صحيح أن العداء بين المغرب والجزائر كان سابقا لفشل محاولة الانقلاب الثانية على الحسن الثاني، فقد بدأ بخلاف على الحدود التي وضعها المستعمر الفرنسي، لكن العلاقات بين البلدين الجارين كانت تسير نحو تذويب الخلافات العالقة قبل موت أفقير بأشهر، وفجأة غيرت الجزائر تعاملها مع المغرب ووضعته في خانة الأعداء، وانطلقت في تنزيل سياستها المناوئة للمغرب ووحدته الترابية. وبالرجوع بالتاريخ شيئا ما للوراء يتضح أن فشل انقلاب أوفقير كان الحدث الكبير الذي أعقبه تغير في السياسة الجزائرية ضد المغرب، يزكي ذلك عدد من المعطيات التاريخية التي تقدمها "الأيام" لقرائها، والتي تكشف عن تورط جزائري في المحاولة الانقلابية الفاشلة أو على الأقل عدم رضاها بفشل أوفقير في مخططه لقلب نظام الحكم في المغرب.
ومما لاشك فيه أنه رغم مرور أزيد من أربعة عقود على رحيل الجنرال أوفقير، إلا أن شبحه مازال لليوم يخيم على العلاقات المغربية الجزائرية، حتى إن تحليلات خلصت إلى أن انتقام أصدقائه الجزائريين كان أحد أسباب الحرب الباردة بين البلدين، وتأسيس "البوليساريو" وانهيار حلم بناء المغرب العربي، وما سيعقب ذلك من اضطرابات في العلاقات الإفريقية والعربية.
ما يزال الممسكون بمقاليد الحكم في الجارة الجزائر يرفضون فتح الحدود مع المغرب بشكل نهائي، دون تقديم مبررات مقنعة، ويدعمون أطروحة الانفصاليين، ويكيدون المكائد للمغرب، رغم أن الأسرة العلوية الحاكمة في المغرب لطالما دعمت حرب التحرير الجزائرية وقدمت لها كل العون الممكن.
وتأزمت العلاقات بين البلدين الشقيقين بادئ الأمر بسبب تقسيم الحدود من طرف المستعمر الذي اقتطع أجزاء من المغرب وضمها لسواه، والجزائر من بينها، ويمكن للمتتبع من خلال إطلالة سريعة على خريطة الجزائر قبل وبعد استقلالها الوقوف عند حجم الأراضي التي انتزعت بالقوة من جيرانها قبل أن تضاف إلى مستعمرة فرنسا منذ 1830، كما يفصل في ذلك كتاب «المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية» لمؤلفه مصطفى العلوي.
في المرحلة الممتدة من 1956، تاريخ استقلال المغرب، إلى 1962 تاريخ استقلال الجزائر، سكت المغرب عن مطالبه بخصوص صحرائه الشرقية، حتى لا يربك ويشوش على الكفاح المسلح للإخوة في الجزائر، لكن مباشرة بعد استقلال الجزائر، قامت قيادتها بضم الصحراء الشرقية التي انتزعت من المغرب، خارقة بذلك عهودها والتزاماتها المتضمنة في اتفاقية 6 يوليوز 1961، التي وقعتها الحكومة المغربية مع الحكومة الجزائرية المؤقتة، وتنص على مغربية الصحراء الشرقية، وسيتطور الصراع في ما بعد ليصل إلى حرب مسلحة عرفت ب»حرب الرمال»، قبل أن يدعو الملك الراحل الحسن الثاني جيشه للانسحاب، رغم تحقيقه انتصارا كاسحا على نظيره الجزائري، لأنه لم يكن مقتنعا أن هذا النصر سيحقق السلم بين البلدين، ويختار سبيل «التفاوض العسير مع جيرانه»، كما سماه بنفسه في كتابه «ذاكرة ملك».
في خضم احتقان العلاقات المغربية الجزائرية، برز نجم الجنرال محمد أوفقير باعتباره المسؤول الأول من الجانب المغربي عن قيادة المفاوضات مع الجزائر، وكانت كل الدلائل تشير إلى قرب انتهاء الأزمة بين الطرفين، خاصة مع الاتفاق على توقيع اتفاقية الحدود بين البلدين عام 1972 في إفران، قبل أن تدخل العلاقات بين الجارين منعطفا جديدا بفشل محاولة انقلاب أوفقير على الحسن الثاني في 16 غشت 1972، حيث تعمقت الأزمة أكثر، وألغيت كل الاتفاقيات التي كانت موضوعة للنقاش، وظهرت إلى الوجود جبهة «البوليساريو» بدعم جزائري كامل.
