علينا التسلح بالكثير من الجرأة في عقدة المواجهة الماكرة مع حقائق وسلط الذاكرة التاريخية، هو ذا ما يعلمنا إياه النبش في تاريخ الصحراء المعاصر كمنطقة جد حساسة بحكم موقعها الجيو-استراتيجي، وتداخل العوالم الجغرافية والتاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية في رسم المجال والإنسان في ظل ظروف الحرب الباردة والتقاطب الدولي، وتحويل الأنظمة السياسية المتصارعة من أجل الهيمنة على مسار المنطقة وتوجيه كل جهودها من التكامل والتنافس إلى الاحتراب والصراع، ما الذي حدث بين 1970 و1975 في منطقة المغرب العربي برمتها في ارتباط مع إسقاطات الاستقطاب الدولي والنفوذ الاستعماري؟ مع بداية حصول دول المغرب العربي على الاستقلال، حصل تداخل في مجالات السيادة مع رسم الحدود التي تحولت إلى حقل ألغام تُوتر العلاقات بين دول الجوار، وتنفجر في كل محطة بسبب حسابات ليست ذات طبيعية جغرافية بالضرورة، وزاد من عدم استقرار أنظمة شمال إفريقيا، باستثناء تونس والمغرب، إشعال نيران الحريق بين بلدانها؛ فليبيا ستعرف نهاية النظام الملكي في 1969 بزعامة العقيد معمر القذافي، والهواري بومدين سيقود انقلابا عسكريا عام 1965 ضد الرئيس الجزائري أحمد بن بلة، ومحمد ولد الطايع سيتزعم انقلاباً ضد الرئيس الموريتاني المختار ولد داداه. تعدد ولاءات أنظمة الحكم في المغرب العربي واختلاف توجهاتها السياسية ونزوع الهيمنة ومحاولة لعب دور إقليمي في تركيبات حسابات القوى المهيمنة بالمنطقة، جعل من رسم الحدود حصان طروادة لتصفية الحسابات والدسائس والتوافقات بين مختلف الأنظمة. وتعتبر الصحراء الغربية المجال الحيوي الذي جرت فيه وبه صولات وجولات الدول الماسكة بخيوط اللعبة في المنطقة، وهنا تظهر مناطق ظل كثيفة تعم طول سكة التاريخ الممتد من 1970 إلى 1975 أدخلت ملف الصحراء المغربية في دائرة التباسات لم تنكشف كل معالمها حتى اليوم. مع اكتشاف الحديد على الطريق الحدودي في الجنوب الغربي قرب تندوف، تشابك الاقتصادي والسياسي، فبحكم التكلفة الباهظة التي يقتضيها استخراجه وتصديره، أخذت الجزائر تبحث عن ممر أقل كلفة نحو المحيط الأطلسي، فلجأ بومدين إلى التفاوض مع الجنرال فرانكو سنة 1967، لنقل حديد منجم "غارات جبيلات" إلى المحيط الأطلسي عبر الصحراء المغربية الخاضعة آنذاك للاحتلال الإسباني، من أجل فك العزلة الجغرافية عن الجزائر وتطويق المغرب من الشرق ومن الجنوب، كان التوتر حينذاك على أشده بين المغرب والجزائر التي كانت تأوي المعارضة الراديكالية وتدعمها ضد النظام الملكي، وجراح حرب الرمال لعام 1963 أخذت في الاتساع أكثر. وإذا كان لا مجال للصدفة في السياسة، فإن توافق مجموعة من الأحداث وتناسل العديد من الوقائع بين المغرب والجزائر يجعلنا نطرح العديد من الأسئلة حول تشابكاتها السرية ومركبات إسقاطاتها السياسية على ملف الصحراء، في محاولة للفهم لكي لا نموت بلداء كما يقول الفرنسيون. احتضنت إفران في 15 يناير 1969 مفاوضات سرية بين الرئيس الجزائري الهواري بومدين والملك الراحل الحسن الثاني تُوّجت يوم 27 ماي 1970 بتوقيع اتفاقية تلمسان، حيث تم تأسيس لجنة مشتركة لترسيم الحدود بين الجزائر والمغرب اتفق على أن تقدم خلاصاتها لقادة البلدين خلال سنة. يذكر الخبير الحدودي محمد المعزوزي في كتابه "نصف قرن من أجل الوحدة الترابية" أن ممثليْ المغرب في اللجنة المشتركة لترسيم الحدود مع الجزائر كانا هما الجنرالان أوفقير والمذبوح اللذان اتفقا سراً مع الرئيس الجزائري هواري بومدين على التخلي عن مساحات شاسعة من التراب المغربي لصالح الجزائر. لنذكر فقط أن أوفقير هو الذي قمع تظاهرة السكان الصحراويين بطانطان في ربيع 1971، ونقل