الحاجة إلى العروي، اليوم، هي نفسها الحاجة إلى الفكر التنويري الحداثي، المُتجدِّد. فكر النقد والمراجعة الدائبة للمُسَلَّمات، ولكل الثوابت التي أصبحت نوعاً من اليقين الرَّاسِخ. فالعروي مفكر مفتوح على الكون، بالمعنى الذي يجعل من الكونية هنا، تعبيراً عن هذا «التقدم» المستمر، الذي لا أفق له، سوى أفق الصيرورة ذاتها، أي ذلك الماء الذي لا يستقر على حال، ويُغيِّر، ليس مجراه فقط، بل يُغَيِّر طَعْمَه أيضاً. حين قرأتُ العروي، عن طريق درس الفلسفة، في أواخر السبعينيات، حين كانت الفلسفة درساً للدهشة، والمعرفة المفتوحة على مجهولات السؤال والتَّقَصِّي، أثارني، خصوصاً في كتابه، الذي ذهَبْتُ إليه دون تردُّد «الأيديولوجية العربية المعاصرة»، بما فيه من جرأة في التحليل، وفي ابتداع النَّظر، وفي ذلك القلق الذي أصبح وسواساً يرافقني في كل ما أراه، وأقرأه، وأكتبه، وأفكر فيه. بمعنى أنَّ العروي، الذي أصبحتُ مواظباً على قراءته، كغيره من المفكرين العرب، وغير العرب، ممن يبتكرون في المفاهيم، وفي الأسئلة، وفي التعامُل مع المناهج بنوع من الإضافة والاختراق، لا بنوع من الاستعادة والتكرار، فتح لي طريق المعرفة النقدية، التي لا تسكن في بيتٍ واحد، أو تُقيم فيه إلى الأبد، وكأنَّه قبرٌ لا تحيا الروح إلا به وفيه، وساعدني، دون علمه، طبعاً، في أن أُعيد العودة إلى التراث، وإلى التاريخ الذي درستْه في جامعة بغداد، وخصوصاً التاريخ القديم، لكن من منظورٍ جديد وحديث. اليوم، وفي ضوء هذه الضوضاء الكبيرة التي تحيط بنا، وفي ظل هذا اللغط العقائدي، الذي تلبَّس بالدِّين، وفي ظل هيمنة فكر «الدّاعية» و «الخبير»، و«الإعلامي» على الفكر المُتأني، القلِق، المُتسائل، المُتَحَفِّز، وفي ظل انتشار، وهيمنة فكر، وضحالة ما يخرج من المواقع الإلكترونية، والوسائط الحديثة للتواصل الاجتماعي و«الثقافي»، نحن في حاجة لفكر العروي، ليس باعتباره شخصاً، واحدا، ومفرداً، هو العروي ذاته، دون غيره، بل باعتباره فكراً جامعاً، ورؤية مُجَدِّدَةً، مليئة بالمفاجئ، وبما يحتاج، دائماً، إلى يقظة قارئه، وإلى تحيين المعارف، وأدوات القراءة، وتجديد النظر، بما في ذلك ما كان منتشراً، وسائداً من مفاهيم، ليس في مجال التاريخ، الذي هو الأرض التي منها يأتينا العروي دائما، بل في السوسيولوجيا، والفلسفة، والسياسة، والدين، وحتَّى القضايا الثقافية الكبرى. كنتُ بين الذين دخلوا صراع المواجهة مع الفرنكفونيين من دُعاة التدريس بالعامية، وتحويلها إلى لغة لحياتنا، وفكرنا، وثقافتنا، وحين دخل الفاسي الفهري، وعبد الله العروي، في هذه المعركة، بالذات، على الخط، اعتبرتُ نفسي منتصراً، لأنَّ هؤلاء تعلَّمْنا على أيديهم أن نكون أمة لها لغة ووطن وثقافة، ولها لسان، به تواجه هذا المد التغريبي، الذي لا يقل في تَطَرُّفِه عن التطرُّف الديني، لأن الذين خاضوه، سَعَوْا إلى إفرغنا من كلامنا، ومن ثقافتنا، ومن ذواتنا، ومن كل هذا التاريخ، الذي ظل العروي يخوضه، بحثاً، ونقداً، ومراجعةً، وحياةً. نحتاج اليوم إلى العروي، بقدر حاجتنا إلى اختبار