اللغة العربية في حرج، وينبغي أن نتحلى بالشجاعة الأدبية والفكرية للاعتراف بالفشل، كمجامع لغوية وبيداغوجيات تدريس ومناهج تربوية .. الضيق الذي تعرفه العربية حاضرا وراهنا هو جزء من التشظي البنيوي الذي تعرفه الذات العربية والإسلامية اليوم بعدما صارت تعيش اغترابا حضاريا وتسولا فكريا على كل المستويات وعلى أكثر من صعيد .. أكبر من أساء للعربية هم دعاة التعريب أنفسهم ولولا الأعاجم لما كان للعربية ولا للعرب انوجاد على مسرح التاريخ (يمكنكم أن ترجعوا إلى الفصل الذي عقده فيلسوف التاريخ ابن خلدون في مقدمته الموسوم بِ "في أن حملة العلم في الاسلام أكثرهم العجم) ويمكنكم أن تتصفحوا تصفحا أمينا سيرة الفقهاء، وأصحاب المذاهب الأربع ومع ذلك قلما اعتُرِف بهؤلاء الأعاجم في التاريخ العربي الإسلامي وبدورهم البنائي والحضاري. إن التحدي الكبير والعائق الأكبر الذي يقف أمام العربية كحجر عثرة اليوم في تقديري هم حراس المعبد؛ تلك النخب الشائخة التقليدية التي تسيطر اليوم على تلابيب الهيئات والمجامع اللغوية الغارقة في أسلفة لغوية مظلمة كما يحلو للساني المغربي الفاسي الفهري أن يسميها، وقد سبق للمعجمي التونسي الراحل رشاد الحمزاوي أن سمى هذه الذهنية اللغوية بالنزعة التوقيفية.. هؤلاء حراس الذين يقفون على مداخل المعاجم وأبوابها اليوم وينتصرون دوما للغة مهجورة أغلبها ميتة و لا توجد إلا في بطون الكتب، فمن منكم يعرف أن هذه المجامع ترجمت كلمة سينما الأجنبية بلكمة "خيالة" فالإضافة إلى التأخر في الترجمة تكون الاختيارات غير موفقة في الكثير من الحالات ولذلك انتشر اللفظ الأجنبي واضطرد في الاستعمال ولم تعرف الخيالة، فبدل أن يفكروا ويولدوا ويبتكروا الألفاظ من داخل الآليات المتاحة كالاشتقاق والنحت والترجمة والتعريب في سيرورة ودأب مستمر لهضم المستجدات ولردم وهدم الفجوة المصطلحية بيننا وبين الآخر الحضاري للتعبير عن منتجات العصر ومفاهيمه العلمية الدقيقة التي أصبحت تقذفها الحضارات الأخرى المجاورة إلينا بشكل يومي بالآلاف يكتفون بالارتداد نحو الوراء والاستنجاد بالسلف واستعادة لغة الأمجاد وكأن الارتداد للخلف هو العشبة السحرية للخروج من هذا المأزق الحضاري.. بالمنطق اللساني والسوسيولساني الحديث تظل اللغة كائنا حيا تنمو وتتطور وقد تموت أيضا كما ماتت مجموعة من اللغات كالسومرية والهيروغريفية والنردية واللاتينية واليونانية القديمة، على هذه النخب القابعة هناك في المجامع التي عُهد إليها مؤسسيا وفي بياناتها التأسيسية تنمية اللغة؛ معجميا ومصطلحيا وتطويرها في مستوياتها اللسانية المختلفة أن تحرك الماء الراكد، وأن تنسق الجهود، وأن تمزق عباءة الخلافات الهامشية الضيقة، عليها أن تؤلف المعجمات الحديثة شكلا ومحتوى، مبنى ومعنى بعيدا عن اللغة البدوية الفخفاخة التي ستجلب الضحك للطلبة في مدرجات الجامعة إذا ما أراد إطار جامعي اليوم متخصص في الأدب القديم أن يحدث طلبته بها، فحقيقة "التحول اللغوي" الحاصل في اللغة العربية من المعطيات الثابتة اليوم التي لا مراء فيها.. إن هذه النزعة التوقيفية هي التي ضيعت على العربية ثلثها كما خلص إلى ذلك المسشترق الهولاندي "دوزي" في استدراكاته المعجمية القيمة والرصينة، ولاسيما في الفترة العباسية وما عرفته العربية عصرذاك من ازدهار في الفنون والسجلات المعرفية الأخرى لما كانت الذات العربية منفتحة على الآخر علميا فاستفادوا وأفادوا وأغنوا وأسهموا في إطار ما نسميه اليوم بالمثاقفة.. التعصب للقديم ولعصور ما سمي بعصور الاحتجاج على حساب الجديد والمولد أضاع حراس المعبد بسبب هذا التشدد ثلث العربية، ولم تجد هذه الثروة اللغوية المهمة المبتكرة طريقها إلى المَعْجَمَة حسب "دوزي" دائما، وما أشد حرج العربية ومسيس حاجتها اليوم إلى مصطلحات الفنون والعلوم.. على هذه المجامع أن تخرج المعجم التاريخي للوجود؛ المشروع الذي بدأه المستشرق الألماني "أكيست فتشر" يوم كان عضوا في المجمع اللغوي القاهري وظل على الرفوف بعد وفاته .. وجب التفكير في بيداغوجيات أكثر نجاعة بدل تدريس القاعدة النحوية والظواهر العروضية والصرفية والبلاغية والأسلوبية في مناهجنا اليوم معزولة بالطريقة نفسها التي كانت تدرس بها في القرن الثاني الهجري .. ثم ما حظ "التخطيط اللغوي" عندنا في ثقافتنا اللسانية اليوم؟ هل نمتلك سياسة لغوية فعلا تضمن لنا التنافس في السوق اللغوية الرمزية؟ وأين وصلت مكاتب التنسيق في الترجمة والمصطلحية؟ هل نجحت في التنسيق بين جهود الباحثين والمشتغلين في اللسانيات العربية اليوم لتحد على الأقل من الفوضى المصطلحية التي لا زالت ترهق الباحث والطالب والمتخصص على حدّ سواء؛ ذلك النزيف الذي لم يتوقف بعد.. إن العربية لا يمكن أن يعاد لها ألقها ووهجها وعبقريتها بالعنتريات والتمجيد والحنينية أو باستعادة اللغة المضرية القديمة الغريبة إلا بالانخراط الجاد والفعلي في البناء المعرفي الحضاري، الذي لا تسهم فيه العربية اليوم إلا بالنزر اليسير قياسا مع ما ينتج باللغة الإنجليزية واللغات الحية، وهذا يتوقف على أصحابها ومتكلميها، فاللغة تتقدم بتقدم أهلها وتتخلف بتخلفهم كما خلص إلى ذلك ابن خلدون قديما.. كما أن امتلاك السلطة الاقتصادية هو امتلاك أيضا للسلطة الثقافية واللغوية والرمزية في هذا العالم الذي يتعرض فيه الضعفاء للابتلاع فإما أن تكون قويا لتسود لغتك وثقافتك أو لا تكون..