هناك فارق كبير بين خطاب سياسي فصيح يوظف عن وعي الأساليب البلاغية وبين خطاب آخر غارق في الرتابة، والكلمات ذات الإيقاع الصاخب، تجعل منتج الخطاب، الذي يظن أو يتوهم، أن الصوت الصاخب بوسعه أن يداري على أوجه القصور، يقع في المبالغة والرداءة. فشتان بين خطاب ينبني على استعارات وكنايات، ويعرف بدقة وقت الإظهار والإضمار، وخطاب ينبني على توجيه الاتهامات والكلام اللاذع. فكيف يمكن للملقي إقناع أو التأثير على المتلقي؟ وهل للخطاب قوة يمكن أن تجعل المتلقي يتجه نحو سلوك ما أو فكرة معينة؟ وكيف يمكن للخطيب أن يبلغ غايته أو يصل لمقصده النهائي؟ لقد أشكلت الفلسفة على الإنسان أيما استشكال واستعصت على الفهم أيما استعصاء سواء من جهة العبارة أو الفكرة أو المنهج أو الموقف، فلقد ربط الفلاسفة التفكير بالحياة والمعرفة النظرية بالاهتمام بالمعلومات المفيدة وجعلوا عملية اكتساب الحقيقة مقترنة بإنتاج المنفعة وصناعة الذكاء وابتكار الآلة واختراع القانون وإضفاء القيمة. لقد اعتمد أرسطو على الرياضيات في مقاربته الفيزيائية والمنطقية للطبيعة التي استقاها من العلماء الإغريق الذين سبقوه على غرار فيثاغورس وطاليس وأرخميدس وإقليدس وديمقريطس وهرقليطس. ولكنه ظل مشدودا إلى أستاذه أفلاطون في تعويله على مبدأ اللوغوس من حيث هو تفكير عقلاني قادر على النظر إلى الطبيعة من جهة العلاقات التي تتكون منها الوقائع والتعبير عنها عبر خطاب متماسك. منظرا للخطابة ومؤسسا للدرس الحجاجي، فقد وضع لها أسسا مناهضة تماما لما كان عليه الحال مع السفسطائيين وغيرهم، فأحدث بذلك منعطفا في مجال تداول الخطاب وممارسته، هذا المنعطف أحل مفهوم الإقناع محل مفهوم التأثير، أي الإقناع الذي يتطلب ترسانة من الحجج والدلائل التي تحترم القيم السائدة في المجتمع، بل تزيد من ترسيخ تلك القيم. كما يرى الفيلسوف أرسطو أن إقناع الآخرين شفاهة أو كتابة يتمثل في مثلث الأخلاق سمعة القائل وشخصيته، والعاطفة المستخدمة، والمنطق، وأفضل رسائل التأثير تلك التي تجمع بين الثلاثة أضلاع بتوازن مدروس يتناسب مع متلقي الرسالة. والإقناع هو الجهد المنظم المدروس الذي يستخدم وسائل مختلفة للتأثير على آراء الآخرين، وأفكارهم بحيث يجعلهم يقبلون ويوافقون على وجهة النظر في موضوع معين، وذلك من خلال المعرفة النفسية والاجتماعية لذلك الجمهور المستهدف. ولقد جاء في بعض كتابات أرسطو قوله إن الإقناع يتحقق من خلال شخصية المتكلم إذا أقنعنا كلامه بأنه صادق، فنحن نصدق بعض الناس أكثر من البعض الآخر... ومن هنا فإن نجاح عملية الإقناع ترتكز على كسب ثقة الناس، المصداقية، الاحترام والتقدير، القدرة على استخدام أساليب الإقناع، امتلاك مهارات الاتصال، والقدرة على الاستماع والتفكير المنطقي واستخدام الإشارات والتلميحات بالوجه واليدين والعينين، إدراك العوامل النفسية، والمهارة في تتبع مكان الاستجابة عند المتلقي، فكم من خطيب خط فشلا بكلمات وكم من خطيب رسم طريقا بكلمات ومن ذلك فإن الموضوع أو فحوى القضية أو لب الحديث يجب أن يكون واضحا بعيدا عن الغموض، أن يحتوي على الجانب الإيجابي والمؤيد وعلى الأدلة والبراهين والحجج القوية والابتعاد عن المواجهة بالمجادلة، استخدام العبارات المناسبة والمنطقية الملائمة لظروف إنتاج الخطاب. من هنا فإن الاهتمام بالآخرين هو مكون أساسي للاتصال الجيد معهم وإقناعهم بالأفكار والآراء المبتغاة لذا يجب إظهار التقدير للجمهور لزيادة معدل التجاوب. وحتى يمكن للمتحدث أن يكون مقنعا فلا بد من توافر ثلاثة أركان فالركن الأول يرتبط بصدق الشخص وتركيب شخصيته وأخلاقه ومدى نزاهته وإلى أي مدى يمكن الوثوق به وبوعوده، أما الركن الثاني وهو يتعلق بقدرة الشخص على استمالة من يرغب في إقناعهم بتصديق روايته والتعاطف معه، أما الركن الثالث فيرتكز على المنطق أي لا بد أن يخاطب المتحدث عقول المستمعين وليس قلوبهم فقط فمن دون وجود منطق وحجة وأدلة وبراهين وحقائق وبيانات فيصعب إقناع الآخرين. وتبدو الأطروحة التي شرحها أرسطو: منطقية الخطاب "اللوغوس"، وأخلاق المتكلم "الإيتوس"، وأهواء السامع أو حالته العاطفية "الباتوس"، إضافة إلى البلاغة، وإثارة العواطف والحالات النفسية المتقلبة بين إقدام وإحجام، وحب ومقت، وانتقام وصفح، الأكثر نضوجاً وديمومة وفائدة لكسب الجمهور المتلقي والتأثير عليه. من هنا فالخطاب السياسي يعد من القوى المؤثرة بشكل مباشر في عقول الجماهير وتعتمد فاعليته على قدرة القيادات السياسية على صياغة الأهداف والقرارات بشكل مقبول إلى عقول الناس، وذلك من خلال التركيز واستخدام ما سبق. لكن السؤال هو كيف ينتج عن ضعف الخطاب السياسي ثبات في المناصب السياسية؟ ليظهر لنا جليا اختلال المنطق في العملية السياسية. لقد شيد أرسطو الخطابة بشكل مستقل، عن الفلسفة وضمن المنطق وعدها علما شفويا يضبط العلاقة التواصلية الإقناعية، بين البات والمتقبل وبين المتكلم والسامع وبين المرسل للصور والمشاهد المتلقي لها، لتختلف تماما مع أن استخدام القوة بصورها كالتهديد والوعيد هو أسوأ خيار لأنها تراكم مشاعر الكراهية والعناد والرفض. لقد تفطن أرسطو إلى أهمية فضيلة التعقل في سبيل إصابة الحد الأوسط في جميع الأعمال وبرر ذلك بأن الشخص غير المعتدل لا يتبع العقل وإنما يتصرف وفق الانفعالات المتقلبة ويظل عرضة لتأثير الأهواء، بينما الفضيلة الأخلاقية تستلزم الاعتدال وتختار التوسط بغية تفادي الوقوع في رذائل التفريط والإفراط. *طالب باحث في ماستر التواصل السياسي