ذواتنا، وإلى مراجعة الكثير من المفاهيم التي توقَّفت عن العمل، وأيضاً إلى نوع من النقد الذاتي إزاء ما حدث من أخطاء، ومن انتصار السلطوي المخزني على حساب المعرفي. فما نراه من ابتذال للفلسفة، ومن ابتذال للمعرفة والثقافة، مقابل خطاب سياسي ضَحْل وسخيف، وسياسيين بلا بُعد نظر، بتعبير سقراط، هو تعبير عن إخفاء صوت العروي، وإبعاد الفكر التنويري وحَجْبِه، مقابل الفكر الماضوي، الذي أصبحت الفضائيات تلعب دوراً خطيراً في إنتاجه بصورة فَجَّة، تنتصر فيها للتسطيح، ولفكر الجواب الحاسم والقاطع، لا شك، لا ارتياب، كل شيء انتهى، من يسأل جاحِد، ومن يجيب هو العارف، وهو «الخبير». لا معنى لمثل هذا الفكر المغلق، المُنتهي، الذي لا أفق له، أو هو مثل غرفة مغلقة، لا نوافذ ولا أبواب لها، ويَعْتَبِر من يُقيم فيها أن الكون مظلم كله، والضوء هو هذا الظلام، لا غيره. في هذا العمل، الذي أعده الصديق الناقد والباحث محمد الداهي، والذي سيصدر، لأول مرة، بمناسبة العرض الدولي للكتاب، نستحضر، مفكراً، من قرأ عليه صلاة الجنازة بالأمس، لم يتبيَّن أنه، ربما قرأها على قبرٍ عارٍ، لا على قبر العروي الذي ما زال حيّاً يُرزق، لأن مفكراً حياته في فكره الحي، الحر، المُتجدد، لا يمكنه أن يموت بهذا النوع من الطيش العابر، فهو لا يفتأ يُعيد قراءة نفسه بنفسه، قبل أن يقرأه غيره، وهذه خصال المفكرين الذين اختاروا المستقبل، لأنه من هذا المستقبل يأتون، لا من حاضر، أو معاصرة، هي «حِجاب» بتعبير صاحب «خزانة الأدب». العروي هو من فتح عيني على الحداثة وعلى ثقافة العصر محمد الداهي حفزتني الحلقات الطلابية، التي كانت تتنافس فيها مختلف التيارات التقدمية المنضوية تحت لواء اتحاد طلبة المغرب لعرض وجهات نظرها مما يحدث داخل الجامعة وخارجها، على قراءة مؤلفات عبد الله العروي لأنني وجدت فيها ما يشفي غليلي لمحاجة الطروحات التبريرية والجاهزة التي تتعالي على الواقع عوض فهمه وتحليله ونقده. كانت أفكار عبد الله العروي، حينئذ، مرفوضة من لدن التيارات الطلابية المهيمنة لمراهنة أنصارها على «اشتراكية علمية» بوصفها حقيقة ثابتة صالحة لكل زمان ومكان. وتبين لمعظمهم مع مرور الوقت أنهم كانوا حبيسي أيديولوجية صرفتهم عن تمثل الفكر الماركسي في شموليته وجدليته من جهة، وعن التعامل مع الواقع وفق خصوصيته الثقافية وحركيته التاريخية من جهة ثانية. اكتسبت في هذه المرحلة من تكويني الجامعي (منتصف الثمانينيات) بعض العناصر الثقافية التي نمت مداركي ووسعت رؤيتي للعالم وفتحت عيني على الحداثة، باعتبارها محطة أساسية لاستيعاب ثقافة العصر والوعي بعوائق التحديث والتقدم واستخلاص العبر المناسبة من الأمم التي تغلبت على التأخر التاريخي. ومما كان له أثر إيجابي على مساري التعليمي والثقافي أذكر أساسا: التحلي بوعي نقدي إزاء ما تقرأ من أفكار وأشكال تعبيرية، تعزيز الحوار البناء بين الذات والآخر بهدف الوصول إلى نظرة إنسانية شمولية، استيعاب الليبرالية سعيا إلى دمقرطة الدولة والمجتمع على حد سواء، التفاعل إيجابا مع العقل الكوني لتقويض ما يترتب