يستمر الكاتب والإعلامي عبد العزيز كوكاس في قراءته المغايرة لجبهة بوليساريو من خلال كتابه الموسوم ب"رؤية مغايرة: جبهة بوليساريو.. من حلم التحرر إلى أوهام الانفصال" كاشفا عن معطيات مرتبطة بسياق تأسيس الحركة ومساراتها في مدار الصراع الإقليمي الذي تعددت أطرافه ومقاصد كل طرف. إن الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب التي أسسها شبان صحراويون وطلبة مغاربة من أبناء جيش التحرير انطلقوا من جامعة محمد الخامس باكدال/الرباط، في سياق تحرير الصحراء وفق مفهوم خلق البؤر الثورية من المناطق البعيدة عن السلطة المركزية، انطلقت نواتها بعد قمع تظاهرات السكان بالعيون في 1970 بالرصاص من طرف الاستعمار الإسباني واعتقال ومطاردة السكان المتظاهرين في ربيع 1971 بطانطان من طرف قوات وزير الداخلية أوفقير، حيث تم تشكيل الخلايا الأولى بين سنتي 1971 و1972 بالرباط وبعض المدن الجنوبية، وحضر لقاءها التأسيسي حوالي 30 إطاراً بمنطقة الزويرات بموريتانيا، حيث تم الإعلان عن جبهة بوليساريو رسميا في 10 ماي 1973 كحركة تتغيى تحرير الصحراء من يد الاستعمار الإسباني، لكن ستجري رياح المنطقة بما لا يشتهي ربابنة سفينة الجبهة ذاتهم، إذ عمدت الجزائر، كرد فعل على وجودها خارج نتائج المفاوضات السرية بين المغرب وموريتانيا وإسبانيا التي ستتوج باتفاق مدريد في نونبر 1975، إلى التحرك في أكثر من اتجاه وقد كانت موريتانيا هي الحائط القصير لتجسيد ردة الفعل تلك، يروي المختار ولد داداه في مذكراته الحكاية التالية: "مباشرة بعد قبول موريتانيا نتائج مؤتمر مدريد في 1975 هددني بومدين قائلا: إن لم تقف إلى جانبنا في الصحراء، فقد نتحرك عسكريا ضدك أو نحرك جماعة الصحراء ضدك".. ويعلق الرئيس الموريتاني المطاح به على هذا الأمر قائلا: "كانت الجزائر تفضل أن تبقى الصحراء تحت السيطرة الإسبانية ولو بصفة مؤقتة لمرحلة معينة". قبلها وفي بداية نوفمبر 1975، أوفد الرئيس هواري بومدين المدير العام للأمن الوطني حينها أحمد دراية إلى الرئيس ولد داداه لإبلاغه رسالة شفوية مفادها طلب لقاء مستعجل مع الرئيس الموريتاني الذي قبل إجراء اللقاء واقترح أن تكون مدينة بشار محطته في 10 نوفمبر من نفس السنة، أي قبل 4 أيام على توقيع موريتانيا والمغرب وإسبانيا على اتفاق تقسيم الصحراء بين الرباطونواكشوط في مدريد يوم 14 نوفمبر 1975، يقول الرئيس ولد داداه : "وصلت إلى مطار بشار في ذلك اليوم على متن طائرة خاصة كان الرئيس بومدين قد بعث بها إلي، وجدته في انتظاري في المطار، وأجريت فترتين من اللقاءات مع الرئيس بومدين (...) بادرني الرئيس بومدين بالعتاب، وقال إن علاقاتنا لم تعد مثالية كما كانت منذ شهور، بسب أعمال الهدم التي يمارسها الملك الحسن الثاني".. ويؤكد الرئيس ولد داداه أن الرئيس بومدين كان على اطلاع ومتابعة دقيقة لمجريات مفاوضات مدريد ومآلاتها، وربما بالموقف الموريتاني أيضا، حيث فاجأ مضيفه قائلا: "يبدو أن موريتانيا ستوقع اتفاقا في مدريد يتم بمقتضاه تقسيم الصحراء بينكم وبين المغرب، ومعنى ذلك أن موريتانيا غيّرت موقفها كاملا، فبعد أن ناضلت من أجل حق تقرير المصير للشعب الصحراوي، ترضى اليوم باقتسامه مع المغرب كما يقتسم قطيع الغنم والإبل، إن الجزائر لن ترضى بذلك أبدا". وضع الرئيس بومدين الرئيس ولد داداه في موقف محرج، مما دفعه إلى محاولة تبرير الموقف الموريتاني بصعوبة إجراء استفتاء لتقرير المصير الذي لا ينبغي أن يشمل السكان غير الأصليين، وزعم الرئيس الموريتاني الراحل حينها أن سكان جنوب الصحراء الغربية أعلنوا التزامهم بالاندماج مع موريتانيا، وسكان شمال الصحراء مع المغرب.. لكن الرئيس بومدين، بحسب ما جاء في المذكرات، طلب من الرئيس ولد داداه انسحاب موريتانيا من مفاوضات مدريد، حيث