هل كان كذلك قبل اليوم...؟ كنتُ أقولُ لنفسي كيف له أن يتواجد بعيداً يومَ وفاة أمه، وهو الَّذي نذر حياته لأجلها، ملازماً ومتفقِّداً لها على الدوام، بل إنه حتى الآن لم يتزوج، لعله يرد شيئا من جميل صنيعها...فاجعتُه كانت كبيرةً يومَ ذاك، حيثُ اسودَّتِ الدنيا في عينيه، واعتَلَّ بدنه، ولكأنَّ الضياءَ احتجب بفقدانه لأمه، كان يرتدي ملابس سوداء مهلهلة تراكمت عليها الأتربة، والدهونُ أضفت عليها مزيداً من سوء الحال. حتى بدا في حالة يرثى لها، فقد علا وجهه شحوب ينم عن حزن كظيم. ذبلت عيناه، وفارقته ابتسامته العذبة، وابيض وتجعد شعره الفاحم الذي كان يزيد من نضارة محياه، لم أره منذ زمان، لقد اعتكف في بيته لا يبرحه. وبدا منطويا على نفسه، زاهداً في لقاء الناس أو التحدث إلى أحد، وصارَ يحملُ من هموم الحياة وأعبائها ما لم يكن يخطر له على بال. كانت أمه تملأ عليه حياته، بشخصيتها القوية. يشعر في كنفها بالأنس والحماية والسعادة والامتلاء. لقد ذهبت الآن، تاركةً إياهُ وحيداً مُنْكَسرَ القلب والجناح، لكأن الأرض لم تعد ثابتة تحت قدميه كعهده بها فيما سلف. بل إن الكون كله يبدو الآن موحشاً مخيفاً، وكأنه قد خلا من كل شيء، كان جارنا وقد تجاوز العِقد الخامِسَ من عمرهِ، أنظر إليه الآنَ فأكاد لا أعرفه لفرط تغيره. وقد تلبَّسَتْهُ حالةٌ غريبةٌ من الكآبةِ والتَّشَتُّتِ والتِّيهِ، لقيتُهُ وكان يحدث نفسه كالأبله، ويقهقهُ بهستيريا كالمعتوه، حييتهُ فابتسمَ، لا أدري لماذا تغيرت ملامحه وتصرفاته بهذا الشكل، رأيته يندفعُ نحو سلَّم المقهى، وفي الرُّكْنِ ذاتِه، كأن على حافة القلب الكئيبِ رفرفتْ عصفورةُ الشَّوْقِ والأحلام من جديد...هي الوحيدةُ الَّتي سكنت وعلقت بفؤادِه من كُلِّ أولئك الَّذينَ عرفهم زماناً، كانت دوماً تواسيهِ وتعده بعودتها، وتؤمِّلُهُ برجوعها مهما طال الانتظار، وبأنها ستعود طال الدهر أو قصر، وبعينين شرهتين ، كان يلتهم سطح شرفة المقهى الذي يبدو وكأنه حفلة زفاف مكتضة، قلبه يخفق بين غيوم وطيئة، يخفقُ بين الوجوه، يخفقُ عابراً المساءَ وهشاشَةَ المكان، أدار ظهره للبحر واستمر نحو الداخل، يبحث عن فتاة اقسمت أن تلقاهُ هنا في يوم من الأيام...لذلك ينتظرُ بمزيدٍ من الإصرارِ وبأحلامٍ ليس لها نهاية...هي حلمه الجميل حين تضيق الدُّنيا في عينه، لذلك ستأتي، ستأتي لتبدِّدَ هذه الغيوم المتعبة كإشراقات شمسٍ في أيام الشِّتاءِ..