البحث في الأسباب التي قادت الجزائر إلى تبني سياسات معادية للمغرب، بمجرد فشل محاولة الانقلاب الثانية على نظام حكم الحسن الثاني، يقود إلى الخوض في العلاقة غير العادية التي كانت تجمع أوفقير بحكام الجزائر، والتي تداخل فيها الشخصي بالسياسي، وسبقت فيها المصلحة الشخصية المصالح العامة.
علاقة «مشبوهة»
أول مؤشرات العلاقة غير العادية بين أوفقير وحكام الجزائر آنذاك هو تلك الزيارة الخاصة لمبعوث من الرئيس الجزائري هواري بومدين لأرملته (فاطمة أوفقير) مباشرة بعد موته، وعرضه عليها الانتقال للعيش في الجزائر، كما كشف عن ذلك ابنه «رؤوف» في كتابه «20 عاما في سجون الملك» (صدر في باريس سنة 2003)، ومما جاء في الكتاب: «سيدتي، لقد أتيت لأنقل إليكم التعازي الصادقة للرئيس بومدين. إنه يؤكد لكم صداقته ودعمه. علاقاته مع زوجك كانت تتجاوز الإطار السياسي. نهجه هذا من باب شخصي وعاطفي، ويخبركم الرئيس أن الجزائر مفتوحة لكم، وإذا كنتم ترغبون بذلك فالمنزل وجميع الموارد اللازمة ستكون متاحة لكم». المعنية بالأمر كانت قد أكدت خبر تلقيها تعازي الرئيس بومدين في موت زوجها، حينما قالت في كتابها «حدائق الملك» (صدر سنة 2000): «كان هواري بومدين قد قدم لي تعازيه رسميا، مما أثار غضب الحسن الثاني».
ثاني المؤشرات أن أوفقير كان المهندس الرئيسي للتقارب بين الحسن الثاني وهواري بومدين بعد حرب الرمال في أكتوبر 1963، وتوقيع عدد من المعاهدات التي كانت تبشر بمستقبل مشرق للسلام والازدهار بين البلدين، وقد كانت تجمعه، وفق مصادر تاريخية، علاقة خاصة بالرئيس بومدين وعدد من رجاله الأقوياء، في مقدمتهم أحمد المدغري، وزير الداخلية، وعبد الله شابو، الكاتب العام للرئاسة الجزائرية الذي كان رفيقه في حرب الهند الصينية.
علاقة أوفقير بقادة الجزائر لم تثر الريبة إلا بعد تنفيذ الانقلاب الفاشل، حيث بدأ كثيرون يشككون في تحركاته ويعتبرون أنها لم تكن بدافع وطني محض، وإنما بهدف نيل دعم جزائري بعد نجاح الانقلاب. من أهم الشخصيات التي دافعت عن هذا الطرح المؤرخ المغربي محمد المعزوزي، الذي شغل وظائف سامية متعددة في وزارة الداخلية، وكان ضمن الوفد المفاوض للجزائر حول الحدود، والذي دون في أحد مؤلفاته: «استقلت الجزائر بعد نضال مشترك، وحدث ما لم يكن في الحسبان: التنكر لاتفاقية 1961 التي كانت قائمة على الثقة... فوجد المغرب نفسه في مواجهة عنيفة مع الهيمنة الجزائرية..، واختار كل طرق السلم مع كل التنازلات الممكنة، إلى غاية اتفاقية 1972... هذه الاتفاقية.. لعب فيها أوفقير دورا مشؤوما، وقد كان رهانه مركزا على تصفية الحدود لصالح الجزائر».
ومما ذكره المعزوزي، في مؤلفه «نصف قرن من أجل الأمن الحدودي-أوفقير وما تحت الخط الحدودي ل 15يونيو 1972»، أن أوفقير «كان يسعى إلى إنهاء جميع الملفات الحدودية، لكي يضمن مساندة ودعم الجزائر في حركته الانقلابية».
مؤشر آخر يزكي فرضية وجود علاقة مشبوهة بين أوفقير والجزائر بلغت حد التآمر ضد نظام الحكم في المملكة، أن الحسن الثاني أدرك –وإن كان متأخرا- أن الرحلات العديدة التي كان يقوم بها وزيره في الدفاع وكاتم سره أوفقير إلى الجزائر لم تكن لحل مشكلة الصحراء المغربية فقط، لذلك سارع إلى اتخاذ حزمة من القرارات التي كشفت عن غضبه الشديد من التدخل الجزائري، أبرزها إغلاق الحدود الشرقية، ووضع أفراد أسرة أوفقير في الاعتقال السري يوم 24 دجنبر 1972، ولمدة 19 سنة.
