غني عن البيان أن علاقة الفصحى بالعامية كانت منذ أول متن لغوي علاقة تهذيب وتشذيب لا علاقة صراع كالتي يدعيها أدعياء نصرة الدوارج- لتبرير مشروعهم اللهجي العامي التفريقي المتهافت- ، نظرا لإيمان اللغويين الأفذاذ بأن العاميات العربية ما هي إلا انزياح شاذ عن العربية الفصحى لابد من رصده، وتبين أسبابه و من ثمة تقويمه، بغية إرجاع الناطق العربي إلى طريق الفصحى القويم، وتصويب اعوجاج خطابه كيلا يفسد ذوقه ويزيغ لسانه . فعلاقة التهذيب - لا علاقة الصراع التي يروج لها دعاة التلهيج- تلمح بشكل جلي حتى في المعاجم المتأخرة ، فلو تصفحنا -مثلا- بعض وريقات من لسان العرب لابن منظور ، لوجدناه لا يتحرج من تبيان بعض الألفاظ الفصيحة التي شوهتها العامة وغيرتها، بل دفعه النظر في الألفاظ التي شوهتها العامة إلى تقسيم هذه الأخيرة-أي العامة- إلى طبقات، فنجده يكرر في أكثر من موضع عند إيراده لبعض المفردات التي شوهتها العامة وغيرتها سواء من حيث الجانب الصوتي/الفونولوجي، أو الصرفي/ المورفولوجي ، قوله:»لفظة قديمة عن العرب غيرتها العامة ألأولى فقالت: كذا،فجاءت عامة سفلى غيرت عن الأولى فقالت: كذا،.. ثم يرشدك إلى الصواب ومتفرعاته، كما نجد هذه الاستراتيجية التعريفية الراصدة لأغلاط العوام ، في مختلِف المعاجم وكتب «لحن العوام» التي سعى أصحابها إلى محاربة اللفظ العامي المشوه بترسيخ الفصيح في الأذهان حفاظا على جمالية وتداولية اللسان العربي بحمولته الثقافية والعقدية في مختلف الأرجاء التي تَبَنَّتْهُ وارتضته طواعية. فهل سار عيوش وحواريوه على هذا النهج في معجم العامية الصفر الذي طبلوا له؟ إذا كان المعجميون العرب قد نظروا في الألفاظ العامية، بغرض تهذيبها، وتصويبها،فإن جهل عيوش بخصائص الصناعة القاموسية، جعله يقلب المعادلة حيث نظر إلى الألفاظ العامية المشوهة ، نظرة تقديس وإكبار، بموجبها جمع ألفاظ عاميته الصفر(0)، التي استقاها من أفواه السوقيين والمشرملين، المنتمين لطبقة الحضيض التي نصطلح عليها ب(طبقة الزيرو)، بدل تهذيب اللفظ العامي، وتصويب اعوجاجه وتبيان أصوله وتاريخه ونوعه،(دخيل، معرب، مولد...)، وتبيان أوجه الاتصال والانفصال بينه وبين اللفظ الفصيح ، سواء أكان عربيا أو أعجميا دخل العامية المغربية من رافد آخر غير عربي. هذا فضلا عن إغراق معجمه بألفاظ نابية لا توظفها إلا طبقة الخاسرين-بالتعبير الدارج-أصحاب التواصل الصفر ( 0) من ذوي الإعاقات اللغوية والانحرافات المنبوذة اجتماعيا وأخلاقيا . ولمّا كشفنا في مقال سابق الموسوم ب»من الأخطاء المنهجية في معجم الدارجة المغربية: العربية الفصحى تشرح الدارجة المغربية» والذي نشرناه بمنبر هسبريس، آفتي الإدعاء والتناقض التي وقع فيها عيوش ومعجميوه، حين شرحوا الألفاظ الدارجة باللغة العربية الفصحى التي ناهضوها ودعوا إلى استبدالها بالعاميات المحلية في مجال التدريس-ينظر المقال 20دجنبر- الحالي - نشرع الآن في تبين آفات دعوى أخرى واهية مفادها « أن الكلمات السوقية الموجودة في معجمه (..) ، نجدها في جل المعاجم العربية ...إلخ»، دون تقييد لدعواه أو تخصيص أو تعيين كأنه اطلع على جل معاجم العربية التي يناهضها. فمن الكلمات المستقبحة التي شرحها نذكر -مع الاعتذار للقارئ-( ح/ز/ ق/ة)شرحها قائلا:» رائحة كريهة تخرج من الدبر»، وقد اخترنا هذا اللفظ باعتباره الأخف وطأة على نفوس القراء-وما خفي كان أعظم- ،لنبين الثقافة التي يريد نشرها دعاة التلهيج في المدارس مادام اللفظ مرآة اللافظ ودليلا على حقيقته ورؤيته التي يسعى إلى نشرها في صفوف المتعلمين متى سنحت له ولأتباعه فرصة فرض التعليم بالدارجة على المؤسسات التعليمية. فهذه اللفظة الممجوجة المذكورة آنفا ، يراها عيوش في لاشعوره الباطن أخف من لفظة (الغائط) الوارد في معاجم اللغة العربية، أو هذا ما أقرّه له-في تقديري- معجميوه من لسانيي الدارجة المغربية على الأقل. ولدحض هذا الادعاء المغلوط، نقول: إن العرب لما عرفوا أن اللسان أكثر الجوارح اختراقا للحرمات ، في حالتي التلفظ- بمكروه- والسكوت- عن الحق- وضعوا خِططا بموجبها يتم حفظ اللسان ، حيث مكنت هذه الخِطَطِ/ الاستراتيجيات الناطق العربي من التمييز بين الألفاظ وتَقْلِيبِها ليس فقط من حيث المعنى وصحة اللفظ بل من حيث موقف الشرع أيضا، فعدل في تواصله اليومي مع الخالق والمخلوق عن كثير من الألفاظ المستقبحة المنهي عنها، من ذلك لفظ (البراز) الذي عدل عنه الناطق العربي بلفظ (الغائط) الذي يظنه معجميو الدارجة أصلا للفظتهم المذكورة ، ومرادفا للفظ (البراز-في معجمه/ خ/ر/...) بينما هو مجرد كناية عنه، فهذا الجهل الذي وقع فيه التلهيجيون مرده إلى جهل بمعاني ألفاظ العربية التي يعادونها، ذلك أن من معاني الغائط في اللغة/الثقافة العربية لا العامية، هو المنخفض من المكان، وهو كناية عن الحدث لا الحدث نفسه كما توهم معجميو الدارجة المغربية. من هنا، نخلص إلى أن معجم عيوش لا يمثل المغاربة في شيء بقدر ما يمثل حقيقة مُؤلفيه من دعاة التلهيج، كما أن الألفاظ والأمثال البذيئة الواردة فيه، من قبيل ألفاظ السب، والقذف والفحش، وحوشي الكلام، ألفاظ محصورة في خطاب أفراد ينتمون لسانيا إلى طبقة سفلى - بيئة التشرميل-، وإن شئتم قلتم: طبقة الزيرو تواصل، وهي طبقة شاذة لا يقاس عليها. (*) إسماعيل علالي، أ.باحث في الدراسات اللغوية بالغرب الإسلامي