الآخر شرطا ضروريا للحضور وشرعنة الوجود، وهو في هذا وذاك يسقط في المحظور الذي لا يقبل به المجتمع ولا القانون ولا العقل، وتصبح كرة القدم لا كما أحببناها منذ الصغر وعشقنا فنياتها ونجومها وانتصاراتها وكبواتها، وإنما كما يقول كاتبنا خورخي بو رخيص "علامة على تفشي الغباء".