عن الاستعراب والاستغراب من ظواهر الاجترار والتكرار والانتقائية والاختزال. لم يبعنا عبد الله العروي الوهم لدغدغة مشاعرنا وأهوائنا بأفكار طوباوية ومثالية. قدم لنا أدوات منهجية جديدة لفهم الذات والآخر في سيرورة تفاعلهما وتحاورهما وتجاذبهما، والمراهنة على الرقي السياسي والنمو الاقتصادي. عرف العالم العربي، منذ صدور «الأيديولوجية العربية المعاصرة» سنة 1967 إلى اليوم، جملة من الأحداث الصاخبة والمفاجئة التي أثارت من جديد مسؤولية المثقف بعد انسحابه من الفضاءات العمومية وتخليه عن دوره الثقافي والسياسي الملتزم. لكن عبد الله العروي اتخذ مسافة نقدية حيال ما يقع حرصا منه على عدم الانفعال به أو التسرع في مجاراة إيقاعه وإبداء الرأي بصدده. فهو ينطلق من تحليل شمولي لا يتأثر بالجزئيات والأحوال المفردة. وبينت التجارب المتلاحقة مدى سداد رأيه وملاءمة تحليله التركيبي دفاعا عن الحداثة لمقاومة الفكر السلفي المتحجر، الذي يعاكس روح العصر ويحول دون تحديث المؤسسات الاجتماعية والثقافية، وإلحاحا على تدارك التأخر التاريخي باستيعاب دروس وعبر من تجارب مختلف الأمم والتسلح بمبادئ الفكر التاريخي (صيرورة الحقيقة، إيجابية الحدث التاريخي، تسلسل الأحداث، مسؤولية الأفراد) والتاريخانية (حتمية المراحل التاريخية، وحدة الاتجاه، إمكانية اقتباس الثقافة، دور المثقف والسياسي في اقتصاد الزمن)، وتطلعا إلى ثورة ثقافية تعزز لدى الفرد العربي قدرات من قبيل النقد والحوار والانفتاح والإنتاج. تعسف نقاد، في مرحلة معينة، على أعمال العروي التخييلية بدعوى أنها صدى لتنظيراته أو نسخة مطابقة لها. لكن اتضح لهم فيما بعد أنه اضطر إلى الجنس الروائي اضطرارا منذ مرحلة مبكرة من تكوينه الثقافي سعيا إلى فهم ذاته والآخر في تفاعلهما وتجاذبهما مع الواقع دون حسيب أو رقيب. يتحرر من منطلقاته وفرضياته الفلسفية لمعاودة النظر فيما تراكم في وجدانه وسريرته من قضايا ومشاعر متناقضة ومتضاربة، والسعي إلى إعادة تركيبها في قوالب تخييلية بحثا عن منطقها الداخلي. راكم عبد الله العروي تجربة روائية من حيث الكم والكيف، ولم تثنه التزاماته الفكرية والمهنية المضنية عن تخصيص حيز من وقته الثمين لقراءة الرواية وتأليفها. وهو، في المواءمة بين الفكر والإبداع، يبدو واعيا بالصنعة الروائية، وحريصا على رؤية الواقع تارة بما يمليه عليه عقله، وتارة أخرى بما تهجس به طويته. الذاكرة من منظور إشكالي محمد برادة يتبيّنَ من تحليل بناء «اليتيم» ومكونات نسيجها أن اللافت في كتابتها هو الاحتفاء بالذاكرة واللجوء إليها وإلى إوالياتها في تمثيل العالم الخارجي، وأيضا، وبصفةٍ أخص، عند استحضار ما أصبح في عداد الماضي. من هنا، أميل إلى القول بأن «اليتيم»، قبل أن تكون نصا يحرص على التقاط تحولات الواقع والمظاهر الطارئة على المشهد البصري والسلوكي، هي في العمق كتابة لذاكرةِ إدريس ضمن سياق معين، ومن منظور يتعدى منظور الواقعية الجديدة، الذي اعتمدنا عليه في قراءتنا السابقة لهذه الرواية حين صدورها (1978). وأنا هنا أميز بين الكتابتيْن، لأن