إلى القصر الملكي بالرباط صورة حركة ثورية ضد الملك بتأويل الشعارات التي رفعها المتظاهرون في منطقة مغربية ليست محط نزاع حتى اليوم، وهو الذي أدخل الكثير من المناضلين الصحراويين الوطنيين في الصحراء إلى السجون والناجين منهم اضطروا إلى الفرار والضرب في صحراء الله الواسعة، وباستقراء سيرة مؤسسي بوليساريو سنجد أن جلهم من مواليد طانطان وأغلبهم أبناء جنود في جيش التحرير المغربي. ولنتذكر أن المذبوح وأوفقير هما من قادا انقلابين فاشلين ضد الملكية بالمغرب في يوليوز 1971 بالقصر الملكي بالصخيرات وغشت 1972 في حادث الهجوم على طائرة البوينغ الملكية. ظل وزير الدفاع الوطني الجنرال أوفقير يرأس الوفد المغربي المفاوض في اتفاقية ترسيم الحدود مع الجزائر التي سيتم المصادقة عليها بالرباط في 15 يونيو 1972، حيث تم اقتطاع أجزاء كبيرة من الشريط الحدودي بشرق المغرب لصالح الجزائر، واعترف المغرب بجزائرية تندوف ومشاركته في تسويق حديدها، لكن ما هو المقابل الذي استفاد منه المغرب من اتفاقية تبتر حدوده الجغرافية وتقلص مجال سيادته؟ وهي الاتفاقية التي ظلت سرية في أروقة مربع الحكم بين البلدين، وهنا تنتصب مناطق صمت لا تسعفنا البحوث التي جرت في هذا الباب في تسليط الكثير من الضوء على الأماكن المعتمة فيها. يعتبر الباحث محمد المعزوزي أن "الخط الحدودي المبرم سنة 1972 في فترة حرجة من تاريخنا، لعب فيه أوفقير دوراً مشؤوماً، فقد كان رهانه مركزاً على تصفية ملف الحدود لصالح الجزائر لاستجلاب عطفها وحمايتها في محاولته الانقلابية"، أي إن دخول أوفقير والمذبوح في اللجنة المشتركة المكلفة بترسيم الحدود بين البلدين، الذي أقرته اتفاقية تلمسان سنة 1970، لم يكن مجرد صدفة، بل يدخل في إطار صفقة سرية بين الجنرال أوفقير والرئيس بومدين، يتضمن تنازل المملكة المغربية عن جزء من ترابها الوطني مقابل ضمان دعم ومساندة الجمهورية الجزائرية للانقلاب العسكري أو على الأقل ضمان حيادها. على هذا، فإن القمع الشرس الذي وُوجهت به تظاهرة السكان في طانطان في ربيع 1971 ضد استمرار الاحتلال الإسباني بالصحراء يدخل ضمن هذا المخطط الجهنمي، إشغال الملك بقضية الصحراء لتوزيع انشغالاته بخلق بؤر التوتر في الجنوب، وتصوير الأمر كما لو أن الانتفاضة المحلية ضد الاحتلال هي انتفاضة ضد الملكية في ظرف جد حساس، خاصة وأن صاحب "التحدي" كان أول من وعى درس التاريخ على اعتبار أن الإمبراطوريات الكبرى التي تعاقبت على حكم المغرب جلها جاءت من تخوم الصحراء، من الجنوب والجنوب الشرقي، وذلك لإنضاج شروط الانقلاب على نار هادئة. في هذه المرحلة كان لشعارات الدولة الوطنية والخيارات الاشتراكية بريق مبهر وصدى واسع في دول العالم الثالث الخارج حديثا من محنة الاستعمار، وجسدت الجزائر، بلد المليون شهيد، بنظامها الجمهوري وشعارات التأميم والإصلاح الزراعي مع هواري بومدين، قبلة لحركات التحرر حتى المغربية منها التي ظلت الجزائر تحضنها وترعاها، في المقابل كانت الملكيات الموصوفة بالرجعية والاستبداد تفقد بريقها وإغراءاتها التاريخية وتواجه أوهام انقراضها. ترسخ هذا في السبعينيات مع انحياز النظام المغربي نحو الغرب وإقرار ليبرالية متحكم فيها، وهي عناصر لم تكن لتلعب لصالح مطالب الدولة المغربية، لكن ثمة معطى آخر يفرض نفسه بقوة في سياق الانعطافات الأساسية التي عرفتها قضية الصحراء واستمرار تركيز سلطة الملكية في مغرب يعيش حالة استثناء في كل شيء، من معركة ترتيب البيت الداخلي إلى استرجاع الأقاليم الجنوبية، هل يمكن اعتبار اتفاقية الحدود التي وقع عليها الحسن الثاني بالرباط في 15 يونيو 1972، والتي بموجبها تم انتقاص جزء من التراب الحدودي لشرق المملكة، أشبه بمعاهدة "بترولوفيسك" التي اضطر لينين إلى التوقيع عليها والتخلي بموجبها عن جزء من التراب الروسي لصالح القوى المعادية لحماية الثورة والتفرغ لإصلاح الوضع الداخلي الهش بعد ثورة أكتوبر 1917؟ فالملكية كانت خارجة للتو من انقلاب عسكري، والصراع مع اليسار الراديكالي على أشده، لذلك ارتأى الحسن الثاني توقيع اتفاقية الحدود مع الجار اللدود، والمقابل أيضا هو رؤوس المعارضين التي سيقدمها هواري بومدين لنظام الحكم بالمغرب على طابق من ذهب، لذلك ستصبح سوريا وليبيا وباريس ملاذا جديدا للمعارضة المغربية بعد تقديم الرؤوس المدبرة لحركة 3 مارس 1973 للمخابرات المغربية، في الوقت ذاته حافظ الملك الراحل على سرية المعاهدة التي لم يصادق عليها البرلمان المغربي منذ 1972 ولم يتم نشرها في الجريدة الرسمية إلا بعد مرور عشرين سنة من عمر الاتفاقية، أي من 22 يونيو 1972 حتى عام 1992 على عهد حكومة عز الدين العراقي. وحين استشار الملك الراحل زعماء الأحزاب السياسية في قضية المصادقة على اتفاقية الحدود مع الجزائر، رفض عبد الرحيم بوعبيد ومحمد بوستة وأحمد عصمان قرار المصادقة بلا مقابل، في حين وافق عليها علي يعتة وعبد اللطيف السملالي وامحند العنصر. هذا البعد وعاه الجزائريون في لقاء جنيف في نهاية السبعينيات حين اقترح الطالب الإبراهيمي على المستشار الملكي أحمد رضى اكديرة إعطاء المغرب حسن نيته في علاقات حسن الجوار والتعاون مع الجزائر بمصادقة البرلمان على اتفاقية ترسيم الحدود التي نُشرت في الجريدة الرسمية في 15 يونيو 1972، وترك الأمر إلى لقاء القمة بين رئيسي البلدين الذي كان مزمعا عقده بالرباط. أبرزت اتفاقية تلمسان في 1970 استعداد أوفقير والمذبوح للتخلي عن جزء من التراب المغربي لصالح الجزائر، وهو ما دفع الزعيم علال الفاسي الذي ظل دوما يدافع عن تحرير مجموع التراب الوطني من خلال شعار "الاستقلال التام أو الموت الزؤام"، لكتابة افتتاحية نارية بجريدة "العلم" تحت عنوان "سيادة الشعب لا يحق التصرف فيها"، كانت سببا كافيا لإدخال عبد الكريم غلاب، مدير الجريدة الاستقلالية، إلى السجن، فيما كان الجنرال محمد أوفقير يدعو إلى شنق علال الفاسي في ساحة عمومية لعدم احترامه الملك والمس بمقدسات البلاد. وحسب ما رواه الرئيس الموريتاني المختار ولد داداه في مذكراته "موريتانيا على درب التحديات" التي تمتد على أكثر من 600 صفحة: "كان بومدين يعتقد أن الملك الحسن الثاني كان يحاول إبرام صفقة معه تقضي بتخلي الجزائر عن جبهة بوليساريو، في مقابل موافقة الرباط على اتفاقية ترسيم الحدود بين البلدين التي كانت معلقة منذ 1972"، وهي الاتفاقية التي قال الرئيس الموريتاني ولد داداه بشأنها: "لو صادق الملك الحسن الثاني على اتفاق ترسيم الحدود في الرباط عام 1973 أو 1974، ما كان الرئيس الجزائري ليشجع على إنشاء بوليساريو كإجراء انتقامي من المغرب"، ذلك أن الجزائر كانت تنظر بعين الشك والريبة إلى ما تسميه "المطامع" المغربية في جزء من الأراضي الجزائرية، في إشارة إلى تندوف وبشار. ثمة مناطق ظل كثيفة في الحدود الموروثة عن الاستعمار للمنطقة المغاربية تلقي بظلها اليوم على طبيعة العلاقات السياسية بين مكوناتها، وإذا كانت الجغرافيا قدرا لا يمكن تغييره، فإن مجرى التاريخ يتطلب الكثير من الجهد لتجاوز حالة التمزق والتشرذم وفق ما يخدم مصالح بلدانه، التي تعتبر الجزائر والمغرب عقدته الكبرى، لا يمكن اليوم الرجوع إلى الخريطة الواسعة للإمبراطورية المغربية، لكن يمكن وضع إشكالات الحدود جانبا والتخلص من العقد الموروثة للتوجه نحو المستقبل، وذلك يتطلب إرادات مشتركة تنصت للتاريخ البعيد، وذلك كله غير متوفر على الأقل في المستقبل المنظور.