الانتقام الكبير
موت أوفقير واختفاء عائلته تسبب في تعطش حكام الجزائر للانتقام من المغرب، فكانت النتيجة هي تدهور حاد في العلاقات بين البلدين وميلاد جبهة «البوليساريو» في ماي 1973، ودفن وعد «بومدين» بمساعدة المغرب على استرداد صحرائه الغربية مقابل معاهدة الحدود في قبر «أوفقير».
أكثر من ذلك، تناسلت روايات عن محاولة جزائرية لترحيل أسرة أوفقير المحتجزة إلى الجزائر، حيث أفادت مصادر أن الجنرال مولاي حفيظ العلوي، وزير القصور والتشريفات الملكية آنذاك، والذي كان يتوصل ببرقية إخبارية يوميا عن الأسرة المحتجزة، تلقى في أحد أيام سنة 1973 معلومات عن محاولة المخابرات الجزائرية القيام بعملية تهريب عائلة أوفقير من المغرب، وقيل إن الخطة تكلف بتنفيذها جزائريون جاؤوا للمشاركة في مسابقة للتزلج على الجليد بمنحدرات «أوكايمدن»، فتم إصدار قرار بترحيل عائلة أوفقير من مكان احتجازها بأسا إلى بير الجديد.
هذه الرواية أكدتها فاطمة أوفقير في مذكراتها بقولها: «بتاريخ 28 أبريل 1973، رحلنا بشكل مستعجل عن أسا.. هل ارتاعوا من عملية كان يقوم بها الجزائريون لاختطافنا؟... وراجت شائعة عن إرسال الرئيس الجزائري مغاوير لاختطافنا.. في ذلك الوقت لم أصدق أبدا القيل والقال، لكن صحة الشائعات أكدت لي بعد ذلك بسنوات من قبل مقربين من الحكومة الجزائرية، فالرئيس لم ينس ما فعلته أنا وأوفقير من أجل استقلال بلاده سواء بإرسال الأسلحة إلى الثوار أو باستقبال المجاهدين الجزائريين لدينا، وقد عرض بومدين على ملك المغرب أن يظلنا بحمايته الشخصية».
يتضح من خلال ما سبق أن هوة الخلاف بين البلدين الجارين أصبحت أكثر اتساعا بعد فشل انقلاب أوفقير، فعلى الجانب المغربي صدر ظهير 2 مارس 1973، الذي ينص على «مغربية ممتلكات الأجانب»، والذي كان المستهدف منه المباني والشركات والأراضي التي تعود أساسا إلى الجزائريين.
ومن الجانب الجزائري، أمر الرئيس هواري بومدين بالطرد التعسفي لآلاف الأسر المغربية وتدمير ممتلكاتهم في عام 1975، وأعلن النظام الجزائري دعمه الكامل لجبهة «البوليساريو»، وفي 7 مارس 1976، تم كسر العلاقات الدبلوماسية وإغلاق الحدود، ولن يعاد فتحها إلا بعد مرور 12 عاما في عام 1988 مع استعادة الروابط الجوية وإلغاء التأشيرات، ولكن لم يستمر ذلك لفترة طويلة، حيث قررت الجزائر إقفال حدودها مع المغرب في غشت 1994 وإعادة تأشيرات الدخول.
وما هو مؤكد اليوم أن الجانب الجزائري مازال عاجزا عن قلب صفحة الماضي، وعلى الرغم من مرور حوالي نصف قرن على فشل انقلاب أوفقير مازالت العلاقات بين البلدين توصف ب»المتوترة» في أقل الأحوال، ومازال قادة الجزائر من السباقين إلى قول «لا» كلما ذكر ملف فتح الحدود، دون تقديم أسباب مقنعة تبرر رفضهم المتعنت، حتى إن نور الدين الزرهوني، وزير الداخلية الجزائري السابق، لم يجد حرجا في الرد على سؤال لصحافي حول فتح الحدود مع المغرب بالقول: «هل تريدنا أن نفتح الحدود كي تجعل الجزائر المغرب يستفيد من عائد سياحي بقيمة 2 مليار دولار؟».
وإذا لم يكن مثل هذا الجواب نابعا من حقد دفين لا يجد له أي مبرر حقيقي، فماذا يكون؟