كتابة الذاكرة تحرر الكاتب من المحاكاة وتنويعاتها، وتعيد الاعتبار للذاكرة بوصفها عنصرا جوهريا ملازما للتخييل ومُغنيا له. أنْ نكتب الذاكرة، أي أن نحرر الإبداع من التقيّد الحرْفيّ بالواقع وبمسار الأزمنة المتعاقبة. ومن ثم، يغدو الماضي مَقفزا لإضاءة الحاضر واستيعاب تلاوين الوعي وتدرجاته... وفي «اليتيم» نجد أن كتابة الذاكرة تبرز من خلال تجليَيْن اثنيْن: عندما يستحضر إدريس أيام الطفولة والمراهقة في بلدة الصديقية، أو عندما زار مدام جرمان في باريس واستقبلتْه وصيفتُها طامو مع بقية الطلاب؛ والتجلي الثاني، عندما يصف إدريس التغيّر الطارئ على المشهد المعماري في البيضاء، وعندما يسترجع مع مارية ذكريات صداقته مع جليل الذي غدا نموذجا لرجل أعمال ليبرالي، أو حمدون الذي بنى مشروعا فلاحيا اعتمادا على الكدّ والمثابرة، أو المدرس الذي ترشح للانتخابات بمساندة السلطات العمومية...في هذا التجلي الثاني، يختلط الماضي بالحاضر وتبرز ملامح التحول عبر ذاكرة إدريس، وعبر ما يشاهده الآن مع مارية. لكن هناك فقرات في الرواية يتحدث فيها إدريس عن ذاكرة محتملة كان يتمنى لو أن وقائعها حدثت في الملموس ولم تبق رهْنَ المأمول والمُتمنّى، على نحو ما نطالعه وهو يتحدث عن مدينة البندقية التي لم يزرها، ويتخيل زيارة لها صحبة مارية التي غادرته إلى أمريكا وتركته سادرا في «غُربته»: «..أستنشق رائحة الماضي، أستلذ طعم الماضي بعد خمس عشرة سنة. لنترك المتاحف وماكريت. لنطْوِ ما قرأنا في دليل السواح. إننا في البندقية بعد خمسة عشر عاما من التنقيب عن حقوقنا الضائعة، لنلجأ إلى غرفة الفندق، نوصد النوافذ ونُفرغ ما في قلبيْنا وعقليْنا من حزن وشجىً، من مرارة وندم على ما وقع وما لم يقع، ونكتب كلمة النهاية في صفحة بيضاء نجعلها هي الأخيرة رغما عن القدر الجائر. غدا يذهب كل منا إلى حال سبيله متحررا من أغلال الذكرى، متصالحا مع نفسه ومع الزمن» (ص:35). لا شك أن هذه الذكريات المتخيلة التي لم تقع، تضيف إلى فسحة الكتابة وإلى انطلاق المخيلة. وفي اتصال مع كتابة الذاكرة المُميزة لرواية «اليتيم»، نشير إلى دور الميتا- نصّ أو النصّ الموازي، الذي يضطلع بوظيفتيْن: الأولى، متصلة بانتقاد الكتابة التي تنجرّ نحو اللغة الفضفاضة والقفز على العالم الخارجي وعلى الطبيعة وتفاصيلها: «أليس من الغريب أن يكون رائد الأدب العربي المعاصر أعمى، وأن يكون أحد كبار العصر الكلاسيكي أيضا أعمى - قد تكون صدفة – وقد تكون إشارة إلى حقيقة دائمة، وهي أن الأديب العربي غير مطالب بالاطلاع على العالم الخارجي، وحسبه الانغماس في اللغة» (ص: 57). والوظيفة الثانية تتمثل في وجود إحالات وإشارات كثيرة إلى أحداث وكتب وشخصيات يكتفي الكاتب بالإشارة إليها دون أن يدمجها في صلب السرد، ما يضطره إلى أن يضيف في نهاية الرواية هوامش وفهرسا للكلمات العامية. بعبارة ثانية، امتلاء الذاكرة واستثمارها في رسم الشخوص والأجواء والمشاهد، هو من الغزارة لدرجة أن هذه النصوص الموازية تكوّن شبكة ذاكرتية تتداخل وتتقاطع، تجعل المؤلف يوضح بعض الأحداث