شهد افتتاح كرسي الأستاذ محمد العروي بجامعة محمد الخامس بالرباط يوم الأربعاء 2020/01/08؛ فرصة للقاء محبيه وطلابه ونقاده وجيل جديد من الشباب الطامح إلى الحرية والإبداع الفكريين والذين اكتظت بهم جنبات مدرج ابن خلدون؛ كما شكل مناسبة تموضع فيها العروي موضع منتقديه حين وجه سيلا من الأسئلة إلى فلسفته وواقعيته ومفاهيمه حول الكونية والدولة القومية وأطروحاته حول التاريخانية والتي ترتكز على هذا المفهوم ومفاهيم أخرى ؛لقد استبق العروي باب التساؤلات التي افترض أن الواقع اليوم يمليها على بحوثه وكتاباته التي ارتبطت بإشكالات قد يبدو لوهلة أنها لم تعد موجودة أو لم تعد لها نفس الراهنية والأولوية الفكرية التي يجب أن تحظى بها في زمننا هذا؛ أم أنها كما يقول الأستاذ العروي تحتاج إلى تمحيص وإعادة تجديد المفاهيم والأساليب . فما جدوى الغوص الفكري والإطناب في الحديث عن الكونية والقومية؛ أمام حالة الرفض واللااقتناعهذه؟ هل هو اللا دولة؟ أم أن الانتماء اليوم إنما هو للعرق؛ والمستقبل للدولة القبلية والفدراليات الهشة؟ ولماذا كل هذا الثناء – من التاريخاني الذي دعا إلى القطيعة الكبرى – على ابن خلدون وصرح عمرانهوالجانب البراغماتي من فكره مقابل طوباوية الفقهاء؟ أليست الثورة التدوينية التي أومأ إليها هي نفسها التي يرجع العروي تأخر المتأخرين لوقوفهم عندها؟ولم يربط استعداد الاسيويين وتهيئتهم للنجاح بامتلاك الة النسخ؟ ما مدى صحة هذه الأطروحات؟ وحتى لو صحت، ما أهمية الحديث عن المكتوب في ظل عودة الشفوي متمثلا اليوم في الثورة التكنولوجية وما أبدعته من وسائل واليات للتواصل والتعبير التي تفضل الموهوم على الموجود والمحسوس على الملموس، ضاربة عرض الحائط بالواقعية معلنة غزو عالمها الافتراضي الذي لا يستطيع غير الحداثي أن يتصوره، فكيف بالمبتلى بالأمية الورقية والرقمية؟ أليس هذه الأسئلة وغيرها من الإشكالات الفكرية والفلسفية التي أحاط بها الأستاذ العروي؛ كأنما يقرأ أفكار من يجلسون ومن لا يجلسون أمامه في تناظر ذهني صامت لا يتكشف إلا في شكل استفزاز فكري يعد بمواكبة فكرية لإشكالات اليوم والتي تولدت بشكل أو بأخر في إطار الدولة الوطنية والإنتاج الصناعي والعقلانية الواقعيةكما يعد بمزيد من النقاش في أروقة المؤسسات العلمية والفكرية عامة وفي كرسي الأستاذ عبد الله العروي خاصة؛ وهو الكرسي الذي اقترح له صاحبه كعنوان “كرسي للترجمة والتأويل” بعد أن أفاض القول في الترجمة وصعوبتها وخطورتها وقابليتها الحتمية للتأويل، باعتباره مرحلة عقلية سابقة لنقل اللغة ،تتجلى خطورتهفي النقاش الفكري الذي يحوم حوله ويتولد عن نتائجه وفي الفلسفات التي تنبني على المفاهيم التي تمخض عنها؛ وضرب العروي أمثله عديدة في التجربة الفلسفية الإنسانية عامة والمغربية خاصة لذلك الانحراف الفكري الذي ينتج عن سوء تأويل ناتج عن ترجمة خاطئة ولذلك السبب وصلت الفلسفة الإغريقية إلى المفكرين المسلمين بشكل معيب، نتج عنه في كثير من الأحيان نقاش معيب وعقيم لأفكار نسبت لفلاسفة ولم تكن هي بالضرورة أفكارهم وما كانوا يقصدون . من هنا جاء خطأ المخطئين الكبير ماضيا وحاضرا، كما يقول الأستاذ العروي، حين توقفوا على ترجمات وحيدة وقديمة وشرعوا في بناء وتفسير ونقد الأقوال والعلوم والأنساق الفكرية دون أن يكلفوا أنفسهم عناء إعادة ترجمتها بشكل يراعي التغيرات اللغوية والفكرية والأنساق الزمنية والفكرية التي أنجبتها، وقد ضرب لذلك أمثلة متنوعة كما أن اختلاف الترجمات يعني بالضرورة اختلاف التأويلات المحتملة للنسق الفكري المنقول من لغة إلى لغة أخرى ،هكذا ستختلف تأويلات كتب العروي مثلا باختلاف وتنوع ترجمات كتبه التي استعصى فهم مضامينها على الكثيرين مما اعتمدوا احتمالا تأويليا وحيدا. إن ما يدعونا إليه العروي كباحثين ومهتمين هو الاقبال بنهم على إعادة ترجمة الفكر وإيجاد الوجوه المحتملة الأخرى للقول والمنقول لتوسيع وإغناء النقاش الفكري كي لا نجد أنفسنا غارقين في نقاشات عقيمة وسطحية؛ هنا يلامس العروي بواقعيته وبعمق أحد أهم شواغل اليوم وإشكالاته عندما أعاد للأذهان أزمة الاختيارات اللغوية بمنظومة التربية والتعليم والتكوين، وحرص البعض على ضرورة التدريس باللغة الأم التي شكلت الدارجة إحدى أشكالها ،ومذكرا في الان نفسه بالنقاش والجدل الذي أفرزته والذي انبنى على ترجمة واحدة وبالتالي تأويل وحيد لكلمة « courant » بكلمة “دارجة”عوض التوسع والانفتاح على ترجمات أخرى أصح وأبلغ للمعنى مثل “لغة العوام ” مثلا كما كان يسميها قدماء النحاة ،مما حاد بالنقاش عن مساره الصحيح بحيث غاص في الضبابيات والنوايا الإيديولوجية عوض أن يتوسع في الترجمات التي تلد التأويلات المختلفة وبالتالي الأفكار المختلفة والأكثر تعبيرا عن المقصود . إن افتتاح كرسي الأديب والمؤرخ والمفكر عبد الله العروي يعد فرصة وحظوة كبيرين للمفكرين لإعادة النظر في الترجمات وتجديدها كل حين وحين باعتبارها عملية متواصلة ومتجددة وتقتضي التمعن والتفكير وبالتالي التأويلات المحتملة والقريبةمن المعنى المقصود دون انحراف عن المقصود إلى اللا مقصود والإغراق والتطرف فيه. جاري النشر… شكرا على التعليق, سيتم النشر بعد المراجعة خطأ في إرسال التعليق المرجو إعادة المحاولة