ثم تجلسُ أمامهُ في ركنٍ مَنْسِيٍّ، ويتهامسانِ بشغَفٍ، ويتقافزانِ من ضفَّةٍ لأخرى، سيشكو لها ويبوح بانشراحٍ عن كل ما يختلجه من أشواقٍ وهُمومٍ، وبأسراره الدفِينَة، وكل ما سكَنَ من وجد وكمد...سيخبرها عن تفاصيل وفاة والده أثناء العمل وهو يصلح إحدى الآلات المعطلة بساحة الشركة لما أصيب بصعقة كهربائية، وبأنه حين نُقِل إلى المستشفى توفي في الحال...وعن رحلة أمه المضنية في المحاكمِ مع الشركة والتأمين دون أن تَظْفَرَ بشيء... ستأتي..وسيحكي لها بحسرةٍ عن أمِّهِ الَّتي أَفْنَتْ زهرةَ شبابها، والتي كانت ناذلةً ثم خادمة في البيوت، تطبخ، تكنس، تلاعب الأطفال ولاتنام، تقوم بكل الأعباء مقابل الستر، وتأمينِ لُقمةِ العيشِ له ولأخواته الثلاث...وإلحاحها الشديد - رحمها الله - بأن يتخذ لنفسه امرأةً قبل وفاتها، كانت تريدُ أن ترى أبناءَهُ قبل وفاتها، وهي لم تكن تفهم بأنه لايريد أن تقاسمها أوتزعجها أي امرأة في حبه... ستأتي ..وسيخبرها عن شماتة الأهل، الَّذين تبَخَّرُوا مرة واحدة، وكيف ضاعت ملامحهم وأسماءهم وصورهم دفعة واحدة، وكيف صار بلا جذور...وعن عمه الَّذِي ادَّعَى مِلكيةَ بيتِهِم الصَّغير، وسينقل لها أخبار الجيران، وسيخبرها عن كلبه الصغير" روزو" الذي سُرق مؤخراً...ستأتي، وسيأخذ بيدها وينشدها أجمل قصيدٍ وشعرٍ فيها يُحَاورُ الأطيار والفراشات، ويغيب في عينيها، وسيحدثها عن حالة الالتباس التي اعترضته ذلك اليوم، وهو واجفُ القلبِ أمام الضَّابطِ الَّذي كان يُواصلُ المكالمة، وينظر إليه بازدراء، ويُعيد النَّظر بين الأوراقِ والمحضر، ثم يعيد النظر مرات عديدة...حتى انْتَبَهَ إلى صوت حذاءٍ يحتَكُّ بالأرضِ مؤدياً التَّحِيةَ قائلاً: لقد وقع سوء فهم، ودون أن يفهم، أمرهُ بالانْصِرافِ، وما تراقَصَ في ذهنه آنذاك "أن الحَياةَ كلها سُجون والحريةُ مؤقتة.." ستأتي...وسيخبرها كيف أنه مرَّ بمحنة وأزمةٍ صحية عنيفةٍ، وسفره في روحه إلى أن تجاوزها...ولائحة المنع التي خطَّها الطبيب، فقد منع عنه التدخين، وشرب القهوة، وتجنب القلق والغضب..وأن يرتاح ولم يوضِّح!! وكيف أحس بالدُّوارِ والارتعاشِ حتى تراقصَتِ الأشياء من حوله... متى ستأتي...؟ ارتشفَ قهوتَهُ البارِدَةَ، وجرعات من الماء وقد أحَسَّ بجفافِ حلقِه، ثم افتعل انشغاله بجريدة المقهى، ليصير الانتظارُ مُرْفقاً باحتمالات شَتىَّ، والزوابع في جوفه ليس لها حد، تجولُ عيناهُ خِلْسةً في المقهى كسائح، تتثاءبَ مَدَّ يَدهُ إلى الأمام ثم مرَّرَها على رقبَتِهِ، العياءُ يستبدُّ بهِ، لم يدرِ ما الَّذي زجَّ به هُنا؟ تُسافِرُ به الآمالُ إلى ما لا نهاية...يقطف ثمار ذاكرته، يحدثها قبل أن تأتي، يعاتبُها عن تأخُّرِها، يشيحُ بوجههِ عنها ويغضَبُ، ثم تبتسمُ له فينسَى، ماذا سيمنعها من المجيء؟ الوقتُ يهرب ويستيقظ سوء الحظ، طال انتظاره والشمس تزحفُ نحو المغيبِ وكأنها لن تأتي.. ...هل نسيَتْ؟ أم تراها أتَتْ قبلي ثم اختفتْ كومض خاطف؟؟ أخيراً يسقطٌ في مهاوي الاحتمالات والتبريرات...يبتلعُ أحلامهُ فهو ينتظرها منذُ أكثرَ من عشرين عاما...ثم تغرقه الأحلام بعودتها، إحساس يدفعه إلى النُّهوضِ من مكانهِ، لكنه لايجد، ستحضر أم لا!! ومتى كان الموتى يحضرون؟ سأل نفسه أخيراً كمن يريدُ أن يغادر..! وصل إلى الباب وهومضرَّجٌ بالتِّيهِ، وقد ضاع منه كل شيء ..حتى أنه لم يتذَكَّرْ مسكنَهُ! أمضى حياتَهُ كلُّها في انتظارِ عودَتها..ولم تَعُدْ..أرادها أن تأتي ولم تظهر، ابتسم للحاضرين بالمقهى، ولم يَكُنْ هُنَاك أَحَدْ، "لو أذهب إليها...فسأعتبر قبرها قبري...ثم عاد بروحه الجدْباءَ من حيث أتى، حتى بدَت ذاكرتُه تتبَخَّرُ، يحدِّثُ نفسَهُ، كمن ليس وراءَهُ إلا الوراءُ والفَراغُ...!! "بمن سأبدأ؟ فالطبيب الَّذي أصَرَّ علي بأن أرتاحَ! لم يفقهْ شيئا عن حالتي، ولايعرفُ شيئاً عن الراحة، وهل هناك راحة في هذه الدنيا"، ثم انطلقَ ينظرُ إلى الوجوه والملامح، الجميع يبحثُ عن الراحة...وهل بإمكانه أن يرتاح!!؟ الآن صار يفهمُ مثلَ الآخرينَ، فالفهمُ عندَ الكثيرين يأتي أخيراً!! فهل سيرتاح من الجيران؟ أو السجن؟ أو الطبيب؟ أو من انتظار التي لن تأتي...؟ أو من زيفه وذاته المتوهمة؟ ثم انشغل بتأمين حالة الأُنس والنشوة المستبدة، والتي عاشها قبل لحظات... لكنه سرعان ما عاد، توجه إلى الأريكة الجاثمة في صالة المقهى، قبل أن يرمي بجسده المثْقَلِ بالهواجسِ، وليرتمي في حضن اللَّيل البَهِيمِ، طريقتُهُ في تدميرِ ما شيَّدَهُ من أحلامٍ بين أضلُعِهِ... رحَلَ الجميع، وبقيَ هُنا كشجرةٍ يتيمةٍ، تحت جُنْحِ ليلٍ لا تُزْهِرُ أغصانُه، فهل تراها تُغني على الليل أحلام جديدة...؟ يمُدُّ رِجْلَيهِ إلى الأمام، يُفْرِكُ عينيه متثائباً، وإذا بِيَدٍ تُرْبِتُ على كتفِهِ في هذه الأثناء، تحرَّكَ في جوفه أصداء مدوية، قبل أن يصيرَا وجهاً لوجه! يبصرهُ كما يريدُ، وجهٌ بنظراتٍ مُضيئةٍ، لا فرق بينه وبين وجههِ إلا الملامِحُ والسُّحْناتِ..ولم يُبْصرْ شيئاً...عادَ بروحهِ الجدْباءَ من حيثُ أتى...ثمَّ صارَ كَذلِكَ بَعْدَ اليَوم...!!