والمواقف بالإحالة على مقاطع أو مشاهد وردت في إحدى رواياته الأخرى. ونجد أن رواية «أوراق: سيرة إدريس الذهنية»(1989)، تأخذ حيزا مهما في توضيح ما وَََرد َ مختصرا، تلميحيا، في رواية «اليتيم». هذه الشبكة الميتا-نصيّة تشمل الروايات الأربع الأولى. للعروي «الغربة»، «اليتيم»، «الفريق»، «أوراق»؛ لأنها تشترك في موضوع جوهري يشغل بال الكاتب ويقضّ مضجعه، هو محاولة فهم علاقة الإنسان بالزمن والتاريخ والعواطف والقيم. ورغم اختلاف أشكال هذه الروايات، فإن حضور ذاكرة الكاتب وأجزاء من سيرته الذاتية تعطي للكتابة نوعا من الوحدة الفنية، التي تعلو على استنساخ الواقع أو الذاكرة. هي بالأحرى، كتابة للذاكرة من منظور جمالي يمتح من تعدد مستويات اللغة، ومن الحوارية، ومن استنطاق تحولات الواقع. ولا نبتعد عن الحقيقة إذا قلنا إن العروي استوعب تجربة مارسيل بروست في «البحث عن الزمن الضائع»، التي تكتب الذاكرة على نحو مذهل. وقد استحضر العروي هذه التجربة في «أوراق» على لسان قرينه إدريس على هذا النحو: «..ماذا يقول بروست؟ كل موجود - حي أو جامد، ساكت أو ناطق، ساكن أو متحرك – سترٌ خادع. تحب الشيء، تظن أنك لا تستطيع أن تعيش بدونه، تعمل ما فوق طاقتك لامتلاكه. ثم تحصل عليه، فتكتشف أنه لم يعد يستحق الجهد المبذول في سبيله...» (أوراق، ص: 148). في شخصية إدريس ملمح من المجرى الذي اجتذب بروست وبحثه عما يخلصه من سطوة الزمن وعبثية الموت. إلا أن العروي في «اليتيم» لم يسلك نفس الكتابة الذاكرية المسهبَة، فجاءت مليئة بالفجوات التي لا تجد تفسيرا إلا داخل شبكة النصوص الموازية والهوامش التي لجأ إليها الكاتب بعد مرور سنوات على صدور الروايات. العروي.. رائد مجدد في الحداثة العربية مسعود ضاهر تبدو مسيرة عبدالله العروي الثقافية على صلة وثيقة مع المرحلة التاريخية، التي شهدها الفكر العربي المعاصر، وكان لها تأثير مباشر على تكوينه الثقافي وآرائه السياسية. فالعروي مفكر عربي من المغرب، تلقى علومه في جامعات فرنسية، ومارس التدريس في جامعات مغربية وأوروبية، وكانت له مساهمات ثقافية واسعة في مختلف مجالات البحث التاريخي والإبداع الأدبي، وهو من أبرز المثقفين العرب في النصف الثاني من القرن العشرين، نظرا لدراساته التاريخية وأبحاثه النظرية، التي أحدثت سجالا علميا واسعا في الأوساط الثقافية العربية ولدى مثقفين يتقنون اللغة الفرنسية التي كتب بها أغلب أبحاثه. وإلى جانب قلة من المؤرخين الذين عايشوه، ترك العروي بصمات واضحة على الفكر التاريخي العربي في المرحلة الراهنة، وقدم دراسات معمقة تركت تأثيرا على أجيال متعاقبة من المؤرخين العرب الشباب الذين فتحوا آفاقا جديدة في كتابة التاريخ الاجتماعي الشمولي للأقطار العربية في علاقته بالتاريخ الكوني. وفي مقدمة حوار مهم أجرته معه مجلة» آفاق» المغربية عام1992 ، وصفته بالقول:» العروي ليس باحثا كباقي الباحثين. إن وراءه إنتاجا فكريا ضخما، وتراكما معرفيا مميزا، وله معرفة عميقة بتاريخ المغرب». العروي غزير الإنتاج، جم الثقافة، تناول حقولا معرفية متعددة، وكانت له