لقد ساد استعمال مفهوم الشعبوية في كل المنابر الإعلامية، ليشمل العالمين الشمالي والجنوبي، لتجد المؤسسات نفسها، على مستوى الدول القطرية، منغمسة في منطق انتهازي برواد جدد، اغتنموا فرصة وصول مسار الحداثة الغربية إلى مرحلة الإشباع والاحتضار، ليتعمدوا، بإصرار وترصد، المسك بحبل المغامرة بكل ما لديهم من قوة، ودفع السياسة للانزلاق في منحدر خطير. إنه المنحدر الذي سهل مأمورية الشعبويين في استغلال مرحلة التفاهة والفردانية وتغليب ثقافة القول على الفعل في مجتمعات العالم. إن سيطرة هذه النفحات الجديدة على نفوس روادها، وتغليب النوازع الذاتية على الموضوعية، مكنهم من حجب النقاش الفكري والفلسفي في مجالات السياسة والثقافة والاقتصاد. إن الركوب على فكرة "الديمقراطية كمرادف لسلطة الشعب، وحكم الشعب بالشعب ولصالح الشعب"، شكل منعطفا تاريخيا في الحضارة البشرية، حول انكسارات الأفراد والجماعات، ورفضهم للتراجعات في مختلف المجالات، خاصة المعيشية منها، إلى زاد دسم في خدمة الشعبوية الخطابية، زاد وفر لها كل إمكانيات السيطرة والاستيلاء على السلطة في عدد كبير من الدول. إن ترويج روادها لكون رؤية الشعب في كل المناسبات والقضايا تكون دائما على حق، ولو في وضعيات التذمر والانكماش، خلق نوع من التهميش للنخب، وفاقم من حدة الحرب التي تم إشعالها عن قصد، للنيل من التفكير والقراءة والتحليل العقلاني والقيم الإنسانية المرتبطة بها. لقد ساد الانطباع وكأن أغلبية الشعوب أصبحت مناوئة (أو مبتعدة كل البعد)، بشكل مباشر أو غير مباشر، لنخب المعرفة، والتكنوقراط، ونخب السلطة، ونخب المال، والبنكيين، والمثقفين، والمفكرين، والمقاولين، ورؤساء الشركات والمؤسسات الإنتاجية،..... لقد نجح الشعبويون إلى حد ما في تحويل "الديمقراطية" إلى سلطوية ضد النخب الوطنية، وإلى آلية لتكريس كراهية الشعوب الأخرى (محاربة الهجرة). وعليه، فحالة التيه التي تزداد استفحالا، أصبحت اليوم تفرض تحركا مستعجلا على المستويين العالمي والوطني، وبذل الجهود المطلوبة من أجل إعادة بناء علاقة وثقى جديدة، كما كان في السابق، ما بين الديمقراطية كنظام سياسي والرأي العام العارف والواعي والطامح باستمرار في التطور الفكري والفلسفي والمادي والروحي. إنه وضع مخيف ومرحلة تاريخية استثنائية مرتبكة جعلا من تأسيس كرسي عبد الله العروي بجامعة محمد الخامس للآداب والعلوم الإنسانية، بتعاون مع رئاسة المعهد العربي بباريس، ذا دلالة كبرى. لقد أبرز هذا المفكر الهرم صعوبة مسار التحديث في المجتمع المغربي بشكل خاص، وفي العالم العربي بشكل عام. ففي مدخل كلمته عبر عن الصعوبات التي واجهته في مساره الأكاديمي، بالرغم من حرصه الدائم التمييز ما بين واجبه كموظف عمومي في خدمة الدولة المغربية والمجتمع كأستاذ لمادة التاريخ، وعمله كمفكر يتعاطى للنقد الإيديولوجي كما يتعاطى غيره لنظم الشعر وحل ألغاز الرياضيات. لقد كانت عبارته "أفكار أقل ما يقال عنها خلافية"، وهو يتحدث عن ثروته الفكرية وتفاعلاته الأكاديمية، ذات دلالة معبرة عن الواقع المؤسساتي والمجتمعي ببلادنا في تعاطيه مع مساعي التحديث الثقافي. لقد دعا هذا الهرم المغربي إلى تحويل هذا الكرسي، الذي أسماه "كرسي للترجمة والتأويل"، إلى مجال للتباحث والتدارس ومناقشة مفاهيم وإشكالات مرتبطة بالسنوات الأخيرة، فضاء يوفر الوثائق والمستندات والمراجع التي تساعد على تحديد وتوضيح وتقييم التحليلات والنظريات التي تقدم بها في ظروفها وحدودها. إنها التحليلات المرتبطة بالتاريخ، والتطور والجمود، والتقدم والتخلف، والاستمرارية والقطيعة، والعقلانية واللاعقلانية، والاستقلال والتبعية، واللغة واللهجة، والدولة والفوضى، والثقافة والفولكلور،.....إلخ. خلاصة: إن ما يعرفه عالم اليوم من تيه وغموض في زمن موت الحداثة غربيا، واختناقها المتكرر عربيا في بداية عهدها، يستدعي العودة مجددا إلى التفكير والتمحيص في المجالات التي ذكرها الأستاذ العروي أعلاه، تمحيص يستحضر أهمية النقل والترجمة والتأويل والتفكير، وتجرى تفاعلاته في إطار واسع ومتسع تتكامل فيه اختصاصات شتى من تاريخ، واقتصاد، واجتماع، ولغة، وتحديد للمفاهيم، وتجديد للأساليب البيانية. إنه السبيل المتبقي والمنقذ لمسلسل تفاقم تفكك الدولة الوطنية وسلب فعاليتها ونفوذها وسيادتها، والحيلولة دون وقوع الشعوب العربية في الوضع الاضطراري للاستسلام لانحلال الدولة القومية، والخضوع لسلطة القبيلة، والمذاهب المنغلقة والمتعصبة، والفيدراليات الهشة.