كلمة قصيرة: أيها القارئ العربي في كل مكان...آلام الأطفال أكبر من كل الآلام...ولكنهم لا يطيقون التعبير عنها... ومنذ أقدمتُ على بعض من هذه المهمة الجسيمة،دخلت في دوامة من يبحث عن كلمات لا يعرف مصدرها،أهي دموع الثكالى...أم آهات اليتامى ... أم صمت العاجز الحائر. ستة أشهر من الحيرة والتردد ... فتقبلوا كلماتِ هي كل ما استطعت أن أخطه،دفاعا عن كل الأطفال،سواء من ذاق منهم العذاب والموت في نهاية المطاف،أو من مازالوا ،من بطش الأنظمة الاستبدادية، يعانون ويصرخون بصوت البراءة والصدق والطفولة. نص الرسالة كان بودي أن أكون بينكم... بين أطفالكم الأحياء.... أطارد الفراشات الملونة بين الحقول الخضراء، وأشرب تحت سفح الجبل من نبع الماء... وأركض في كل اتجاه... وأجري ... أرنو إلى الأفق البعيد... البعيد خلف السحاب... ألقي بجسدي الصغير في مياه النهر،أسبح بين ضفافه.... وعلى كل ضفة أرسم أحلامي الصغيرة بلون القمر وطعم البلح..فإذا "ركبت رأسي " ،وأحسست أنني أكبر،جريت نحو شاطئ البحر الكبير،كي أعارك أمواجه،وأسمع هديره،وأتملى زرقته،وأجمع بيدي الصغيرتين صدفاته .. ولكنهم ،أصحاب الخوذات الحديدية والدبابات ... يقتلون الفراشات ويسحقون الصدفات . ****************** كان بودي أن العب مع أطفالكم الأبرياء لعبة الحجلة .. أو لعبة الغميضة .. أو لعبة كرة القدم أو كرة اليد... المهم أن نلعب جميعا،فلا يطالنا رصاص الغدر والخيانة.فنحن لن نؤذي أحدا بضجيجنا وشغبنا الطفولي.ولن نقطع سبيل الجنود ،في رحلتهم المباركة،لتحرير أرضنا من دنس الاحتلال،بل إننا سنتوقف عن لعبنا وحبورنا وشغبنا،كي نمتع النظر بمشهد جنودنا الأشاوس وهم يرددون الأناشيد الوطنية الحماسية،سنردد معهم أجمل الأناشيد،وسنردد مقاطع من خطب السيد الرئيس ،تلك التي حفظناها عن ظهر قلب في سنواتنا الأولى بالمدرسة. سنرمي فوق رؤوسهم أجمل الورود والأزهار،ولكنهم هم ،يا بؤسهم، يصبون فوق رؤوسنا رصاصهم الحاقد،ويفرغون في صدورنا ذخيرتهم المجنونة. إن الطريق إلى أرضنا المحتلة واضح لاحب،ولو اختاروا المضي في هذا الطريق لرمينا لعبنا وأوقفنا ،طواعية،كل مظاهر الشغب والحبور،لنشارك جيشنا فرحة النصر والعبور.. ولكنهم ،أصحاب الخوذات الحديدية والدبابات ... لا يخوضون حرب الاستنزاف،بل يواصلون إبادتنا بكل صلف واستخفاف. ****************** كان بودي أن أواصل دراستي حتى نهاية المشوار،ككل أطفال العالم... أرتدي بنطالي الأسود،وقميصي الأبيض،وأضع ربطة عنقي الصغيرة على شكل فراشة بلون وردي فاتح.... فمازلت أحب الفراشات وكل ألوان الفراشات، وتطربني أصوات العصافير و البلابل ،بين "الجداول والخمائل" .وتهزني لمسات معلمتي ،تداعب شعري الناعم،كما تداعب بريشتها ورقة الرسم البيضاء.... مازلت أذكرها ترسم جناح فراشة كبيرة ،وتقول لنا في حب وحنان : أتموا بقية الرسم ..لكن وقبل أن ننصرف سمعنا طرقا عنيفا على الأبواب ، كانوا هم .. أصحاب الخوذات الحديدية والدبابات... أهرقوا الدواة وكسروا الفرشاة .. ****************** كان بودي أن ألقي بين أيديكم آخر ما حفظته من أجمل الأشعار ،لقد حفظت على صغر سني الكثير من شعر المقاومة والممانعة والتصدي .... فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة،هكذا تعلمنا في روضاتنا ومدارسنا وثانوياتنا.