مساهمات إبداعية في كثير منها، خاصة في مجال الأيديولوجيا والتاريخ والرواية، وعبر بعمق، في كتبه أولا، وفي رواياته وفي مذكراته، عن مشروع ثقافي متميز ظهرت تجلياته بشكل خاص في حقل الكتابة التاريخية حول تطور المجتمع والدولة في المغرب العربي الحديث والمعاصر. كتب دراسات تاريخية متنوعة صدرت باللغة الفرنسية، ثم نقلت إلى العربية، وترك مقابلات صحافية عدة، وساجلته نخبة من كبار المثقفين العرب، ينتمون إلى مواقع نظرية وأيديولوجية متنوعة، ورأوا في مقولاته وآرائه في القضايا التاريخية التي عالجها مادة نظرية غنية تستحق النقاش العلمي الرصين. تمحورت مقولاته الأساسية حول كيفية الإجابة عن إشكالية منهجية أساسية هي: كيف يتمكن العرب من امتلاك ما يقودهم إلى الحداثة السليمة والمعاصرة الحقيقية؟ وكيف يمتلكون القدرة على التقدم للمساهمة في الإنتاج والإبداع العالمي من أجل إيقاع تاريخي جديد يحررهم من الحصار المضروب على عقولهم، ويحرر الإنسان العربي من القيود التي تكبله؟. في إجابته العلمية عن هذا السؤال المنهجي المعقد نصح العروي بتبني النقد الأيديولوجي كمدخل للمجادلة حول ما هو سائد من مقولات الأيديولوجيا العربية المعاصرة بهدف امتلاك أسس المعاصرة، أي امتلاك العقلانية والتكنولوجيا العصرية والمساهمة في التاريخ الكوني من موقع الفاعل المبدع وليس المنفعل التابع. فنقد مقولات الأيديولوجيا العربية السائدة يفتح المجال أمام بناء وتطوير ثقافة نقدية على امتداد الوطن العربي. وبعد أكثر من قرن من هيمنة الثقافة السلفية من جهة، والثقافة الانتقائية من جهة أخرى، ما زال العالم العربي يفتقر إلى برامج ثقافية تساهم في تجاوز التخلف التاريخي، وتحقق النهضة العربية التي طال انتظارها بعد أن نجحت شعوب أخرى في بناء نهضتها الثقافية وأقامت التصالح مع ذواتها عبر الحفاظ على خصوصياتها، إلى جانب تمثل منجزات الحداثة والمعاصرة التي أنتجت خارج بلادها. لا كتابة دون صدق وحاجة للكتابة توفيق بنعامر يعتبر العروي من أبرز المفكرين العرب المعاصرين والمنتمين إلى الجيل الثالث من المثقفين العرب بعد رواد عصر النهضة في القرن التاسع عشر ومن حمل لواءهم من رجال الفكر والسياسة في النصف الأول من القرن العشرين. وهو يمثل بذلك عنوان مرحلة متقدمة من تاريخ الفكر العربي المعاصر من حيث الوعي بقضايا ذلك الفكر وسعة الاطلاع على الثقافات الأخرى، فضلا عن تكوينه الأكاديمي وضلوعه في مجال البحث العلمي ورسوخ قدمه في الفكر النقدي. وقد خول له ذلك التكوين المساهمة بشكل فعال في تطوير مناهج التفكير في التراث التاريخي العربي والعالمي وفي الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة وفي تقديم الأطروحات الكفيلة بمعالجة الأوضاع العربية، سواء في سياقها المحلي والعالمي أو في مسارها القديم والحديث. ومن المهم أن نشير في الحديث عن تجليات الفكر النقدي عند العروي إلى أن الرجل استمد أساسيات هذا الفكر من روافد معرفية متنوعة، إذ تعددت اهتماماته العلمية والثقافية من تاريخية وفلسفية وأدبية إلى سياسية واجتماعية. ولم