الطالب للأستاذ: - هل مَغْرَبْنَا السينما التي أسّسها المستعمر ببلادنا؟ الأستاذ مجيبا: - نعم لكن بشكل معطوب ومبتور، الطالب مستوضحا: - كيف؟ الأستاذ بحماسة هادئة: - لنحلل تطور الوضع ونفكر فيه من خلال هذا الموجز: -1- شيء من التاريخ عرفت السينما المغربية، منذ تأسيس المركز السينمائي المغربي سنة 1944 من طرف السلطات الكولونيالية الفرنسية، تطورا بطيئا لم يكن ذا دلالة حتى تأسيس صندوق دعم الإنتاج السينمائي المغربي سنة 1980. ظل الإنتاج السينمائي ضعيفا مع ذلك نظرا لمحدودية الموارد المخصصة له. ظل الوضع على ما هو عليه عموما حتى تم سنة 2003 تغيير التشريع المنظِّم للصندوق حيث أصبح صندوقا للتسبيق على المداخيل، (هذه الصيغة تكتسي إلى حد الآن طابعا ريعيا مُقنعا قابلا للاستغلال، إذ لا يرد أحدٌ التسبيق بملايين الدراهم التي تمنحها لجنة معينة لذلك، وغالبا ما تستغل مبالغ مُهمة من هذا التمويل في نفقات لا علاقة لها بالسينما على الإطلاق كما يعلم الجميع يقينا)، هكذا تطورت مداخيل الصندوق بدعم أقوى للدولة، وانتقل الإنتاج إلى مستوى مقبول يتجاوز 24 فيلما طويلا وأكثر من 100 فيلم قصير وبضعة أفلام وثائقية سنويا. -2- شيء عن الوضع الحالي ظلت قضايا الإبداع والترويج مطروحة في السينما المغربية بحدة.. لا يعود الاستمرار في طرح قضايا الإبداع فقط إلى النقاش الشفوي منه والمكتوب بين المبدعين والنقاد والمهتمين، بل انتقل إلى مستوى النتائج المحصل عليها على المستويين القاري والعالمي على وجه الخصوص.. ولعل ذلك ما يقوي موقف الرافضين للأخذ بتحقيق بعض الفوز، في فضاءات التنافس الإبداعي القارية والعربية، باعتبار ضعفها وعدم رُقيها أصلا إلى المستوى العالمي، ناهيك عن اختراق تنظيماتها بما تعرفه دول العالم الثالث من إخوانيات وتواطؤات وتبادل للخدمات في مهرجانات معروفة محتكرة وعمياء في انفتاحها على معايير احترافية موضوعية ومتجددة. يحدث ما سبق في الوقت الذي استطاعت فيه سينمات عربية وإفريقية أقل قوة في الإنتاج من السينما المغربية، وأضعف منها في رعاية الدولة لها، مثل السينما التونسية واللبنانية والموريتانية بل والسعودية مؤخرا، الحصول، من خلال أفلام مُحددة، على جوائز كبرى في المسابقات الرسمية لمهرجانات من عيار مهرجانات: «كان» و«برلين» و«البندقية» و«طورونطو» و«مراكش». هكذا ظلت السينما المغربية عاجزة عن تحقيق اختيار أحد أفلامها ضمن المسابقة الرسمية لأحد هذه المهرجانات الكبرى. إن كل ما حصل عليه الفيلم المغربي عالميا هو اختياره للعرض في مسابقات موازية للمسابقة الرسمية مثل « La Quinzaine des réalisateurs » أو « Un certain regard » في مهرجان « كان ». لكننا نرقص فرحا - كما العادة الآن - لمجرد التأهل للإقصائيات: إننا نكتفي بالقليل فهل طموحنا بئيس إلى هذا الحد. لعل في اختراق أتفه مروجي Tik Tok و Youtubers الأكثر تفاهة، ناهيك عن حضور أقل من ثلث سينمائيينا ونقادنا بكرامة كاملة لهذا المهرجان، بسبب انتقائية عمياء للجنة لا نعرفها، أكبر دليل روزي على العطب الذي ينخر منذ سنين سينمانا إذ لا وجود لهل في قائمة الأولويات عند الحديث عن رافعات التحديث الجوهرية للإنسان بعقليته ومقاوماته وأنماطه السلوكية انطلاقا من نبل وسمو هذا الفن التركيبي ولو في صيغه الشعبية المحققة لأعلى مظاهر التواصل الجماهيري وقياساته. لا تعتبر قيمةً مُضافَةً دالة على القيمة التنافسية إبداعيا للفيلم السينمائي المغربي، المشاركة بفيلم مغربي في المسابقة الرسمية كل دورة دورات مهرجان مراكش الدولي للفيلم. إنها مشاركة أوتوماتيكية كما لو أننا سننظم كأس العالم ونتأهل أوتوماتيكيا للعب مع