قال بلغة تهديدية صريحة: "أطلب منك أن تسحب بلادك من هذه المفاوضات وألا توقع على الاتفاقية التي يجري الإعداد لها، وإلا فإن العواقب ستكون وخيمة بالنسبة لبلادك وبالنسبة لك شخصيا". كانت تلك رسالة تهديد واضحة لولد داداه من الرئيس الجزائري هواري بومدين الذي أضاف: "لو خيرت بلادك بين المغرب الإقطاعي التوسعي وبين الجزائر الثورية، فإنك لن تستطيع أن تختار الأول؟". ويذكر الرئيس ولد داداه أنه رد على بومدين بما يعني أن العبارات التهديدية ليست في محلها ولا تغير الموقف بالنسبة له، أما الاختيار بين البلدين فإن مصالح موريتانيا تلتقي مع المصالح المغربية وليس مع المصالح الجزائرية، كان ذلك بالنسبة لبومدين حسما واضحا للموقف وتغليبا لطرح المغرب على الطرح الجزائري بشأن قضية الصحراء الغربية، مما دفعه إلى إرسال رسالة تحذير ثانية مفادها "احذر يا مختار، موريتانيا بلد هش، ولديه مشاكل داخلية خطيرة وآلاف الكيلومترات لا يمكنها أن تحميها بنفسها في حالة حدوث نزاع مسلح، ومصلحتها في أن تبقى محايدة وتتابع لعب دورها الدبلوماسي".. وحاول بومدين في الوقت نفسه استدراج ضيفه الموريتاني قائلا : "إذا كانت موريتانيا مازالت تخشى بحق من النزعة التوسعية المغربية، فبإمكانها أن تعول على الجزائر لمساعدتها على الدفاع على نفسها، ولا يمكن أن تسمح موريتانيا للمغرب بجرها إلى مغامرة قد تكون ضحيتها الأولى مادامت هي الحلقة الأضعف في المنطقة". لكن لماذا غضب هواري بومدين على اتفاقية مدريد الثلاثية وهو الذي شجع التقارب الموريتاني/ المغربي لحل مسألة الصحراء عبر تحريرها من يد الإسبان، وظل شاهداً على كل مراحل المفاوضات لينقلب فجأة ضد الاتفاقية، هل هو إحساسه أنه الوحيد الذي خرج بدون أي ربح؟ بالنسبة للمغرب، فقد لجأت الجزائر إلى تهريب المؤتمر الثاني للبوليساريو في 25 غشت 1974 إلى منطقة "أم غريض" قرب مدينة تيبازا الجزائرية، وهنا يشير العديد من الأعضاء القياديين من جبهة بوليساريو غير الدائرين في فلك المخابرات العسكرية الجزائرية، بأصابع الاتهام لتدبير حكام الجزائر لعملية محاصرة الوالي مصطفى السيد الذي كان يبدو أكثر تحررا تجاه الجزائر وأشد ارتباطا بليبيا، والذي قتل في ظروف غامضة في معركة قادها ضد حكم المختار ولد داداه في ضواحي مدينة تجكا التي تبعد عن العاصمة نواكشوط بحوالي 200 كلم.. لقد تم تهريب المؤتمر إلى الجزائر من جهة لمنافسة الدور الليبي الذي رعى نشأة بوليساريو، ومن جهة أخرى للتحكم في خريطة قيادة الجبهة وضمان تبعيتها عبر تعيين محمد عبد العزيز أمينا عاما لبوليساريو، هكذا دعمت القيادة الجزائرية إعلان "الجمهورية الصحراوية"، واحتضنت العاصمة الجزائر أول لقاء للوالي مصطفى السيد مع سفير مدغشقر في مارس 1976 باعتبارها أول دولة تعترف ب"الجمهورية الصحراوية" في ذات السياق استقبلت ليبيا وفداً من بوليساريو بزعامة الوالي بطرابلس غداة مؤتمر الشبيبة الإفريقية سنة 1974، حيث تم قبول عضوية شبيبة بوليساريو في المؤتمر باعتبارها عضوا كامل الصفة. كان القذافي الذي قاد انقلابا في فاتح شتنبر 1969 ضد ملكية السنوسي، يرى في جبهة بوليساريو اليد الموجعة للنظام الملكي بالمغرب، وإن كان قد صرح بأن الأمر لا يغدو سوى دعم من أجل تحرير الصحراء من الاستعمار، غير أنه كما يقول الهولنديون، فإن الكلمات المذهبة غالباً ما تتلوها أفعال رصاصية، هي ما كان يكتوي بها أبناء المغرب المرابطون على الحدود للدفاع عن حوزة الوطن. لم يكتف بومدين بذلك فقد احتضن المعارضين المتطرفين لنظام الحسن الثاني، وجعل من الأراضي الجزائرية منطقة استقبال وإرسال الجماعات المسلحة نحو التراب المغربي بأسلحة ومركبات وعربات جزائرية لزعزعة استقرار الملكية ووضع الكثير من الحصى في حذاء الملك الحسن الثاني، والتفاوض