تكن تلك الاهتمامات في فكره منفصلة أو متوازية، وإنما تفاعلت عنده تفاعلا أصبحت معه متعالقة ومنتجة لفكر جديد. إلا أن المرجع الأول والأساسي لفكره النقدي هو اختصاصه في دراسة التاريخ، فهو مؤرخ قبل كل شيء، وقد مكنه تمرسه بالمناهج العلمية المختلفة في البحث التاريخي من اكتشاف أهم المكونات التي لا يمكن للفكر البشري أن يكون علميا ونقديا بدونها، ومن بينها مفهوم التغير والتطور ونسبية الحقيقة ومفهوم الكونية والخصوصية ومنزلة الإنسان في التاريخ والمجتمع ووظيفة الدين والثقافة في المسيرة الحضارية وغيرها من المفاهيم والمبادئ التي ينبني عليها الفكر التاريخي في منظوره الحديث. وهكذا كان الفكر التاريخي بالنسبة إليه منطلقا للاهتمام بفلسفة التاريخ وبالفلسفة السياسية والاجتماعية وبالمسألة الثقافية والأدبية ووظيفتها في المجتمع، وقد خول له اطلاعه على المناهج الحديثة في العلوم الإنسانية، وعلى ثقافة الآخر في أحدث مستجداتها، تبني خيار العقلانية وحرية التفكير، وهو في نظره المنطلق الأول الذي تتأسس على غراره كل عملية نظر وتفكير، مما جعل منه مدافعا شرسا عن العلمانية وعن الليبرالية الفكرية، إذ هما يمثلان عنده حجر الزاوية للحداثة الكونية، متأسيا في ذلك بتاريخ نشأة الحداثة الأوروبية. وقد خول له تكوينه هذا أن يتبوأ منزلة المثقف العقلاني، وأن يكتسب ملكة نقدية في شتى مجالات العلوم الإنسانية، وأن يوظف تلك الملكة في إرساء مشروع إصلاحي يطمح إلى تحقيقه في بلاده وفي العالم العربي بشكل عام. في الحاجة إلى المشروع الفكري لعبد الله العروي كمال عبد اللطيف تتيح لنا العودة مجدداً إلى المنجزين النظري والروائي لعبد الله العروي معاينة وإدراك الحدوس النظرية القوية، التي استوعبتها آثاره، بهدف العناية بمآثره تحيينها بتطويرها. من ثمة تأتي الحاجة إلى ضرورة الاستعانة بجوانب من جهوده الفكرية لمواجهة إشكالات الثقافة والسياسة في المجتمع. فإذا كنا نؤمن بأن الصراع بين التقليد والحداثة ما يزال عنواناً بارزا في كل من المجالين السياسي والاجتماعي داخل مجتمعنا، رغم تنوع وتجدد صُور تمظهره وبروزه في واقعنا، فإن هذا الأمر-بالذات- يدعونا إلى تركيب المواقف القاضية بضرورة اختراق سقف الخلل القائم، الذي يهيمن على تصورنا للتاريخ، وخاصة عندما أهمية للعمل الثقافي ولدوره في تجاوز أعطاب المجتمع. كان العروي - في أغلب كتاباته – يلح على لزوم رفض المدارات ونزعات التلفيق والتوفيق، منتقداً تجنب النخب للإشكالات التاريخية الكبرى في مجتمعنا وعدم عنايتها بجذور وأصول المشاكل في المجتمع، معتبراً أن أزمة المثقفين تبرز بوضوح في أشكال تقاعسهم بشكل متواصل في الموضوعات المتعلقة باللغة والتاريخ والتراث. وقد آن الأوان للتخلي عن هذا الموقف وإطلاق آليات الاجتهاد والتجديد في مواجهة القضايا المذكورة. المعركة اللغوية أنور المرتجي إن موقف المفكر عبد الله العروي من ازدواجية العربية المعربة والدارجة العامية ليس جديدا. لقد سبق أن عبر عنه في كتابه «ثقافتنا في ضوء التاريخ» بصدد حديثه عن قضية (التعريب) وكذلك في