وتعلمنا أن : بلاد العرب أوطاني=من الشام لبغدان ومن نجد إلى يمن=إلى مصر فتطوان وتعلمنا وأصررنا وقاومنا النسيان ورددنا على مسامع العالم كله : وكنا مَحْضَ أطفالٍ تحرّكنا مشاعرُنا ونسْرحُ في الحكايات التي تروي بطولتَنا وأن بلادنا تمتد من أقصى إلى أقصى وأن حروبنا كانت لأجْل المسجدِ الأقصى وأن عدوَّنا صهيونَ شيطانٌ له ذيلُ وأن جيوش أمتِنا لها فعلٌ كما السّيلُ سأُبحرُ عندما أكبرْ أمرُّ بشاطئ البحرين في ليبيا وأجني التمرَ من بغدادَ في سوريا وأعبر من موريتانيا إلى السودان أسافر عبْر مقديشيو إلى لبنان ولكنهم ،أصحاب الخوذات الحديدية والدبابات ... اغتالوا مطلع القصيدة وداسوا فوق وجنات وخصلات الشهيدة ****************** كان بودي أن أرافق الوالد إلى المسجد.... أصلي لله حبا وطواعية،وأقرأ آياته ،تلك التي تحضنا على فعل الخير وحب الناس وتربية النشء على حب الله وحب الوطن،والتحلي بمكارم الأخلاق.... كان فقيه حينا يتعهدنا بالموعظة الهادفة،ويبشرنا بالفوز مادمنا لا نؤذي أحدا من الخلق،ونحترم آداب المسجد،ونواظب على ذكر الله ومراعاة خشيته في السر والعلن... وفي كل يوم جمعة كنت ألبس أجمل ثيابي وأطهرها.ترشني أمي بأحلى عطر،وتقبلني أختي الكبيرة على وجنتي،تسألني أن أدعو لها بابن الحلال.... كانت أيامنا جميلة ووديعة بين أهلنا وأحبابنا... وكانت ليالي رمضان تزدان بالأنوار الساطعة،وبصلاة التراويح ،وأكل الحلوى وألذ الأطعمة في وجبة الفطور،والركض تحت جناح الظلام. ولكنهم ،أصحاب الخوذات الحديدية والدبابات ... هدموا المساجد والجوامع ودمروا المآذن والصوامع. ****************** وكنت أمني النفس أن أغني أحلى القصائد ... في تمجيد الأبطال الذين يحملون على أكتافهم أوتاد خيمة وطننا الكبير... كنت أكن لهم الحب والتقدير ...وكان سيادة الرئيس يحدثنا في خطاباته عن الانتصارات التي حققها أبطالنا الأشاوس في الماضي ودحرهم لكل عدو تحدثه نفسه أن يدنس أرض الوطن ...كنا نؤمن أن الوطن شرف وانتماء وتضحيات.. وكانوا هم يحولونه أرصدة في حساباتهم السرية وبكل اللغات... كانت المفارقة كبيرة ... العساكر التي تدوس الأطفال والنساء المسالمين .. لا تكاد تطلق صفيرا يعكر صفو جنود الاحتلال فوق مرتفعاتنا .. وهي جزء من هذا الوطن .. رأيتني ،رغم الألم،أحب هذا الوطن ... أحب شمسه الدافئة ...وأرضه المعطاء ...تعطي المستبد وأزلامه ولا تضن بخيراتها...ولكنهم هم تناسوا أن يبروا بها ...واستسلموا لشهوة القتل والسحق والإبادة... وحين رمتهم الجموع بهتافات الشوق إلى التحرر و الانعتاق ... كشرت الذئاب المسعورة عن أنيابها،وتحركت الجحافل في جنح الظلام،كي تصدر الأوامر للمرتزقة وقتلة البراءة والأطفال ... كانوا هم ، أصحاب الخوذات الحديدية والدبابات ... ذبحوا كل مجد الحرية،ورفع صوته عاليا باسم القضية ****************** قتلوني أبشع قتلة ... حرموا أبي أن يذرف علي دموع الحنان والرحمة ... صوروه أشبه بأبله يخلط بين الضحك والألم .. وهو الأب الذي كان يراني امتدادا له في الزمن القادم... هل أب ينسى رزأه باينه فقط لأن رئيس البلد وقع مرسوم النسيان؟ وكتبوا بدمائي شهادة مزورة ..لم يخجل أن يتلوها ،على الملأ، من كنا نسميه سيادة الرئيس.. فأنا حين أرحل ...أصب غضب الطفولة على وجوههم،أطرد النوم من عيونهم،أشهدكم أن في عيون أبي أنهارا من الدمع ..وفي صدر أمي بركانا من الغضب ... وفي فؤاد كل قريب نارا مشتعلة ... فلا تصدقوا قتلة الأطفال ... ولا تنسوا دماء البراءة .. آلامي أكبر مني ... لكنها في عنقكم أمانة كي تثأروا للطفولة المهدورة... فاجعلوا من الدم قربانا للحرية المظفرة... واجعلوا ذكراي نبراسا نحو مستقبل ... لا تكون فيه الكلمة لهم ... هم أصحاب الخوذات ... والقلوب الحديدية... وقعه بالعطف عن الطفل الشهيد حمزة الخطيب،راجي عفو ربه،وتحرر أمته، والإنسانية قاطبة ،من قبضة الظلم: لحسن عدنان [email protected]