الكبار دون التباري في الإقصائيات ولو كان الأمر كذلك لما تم اختيار أي فيلم مغربي مرشح للمسابقة الرسمية في عقر دارنا بالنظر إلى المستوى الإبداعي والفني والاحترافي لأفلامنا. -3- شيء مهم عن الترويج تعتبر قضايا الترويج، في سياق تطور السينما المغربية، العمود الفقري لإشكالية بنية السينما المغربية المندمجة في سياق الإستراتيجية العامة للتحديث والتنمية؛ ذلك أن حل هذا الإشكال إنما هو في الواقع حل جذري وبنيوي لكل المشاكل التي تتخبط فيها السينما المغربية - باعتبارها أولا وجوهريا حلقة استراتيجية في بنية الثقافة المغربية - وعلى كل الأصعدة الممكن تلخيصها في الإبداع والإنتاج والترويج.. إن الترويج، التوزيع والاستغلال، لن يتم بشكله الإستراتيجي إلا عند تجهيز البلد بشبكة قاعات ملائمة لأمة تعدادها حوالي 40 مليون نسمة، أغلبيتهم اليوم مفتونة وتعيش يوميا تواصلا وحلما وتموقفا وسلوكا واهتيارات، بالصورة بشكل أو بآخر. إن إشكالية الترويج وبناء شبكة قاعات عبر التراب الوطني مسألة قرار سياسي فالدولة لا تدرك عمق الإشكال وما ستجنيه من ربح على كل المستويات أمام الهزيل من الميزانية، (المتعددة مصادر تمويلها)، التي ستستثمر في تشييد هذه الشبكة العملية والوظيفية من قاعات العرض السينمائي. إن حل إشكال الترويج بتعبير آخر هو أساسا زرع الروح في جسم السينما المغربية الميِتَة إكلينيكيا لأنها لا تصل إلى جمهورها.. وبالتالي، فإنها لا تؤدي وظيفتها التي من أجلها وُجِدَت. هذا الموت الإكلينيكي الوظيفي يعود أساسا - دون أي تعقيد ولا تمييع أو تعويم للنقاش - إلى عدم وجود قاعات سينمائية على امتداد التراب الوطني، كما هو الأمر في البلدان المتوفرة على صناعة سينمائية متكاملة الحلقات. -4- شيء عن بنيات الترويج مع خروج الاستعمار الفرنسي من المغرب، كانت بالمغرب أكثر من 230 قاعة، ولم يكن عدد سكان المغرب يتجاوز 9 ملايين نسمة. كان عدد البطاقات المبيعة سنويا بين نهاية السبعينيات والثمانينيات يتجاوز الأربعين مليون بطاقة سنويا. وسيصدم القارئ إذا أخبرناه بأن هذه الأرقام قد تراجعت اليوم لتصل إلى 1.562.350 بالنسبة لعدد التذاكر المبيعة مقارنة مع 42.000.000 منذ حوالي 40 سنة، وحوالي 40 قاعة سينمائية اليوم مقابل أكثر من 230 قاعة منذ حوالي أربعين سنة. لا يستقيم إدراك هول هذه الحقيقة إلا عند العلم بأن عدد سكان المغرب انتقل خلال نفس الفترة من حولي 9 ملايين نسمة إلى مايقارب الآن 40 مليون نسمة. لا يعني ما سبق - إذا أضفنا إليه تناقص عدد المكتبات والمسارح والحدائق إلا خطر الجهل، ناهيك عن الأمية، فماذا يمكن انتظاره على مستوى تقدم الذهنيات والعقليات وأنماط السلوك لدى المواطن؟ كيف يمكن تصور تحديث للمجتمع وانتشار للديمقراطية والحرية والتسامح والتعايش والمسؤولية والمحاسبة واحترام الاختلاف وصيانة الهوية والقيم الكونية، في ظل قحولة ثقافية وفنية في اليومي المغربي بهذا الشكل؟ -5- شيء مهم عن شبكة القاعات ومنافعها شبكة المهرجانات على امتداد التراب الوطني، التي تبلغ أكثر من ستين مهرجانا، لا يمكن أن تحل محل القاعات لأسباب متعددة؛ ليس أقلها أن كل واحد منها يعيش متوسطا قدره خمسة أيام في السنة: مهرجانات متفاوتة لا خط إستراتيجي تحديثي تنخرط فيه تنظيما وبرمجة وأنشطة ومضامينها. إنها موسمية تقليدية يعتريها الكثير من العطب. نعتقد جازمين أن مسألة تشييد شبكة من القاعات السينمائية الصغيرة والمتوسطة ذات الوظائف المتعددة - وقاعة فاخرة تصلح للأوبرا وموسيقى الرفيعة والمسرح التجريبي الراقي في كل جهة من الجهات الاثنتي عشرة للمملكة لم لا - والتي تغطي التراب الوطني في حدود