كتابه «من ديوان السياسة»، الذي تحدث فيه بتفصيل واضح عن رأيه في العربية المعربة والأمازيغية والدوارج المغربية. لقد تقاطع مع أطروحة العروي جمهرة ٌمن المثقفين التنويريين، الذين عرفوا بكتاباتهم العلمية المدافعة عن استعمال اللغة العربية الحديثة وجدارتها في توصيل التراث العربي الإنسي وتحقيق التفاهم والتواصل بين أفراد المجتمع، ونقل المعارف الحديثة كما كان شأنها في الماضي، عندما تحولت اللغة العربية في الأندلس إلى جسر عبرت من خلاله الثقافة اليونانية إلى اللغات الأوروبية. وقد كان من أبرز الأسماء اللامعة التي انخرطت في هذا السجال اللغوي عبد القادر الفاسي الفهري، أحد علماء اللسانيات المرموقين، وعالم الأنثربولوجيا المفكر عبد الله حمودي، وكثير من الباحثين المنتمين إلى الجمعيات المدافعة عن حماية اللغة العربية. أما أنصار الدعوة إلى استعمال الدارجة، الذين يمثلهم نور الدين عيوش بمؤازرة فئة محدودة من «الأكاديميين» في المشهد الثقافي المغربي، والذين أطنبوا في وصف الدارجة المغربية بأنها اللغة الأم أو لغة الأم، وذلك بتوظيف هذا اللعب اللغوي من أجل استمالة عواطف المواطنين باسم نزعة «التمغربيت» الشعبوية، التي اعتبرها عبد الله العروي دعوة من أجل الانغلاق على الذات «لأن الانتماء إلى المغرب وثقافته الشفوية شيء والانتماء إلى الموروث الثقافي العربي شيء آخر. أكثر من ذلك، أرى أن الانتماء إلى المغرب لا يتعارض أصلا مع الانتماء، ليس إلى المجموعة العربية أو الشعوب العربية وإنما إلى ثقافة الجاحظ وابن خلدون وألف ليلة وليلة. هذا الموقف لخصته في أربع صفحات ضمن كتابي من ديوان السياسة» لقد توجت هذه المعركة اللغوية بتنظيم مناظرة تلفزيونية شارك فيها عبد الله العروي ونور الدين عيوش، حيث عرفت، بالرغم من طابعها الثقافي النخبوي، ذروة المشاهدة والمتابعة من لدن المواطنين المغاربة، انتهت بالغلبة والحسم لصالح أطروحة العروي التي تنحاز إلى العربية الحديثة المعربة. وهذا ما ترجمته تباعا تعليقات الصحافيين والمهتمين في معظم الصحف المغربية السيارة، وما عبر عنه كثير من المواطنين عبر وسائل الاتصال الجماهيري وفي مقدمتها «الفايسبوك» و»تويتر». تميز هذا النقاش المتعلق بالهوية اللغوية من قبل بعض المثقفين بالخروج عن مقاصده العلمية وتغليب العاطفة الذاتية والدوافع الأيديولوجية، خصوصا عند بعض دعاة «السلفية اللغوية»، الذين جعلوا من هذا السجال العلمي حول استعمال اللهجة العامية كمقابل للغة العربية الحديثة، معركة موجهة ضد الدين الإسلامي. إننا نختلف من منطلق علمي لساني مع وجهة النظر التقليدانية، التي تعمل إلى إحداث تماه بين الإسلام واللغة العربية، لأن ثلث سكان العالم الإسلامي من غير الناطقين باللغة العربية. كما أن مثل هذا الموقف يمانع في حدوث التطور، الذي عرفته العربية القديمة أو لغة الضاد، التي ينظر إليها بأنها كينونة جامدة، أو أنها ما زالت بنية مستمرة وخالدة منذ نشأتها الأولى، بينما نحن ننظر إلى اللغة العربية بأنها كائن حي، يخضع ككل اللغات الإنسانية لقوانين التطور والتغيير.