بعد ذلك حول مصالح الجزائر بتلك الأوراق المتعددة من الداخل والخارج مع الملكية، وفي ظل اشتداد التوتر وتشابك خيوط المصالح كانت الحقيقة تتضاءل في كل لحظة مثل قطعة صابون وسط غسيل متسخ، لكن حسابات الأنظمة المنافسة للمغرب لم تكن لتترك أي شيء للصدفة خاصة في قضية الصحراء. كانت المرحلة الذهبية في مسار مواجهة المستعمر الإسباني، هي الفترة التي شهدت تقاربا بين نواكشوطوالرباطوالجزائر بدءا من سنة 1969 حيث سعى الحسن الثاني وهواري بومدين لبناء جسور من الثقة من أجل إخراج الاستعمار الإسباني من الصحراء الغربية، فشكلوا "مجموعة" ثلاثية في مؤتمر نواذيبو سنة 1970، هدفها الضغط على إسبانيا لدفعها نحو الجلاء عن الصحراء الغربية عبر تنفيذ قرارات الأممالمتحدة ذات الصلة، ومَهَّدَ هذا التفاهمُ الثلاثي - كما كان متوقعا - لتوقيع اتفاقية حدود بين الرباطوالجزائر، وطيِّ صفحة الخلاف المزمن بين موريتانيا والمغرب، لتثبّت الحدود نهائيا بين الأقطار المغاربية الثلاثة.. وجاءت فكرة تقسيم الصحراء من خلال التفاهم السري بين الرئيس المختار ولد داداه والحسن الثاني، الذي تُوج باتفاق فاس سنة 1974، ثم تلته المرافعات أمام محكمة العدل الدولية سنة 1975، والتي كان يراد منها تثبيتُ الاعتراف بحق كل طرف أمام هيئة دولية؛ فقد قُبلت "المجموعة الموريتانية" ندًّا للدولة المغربية ذات الإدارة العريقة، وهي سابقة قانونية كرستها المحكمة الدولية، وبذلك حُسمت المطالبة بموريتانيا - وهو مكسب عظيم - حيث اعترف المغرب "بالمجموعة الموريتانية" وأن لها "صلات خاصة مع بعض قبائل وادي الذهب، (تيرس الغربية) مقابل اعتراف موريتانيا للمغرب ب"علاقات مماثلة مع بعض قبائل الساقية الحمراء".. وقد أكد الرئيس الموريتاني أن المحكمة حرصت على أن تقرير المصير المنصوص عليه في قرار الجمعية العامة هو الاستفتاء المباشر، بينما اعتبرت موريتانيا والمغرب أن تصويت المجلس الوطني الصحراوي (برلمان المستعمَرة) بالأغلبية لصالح اتفاقية مدريد، تقريرُ مصير، مثل الجمعيات الوطنية في المستعمرات السابقة التي أُعلن استقلالُها دون تنظيم استفتاء شعبي، ومنها موريتانيا. ("موريتانيا وقضية الصحراء.. من الحرب إلى الحياد": قراءة في الحصيلة والآفاق" للوزير السابق والسفير الموريتاني محمد محمود ودادي، نشر بالموقع الرسمي للمركز الموريتاني للدراسات والبحوث الإستراتيجية). في 26 فبراير 1976 حين كان يتم رفع العلم المغربي بمدينة العيون، وإعلان إسبانيا عن وضع حد نهائي لوجودها بالصحراء تنفيذاً لاتفاقية مدريد ولآثار المسيرة الخضراء التي أبرزت إجماعاً وطنيا قويا وإبداعا متفرداً في التئام وحدة المغاربة التي أبهرت العالم أجمع، ومع مغادرة آخر جندي إسباني للأقاليم الجنوبية دون إطلاق رصاصة واحدة، كان هناك شعور عارم بالإخصاء سيصبح عقدة مستديمة في لاشعور المؤسسة العسكرية الإسبانية حتى يومنا هذا.. في مساء ذلك اليوم كانت الآليات العسكرية الإسبانية تنقل الآلاف من المواطنين الصحراويين بتنسيق مع الجزائر على الجهة الأخرى وبشكل قسري إلى مخيمات جاهزة بتندوف، وعلى قاعدتهم ستعلن بوليساريو في 27 فبراير 1976 إقامة "الجمهورية الصحراوية" التي سيصبح لها في رمشة عين كيان تنظيمي وشعار وعلم وكل رموز دولة قائمة، وستتوفر للكيان الجنيني أسلحة جد متطورة وعتاد حربي ثقيل لا يملكه جيش نظامي، فبالأحرى حركة تحررية لم تبلغ الفطام بعد.. لقد كانت حركة انفصالية صاعدة تمول من شرايين دماء المليون شهيد جزائري. تلك حكاية حركة كانت تنوي توجيه بنادقها نحو صدر المحتل الاستعماري، وأضحت توجهها نحو الصدور العارية للإخوة في الصحراء ولأبناء الخؤولة والعمومة، إذ في ضغائن السياسة وحدها يتحول الدم إلى مجرد ماء، سيلانه ضروري لخصب المصالح الحيوية الضيقة.