حوالي 500 قاعة على الأقل، بصيغة تعاون إستراتيجي بين الدولة والجماعات الحضرية والقروية والجهات ومؤسسات دعم متعددة، قد يحل في وقت وجيز نسبيا هذه الإشكالية المتعلقة بالبنيات التحتية الطرق السيارة للصناعات الفنية والثقافية - لترويج الفيلم المغربي. سينتج بالضرورة عن هذه الشبكة من القاعات سلسلة من النتائج أهمها على الإطلاق ومن باب البعد الإستراتيجي التنموي وهو ما يهمنا أساسا: - نهوض السينما المغربية بمهمتها الجمالية داخل المجتمع المغربي بأبعادها التربوية والبيداغوجية والذوقية والتحسيسية والإيديولوجية والتعبوية وبتعبير آخر: سيجد كل مغربي وكل مغربية من خلال الفيلم السينمائي الذي سيكون قريبا منه – متميزا عن الفيلم التلفزيوني والمسلسل والسيتكوم والسكيتش الذي يخلط الآن عامة المغاربة بينها وبين الفيلم السينمائي المغربي - بفضل القاعات الموجودة في كل مكان، صورته وواقعه وثقافته ونفسيته وتطلعاته وحياته اليومية، في مشاهد وأفلام وبأساليب وطرق حكي متعددة ومختلفة. سيجعل هذا القُرب من السينما المغربية رافعة حقيقية وحية للتنمية الثقافية والفنية، وحِصنًا لمواجهة المستورَد والغازي لشاشاتنا على ضرورته، بالطبع، للتلاقح والتثاقف الذي كان ولا يزال غير عادِلٍ في غياب ثقافتنا من هذا القرب الضروري للنهوض بوظيفية سينما ظلت حبيسة بضع قاعات وبضعة مهرجانات، غدت مع المُدة شأن السينمائيين والنقاد والسينيفيليين وحدهم. -6- شيء أهم عن إستراتيجية تشييد القاعات إن حل اشكالية القاعات حل لإشكالية المداخيل وإعادة الإنتاج وفرز الكم من الكيف، وحل لغزارة الإنتاج أيضا، ولمشاكل الإبداع، من خلال التنافس المدعوم بمردودية شريفة لا هي ريع ولا هي غش، على مستوى تصميم تقارير تنفيذ الإنتاج والتلاعب بدعم ثمين للدولة، من طرف منعدمي الأخلاق في غياب محاسبة صارمة وذكية. حجة عزوف المغاربة عن القاعات حجة واهية إذا ما نظرنا من جهة إلى ما يحدث في الدول ذات التقاليد الثقافية عموما، وإذا ما نظرنا إلى الإقبال الكبير للجمهور المغربي على الفيلم المغربي كلما أتيحت له الفرصة، وإذا ما رافقنا تشييد القاعات بفتح المجال في التلفزيون لبرامج الحديث والنقاش وعرض المنتوج السينمائي وإيصاله إعلاميا للمواطن وإثارة فضوله بالدعاية له وببرامج متعددة ومتنوعة للنقد وللقراءة وللتحسيس بأهمية السينما كرافعة للتحديث ولبناء المواطن شرط التنمية المستدامة والتحديث المنشود. إن كُتبنا القريبة الصُّدُور عن الفيلم السينمائي المغربي وعن السينما المغربية - نُفرِّقُ بين البِنية وبين المنتوج - إبداعا وإنتاجا وترويجا في الكتاب الأول، لهو نظرة بنيوية نتوخى منها إظهار الارتباط العضوي بين الإبداع من جهة، وشروط الإنتاج والترويج من جهة ثانية. فلا إنتاج بدون ترويج وإلا فهو إنتاج، (كما هو عليه اليوم)، تحت التنفس الاصطناعي الذي يمنعه من الموت. إن الدعم الذي توفره الدولة إنما يعتبره الكثيرون من المشتغلين في القطاع بمثابة ريع بمعنى ما. إن الحصول على هذا المال ممكن، ودخول نادي المطالبين به جد ممكن، وذلك من خلال بطاقة مهنية شروط الحصول عليها لا علاقة لها بأي معايير ثقافية أو فنية أو فكرية أخلاقية، مندمجة في اإستراتيجية توجِّه وتصُون وتحْمِي إنتاجنا السينمائي، باعتباره رافعة للتحديث وللبناء، في مجتمع يتلمس طريقه أمام مقاومات ماكرة ومُدرَّبَة على التكيف، للإبقاء على مصالحها مُدِرَّة ومُربِحَةً. فكيف لإبداع أن يكون تلقائيا وصافيا وصادقا وقويا، وهو ناتج عن بنيات تمويل وترويج من هذا الصنف بل، وهو المشتغل في الحقل عارف مسبقا بأنه موجه إلى التنافس المفتعل، والضاغط بشروطه وسياقاته؟