يهدف أي نموذج تنموي إلى تحقيق تقدم اقتصادي وتغيير اجتماعي مواز يدعم هذا التقدم ويؤسس له اجتماعيا وثقافيا. يشكل البحث عن نموذج تنموي مناسب هاجسا لجميع الدول والمجتمعات وليس عيبا أن يستمر هذا البحث ويغير من إشكالاته وقضاياه. اهتم علماء الاجتماع بهذا الموضوع وألفوا مئات الكتب حول موضوع التغيير الاجتماعي وشروط تحققه. لتلخيص هذه النظريات، نستعرض بإيجاز النماذج المشهورة لتصور حدوث التغيير الاجتماعي. هناك تيار يؤمن بالتاريخ كقوة فاعلة في التغيير حيث يعتقد من يتبنى هذه الأطروحة أنه لا يوجد تفكير حول التغيير الاجتماعي في استقلال تام عن النشاط الفكري الذي نسميه التاريخ. في الغالب يعتبر التطور نظرية للتغيير الاجتماعي ويتم تبني نظام خطي لتفسير التغيير، غير أن هناك من يرى أن التطور يتم بسرعات متفاوتة للعناصر التي يشملها التغيير. نلخص النماذج النظرية الخاصة بالتغيير في أربعة: 1-يشير النموذج الأول إلى توجهات Trends إلى حد ما عامة وغير قابلة للتراجع [قوانين التاريخ]، بحيث أن التغيير حتمي إلى حد ما. كما أن هناك مراحل متتابعة يجب تحققها لحدوث التغيير. 2-القوانين الشرطية والبنيوية: تعني هذه القوانين أنه يجب تحقق شروط معينة لتحقق تقدم أو تطور في المجتمع، إذا تحققت المتغيرات في وقت ما من التاريخ مثلا فإنها ستؤدي إلى نتيجة ب. كمثال على القوانين الشرطية، يؤدي تحول المجتمع إلى التصنيع إلى ظهور الأسرة النواة. وكمثال على الشروط البنيوية، نقدم مثالا من نظرية Nurkse حول الحلقة المفرغة للفقر، حيث أن المجتمعات الفقيرة تبقى فقيرة إذا غاب التوفير والاستثمار المنتج للثروة، لأن هذه الممارسات لا تزيد في الإنتاج بل تشجع فقط الاستهلاك ويبقى الوضع على ما هو عليه. 3-يركز النموذج الثالث على شكل التغيير وليس محتواه ويضع التناقص كأساس للتغيير ويؤدي إلى ظهور نموذج جديد[Hegel/ Kuhn]. 4-يركز النموذج الرابع على أسباب التغيير ويضع ضمن اهتمامه القيم وطبيعة التنشئة الاجتماعية للفرد.[Weber] موضوع هذا المقال ينطلق من النموذج الرابع ليسلط الضوء على العوامل غير الاقتصادية للنجاح الاقتصادي ويستعمل في ذلك مقولتين أساسيتين لتفسير موضع الثقة الشاملة ودورها في تحقيق نموذج تنمية متقدم وهما: النظام الاجتماعي الفعال والرأسمال الاجتماعي. كما سنختم بإشارات إلى القيم التي تساعد على خلق نموذج تنموي فعال. كما هو متعارف عليه في علم الاجتماع، النشاط الاقتصادي هو نشاط اجتماعي بالأساس في بعض المجالات وعليه فهو يحتاج إلى الآخر ليتحقق. من الشروط الأساسية لهذا النشاط الاقتصادي/الاجتماعي هو الاستقلالية والحرية. تعتبر السياسة والثقافة عاملين أساسيين في التقدم الاقتصادي، كما أن التقدم الاقتصادي يتضمن عنصرين أساسيين وهما التنمية والتغيير الاجتماعي الذي يجب أن يصاحب التنمية. بعد هذه المقدمات نسأل السؤال التالي: ماذا تعني الثقة في النظام الاجتماعي؟ تعني أن المواطن يثق في شرعية هذا النظام الاجتماعي ويكون على استعداد للتعاون مع الآخر وتذويب الخلافات من أجل تحقيق التنمية. توفر هذه الثقة الشاملة عنصرا آخر وهو الرأسمال الاجتماعي والذي يمكن تعريفه بكونه الشروط الاجتماعية للنجاح الاقتصادي، ويكوّن هذا الرأسمال الدولة، المجتمع المدني، مجموعات المصالح والأسرة. يمكن تكوين هذا الرأسمال الاجتماعي بطريقة أسهل إذا ما منح أعضاء المجتمع الشرعية لنظامهم الاجتماعي واعتبروه فعالا. الثقة في النظام الاجتماعي تزيد من التعاون في المجتمع فيلتزم كل من يشكلون الرأسمال الاجتماعي بأداء دورهم كاملا من حيث المسؤوليات ومنح واحترام الحقوق وتصبح الخلافات معتدلة في حدتها. يؤدي غياب الثقة إلى غياب التعاون والتسامح والالتزام، فتنتشر الأنانية، والتملص من المسؤوليات والتخلي عن الالتزامات وتنتشر الاختلالات. فتهتم الدولة فقط بما يضمن استمرارها وتنفيذ برامجها، كما تستميت مجموعات المصالح في الدفاع عن مصالحها الخاصة ولو على حساب مجموعات وطبقات أخرى، كما أن دور المجتمع المدني يتقلص أو يختفي أو يتحول إلى دوري صوري يؤثث المشهد العام في غياب أي تفعيل لدوره الاقتراحي الضاغط على أصحاب القرار. كما أن مؤسسات أخرى تصبح انعكاسا للمؤسسات المؤثرة فيصبح التعليم نتاجا للسياسة وداعما بطريقة غير مباشرة للاختلالات البنيوية وتصبح التنشئة الاجتماعية داخل الأسرة عبارة عن تنشئة من أجل البقاء في ظل هذا الوضع العام الذي لا يتوفر على مقدار كاف من الثقة. بالإضافة إلى عامل الثقة الذي يعد أساسيا في تحقيق نموذج تنموي متقدم، تبقى قيم أخرى ذات أهمية في هذا الاتجاه. قد يعتقد البعض أن التقدم الاقتصادي للغرب جاء نتيجة لسياسات اقتصادية محضة في غياب تام للعامل الثقافي والقيمي. يؤكد ماكس فيبر أن أخلاق العمل البروتستانتية من انضباط وعمل شاق وإخلاص كان وراء ظهور العقلية الرأسمالية في أوروبا. كما حثت التعاليم الدينية الأفراد على أن يكونوا منتجين بدلا من مستهلكين وأن يستثمروا أرباحهم لتوفير فرص شغل للآخرين. كانت هذه القيم الدينية حافزا للفرد المتدين على العمل والمثابرة والإنتاج. نحن كمسلمين لنا ما يكفي من هذا النوع من القيم لكن هناك متغيرات أخرى جعلت تطبيقها محدودا جدا، فتجد الأغنياء يستثمرون لتشجيع الاستهلاك، والشركات تزيد من أرباحها وتتملص من التصريح الضريبي الحقيقي، والسياسي يدافع عن كرسيه بدل الدفاع عن الناس الذين انتخبوه لذلك المنصب وغير ذلك من السلوكيات التي تنم عن الأنانية وعدم الثقة في الآخر والميل لخدمة الذات وكنز الأموال. كما أن المواطن العادي يساير هذا الجو العام، فيتهاون البعض في أداء وظائفهم ويدمر آخر الممتلكات العامة، ويحترف آخر ابتزاز الفاسدين عوض محاربتهم، ولن أستطيع سرد كل التصرفات المشابهة التي هي تمظهر للشعور بعدم الثقة في النظام الاجتماعي وتفكك الرأسمال الاجتماعي. لذلك أدعو الجميع إلى التفكير في الرفع من مستوى الثقة في النظام الاجتماعي الذي نكونه جميعا دولة ومجتمع مدني ومؤسسات وأفراد. مهما كانت ضخامة المجهودات التي ستبذلها أي لجنة تختص بالتأسيس لنموذج تنموي، فإن بقاء مستوى الثقة في النظام الاجتماعي متدنيا سيؤثر حتما على تطبيقه في المستقبل. للثقة مجالات أخرى يمكن للقارئ تصورها ويبقى هذا المقال مقاربة من زاوية ثقافية لهذه الإشكالية. *أستاذ باحث بجامعة شعيب الدكالي