تعلمت من المفكر المصري زكي نجيب محمود أن سيرتنا الذاتية هي، في حقيقتها، سِيَرٌ متعددة، لذلك فهمت منذ مرحلة متقدمة من عمري أني إذا أردت أن أحكي لأبنائي وأحفادي عن حياتي مستقبلا، فسيكون علي أن أحكي لهم قصصا متباينة ولكنها، في نهاية المطاف، متكاملة. من "سِيَري" الذاتية التي قد يستفيد أي قارئ آخر من معرفتها حكاياتي مع الكتب... إنها "سيرة" قائمة بذاتها، وحكاية لها حبكتها الخاصة. لذلك أحب أن أشارك مع القارئ الكريم (وخصوصا مع القراء الشباب) جزءا صغيرا من سيرة علاقتي الشخصية بالقراءة والكتب.. الغاية من هذه المشاركة أن أوضح فكرة أساسية، وهي أن فعل القراءة هو في حقيقته "سيرة ذاتية"... قصة لها "حبكتها" الخاصة... و"تاريخ" فريد يختلف من قارئ إلى قارئ، بحيث يمكن أن نستفيد من اطلاعنا على تفاصيل كل "تاريخ قرائي". كلمة histoire في الفرنسية و history في الإنجليزية مشتقتان من لفظة سنسكريتية قديمة تعني "الحكمة" ... لا يمكن أن نكتشف "الحكمة" إلا في التاريخ. أحب أن أقرأ كل شيء يستغرب بعض أصدقائي (وأحيانا يغضبون أيضا) عندما أحدثهم عن كاتب يبدو أنه بعيد من تخصصي الضيق (اللسانيات، الإنجليزية، التواصل...) مثل الجابري. لذلك، أكون مضطرا أحيانا لأبين لهم أني قرأت معظم كتابات هذا الكاتب قبل سن الرابعة والعشرين، وأني كنت أحفظ بعض المقاطع منها، وأني كنت على اطلاع حتى على الحوارات التي كانت تجرى معه في المجلات المغربية وغيرها. استغرب أحد أصدقائي ذات يوم عندما بدأت أناقش معه كتاب "إعجاز القرآن" للباقلاني رحمة الله تعالى وحواشي تفسير البيضاوي. كان أفضل صديق لي عندما كنت أقطن بمدينة الدارالبيضاء رجل ستيني يمتلك أكبر خزانة شخصية رأيتها في المغرب. كنت ألتقي به كل يوم خميس على الساعة الرابعة بعد الزوال لأستمتع بحديثه لي عن الكتب... كان أقرب الأصدقاء إلي دائما أناس مدمنون على التهام الكتب. الكتب "سيرة ذاتية" قائمة الذات في تاريخي الصغير الذي أسميه "حياتي". لذلك، فسأحكي لكم بعض المشاهد الأساسية في هذه السيرة (إذا كان الأمر يهمكم من طبيعة الحال). حكايتي مع برغسون! سأحكي لكم لي اليوم قصتي مع فيلسوف فرنسي اسمه هنري برغسون.. لست أدري إن كنتم تعرفون هذا الرجل العظيم. هنري برغسون حاصل على جائزة نوبل للسلام تقديرا لإمكاناته الرائعة في التعبير عن أعقد الأفكار وأكثرها تجريدا وغموضا بأسلوب سلس وواضح. تعرفت على كتابات برغسون عندما كان سني ثماني عشرة سنة (عام 1988) في الخزانة البلدية لمدينة مراكش. كنت أعيش في تلك الأيام (وأنا في كامل عنفوان مراهقتي) أزمة "وجودية" حادة... اكتشفت لأول مرة بأن "الحياة" (بالمعنى البيولوجي للكلمة) لا يمكن أن تكون مجرد امتداد طبيعي للمادة الميتة. فتجارب باستور، التي كنت أقرأ عنها، أقنعتني بأن "الحياة" لا يمكن أن تأتي إلا من "الحياة".. الباكتيريا لا تأتي إلا من الباكتيريا .. والعُضيات لا تأتي إلا من العُضيات... فمن أين تأتي الحياة إذن؟ ممّ خُلقت هذه الحياة؟ لقد كان هذا السؤال "وجوديا" بالنسبة إلي؛ لأننا كنا نعتقد أن الفكر الماركسي، الذي تشربه جيلي بشكل قوي، قد أجاب عن هذا السؤال بشكل حاسم: الحياة تأتي من المادة غير الحية بتوسط عمليات كيماوية معقدة. إلا أن تعرفي على اكتشافات باستور الطبية أقنعني بأن هذا التفسير غير صحيح على الإطلاق. الحياة تأتي من الحياة وليس من المادة... ماركس وإنڭلز خدعاني! أول كتاب لبرغسون حصلت عليه في الخزانة البلدية كان عنوانه "التطور الخلاق" (ليڤلوسيون كرياتريس).. وكانت فكرته مثيرة ومقنعة إلى حد بعيد: الكائنات الحية تتطور (على الطريقة الداروينية) .. ولكن ما الذي يجعلها تتطور؟ آلية الانتقاء وبقاء الأنسب غير كافية لتفسير تطور خلايا بسيطة مثل الأميبة إلى عضو شديد التعقيد مثل الدماغ الإنساني. جواب برغسون عن هذا السؤال هو: الكائنات الحية تتطور لأنها تتضمن في بنائها مبدئين مختلفين: مبدأ "الحياة" ومبدأ "المادة".. ما الفرق بين هذين المبدأين؟ مبدأ "الحياة" متدفق كالماء، أما مبدأ "المادة" فحادٌّ كالمكعبات. مبدأ "الحياة" حر، أما مبدأ "المادة" فمحكوم بالحتمية الطبيعية. مبدأ "الحياة" "تلقائي"، أما مبدأ "المادة" فميكانيكي. مبدأ "الحياة" يتكيف مع كل ما يمنع تدفقه وجريانه، أما "مبدأ "المادة" فغبي يقف عند الحدود التي توضع له. "الحياة"، إذن، مبدأ قائم الذات يختلف عن مبدإ "المادة" بشكل جذري. بعد ذلك، كانت لي فرصة قراءة كتاب ضخم للفيلسوف البريطاني برتراند راسل عنوانه "تاريخ الفلسفة الغربية" كان يتضمن تفسيرا رائعا لفلسفة برغسون.. تعلمت من هذا التفسير أن برغسون كان يؤمن بأن مبدأ "الحياة" يشق طريقة في المادة شقا (الكلمة الإنجليزية التي استعملها برتراند راسل هي bifurcate) حتى إذا ما اعترضته صعوبة في هذا "الشق"، فإنه يتكيف ويتلون بشكل مبدع مبتكر إلى أن ينجح في مهمته الأصلية التي هي البقاء والامتداد والسيطرة على مبدإ المادة سيطرة تامة. عندما قرأت كتاب "الضحك" لبرغسون (وهو الكتاب الذي أراد هذا الفيلسوف أن يفسر فيه ظاهرة التفكه: لماذا نضحك؟) لم أجد صعوبة تذكر في فهم مقاصده، لأن هذا الكتاب ليس سوى تطبيق لنظرية الفيلسوف في "الحياة" على ظاهرة الضحك. فمعظم ما يضحكنا هو من جنس الكلام الميكانيكي أو الأفعال الميكانيكية مما يدل على تجرد صاحبه من مبدإ "الحياة" وخضوعه لمبدإ "المادة" التي يحكمها التكرار، والمواقف غير المبدعة، وعدم التكيف الذكي، إلخ. وبهذا يكون الضحك نوعا من "الانتقام" من كل مظاهر "المادة" في حياتنا واحتفالا بتدفق الحياة وتلقائيتها. تعلمت الكثير من برغسون... تعلمت منه العمق في التفكير، والوضوح في التعبير، والتأني في تبليغ الأفكار، والتفصيل النافع في الشرح... كما تعلمت منه أن حياتنا تتضمن سرا أعمق بكثير من السطحيات التي تعلمتها من كارل ماركس وإنڭلز ومفسرهما الشهير جورج پوليتزر. لذلك، قررت أن أتعمق أكثر في الدرس والتحصيل. حكايتي مع برتراند راسل! علاقتنا بالكتب هي "سيرة ذاتية" قائمة بذاتها.. لها منعرجاتها الخاصة، وإنجازاتها الخاصة، وحُبكتها الخاصة... سأحكي لك الآن قصتي مع كاتب وفيلسوف آخر اسمه برتراند راسل. برتراند راسل فيلسوف ثاقب الذكاء (وهل هناك فيلسوف غير ذكي على أية حال؟) وناجح في حياته الشخصية بشكل مثير... عاش سعيدا ومرحا.. واستمتع بلياقة بدنية عالية حتى توفي في التسعينيات من عمره في فبراير عام 1970. لا أذكر الطريقة التي تعرفت بها على هذا الفيلسوف وعلى كتاباته بدء الأمر؛ لكني أذكر جيدا أنني سمعت عنه في سن التاسعة عشرة، أي السنة التي اختلّت فيها كل موازيني المعرفية وفقدت الثقة بشكل شبه كامل في مصداقية المعرفة الإنسانية. كيف؟ قبل أن أحكي لك هذه القصة أريد أن أستطرد قليلا لأشير إلى مسألة مهمة: عندما تروي سيرتك الذاتية المتعلقة بالكتب فإنك قد تولد انطباعا خاطئا عند قارئك مفاده أنك تعيش حياة الزهاد النساك الذين يكرسون كل وقتهم للعبادة والقراءة... هذا لم يكن صحيحا بالنسبة إلي على الإطلاق. فقد كانت سنة 1989 التي تعرفت فيها على برتراند راسل وكتاباته مليئة بالصخب الشبابي، والمغامرات (التي تصل أحيانا إلى حد المجون)، والموسيقى، وكثير من نزق أواخر مرحلة المراهقة. لكن، وبالموازاة مع هذا الطيش الشبابي، كانت سنة 1989 هي السنة التي قرأت فيها كتابا لأينشتاين عنوانه (كيف أرى العالم)، وهي السنة التي بدأت أدرس فيها بعض كتابات فرويد. درست أول كتاب تقديمي عن التحليل النفسي عنوانه "خمسة دروس في التحليل النفسي"، ثم كتابات فرويد نفسها مثل "الطوطم والطابو" و"تأويل الأحلام". كانت هذه أيضا هي السنة التي درست فيها كتب الجابري التعليمية عن الإبستيمولوجيا، ثم كتابي "تكوين العقل العربي" و"بنية العقل العربي". وهي أيضا السنة التي قرأت فيها كتابا (بالإنجليزية) لجون ديوي عنوانه "إعادة البناء في الفلسفة"... الجامع بين كل هذه الكتب (وأخرى كثيرة قرأتها في الفترة نفسها تقريبا) أنها شكّكتني بشكل جدي في جدوى المعرفة العلمية ومصداقيتها. تعلمت من أنشتاين أن النسبية محايثة للواقع وليست مجرد تشكك تنسيبي في الواقع. تعلمت من فرويد أن الجزء الأكبر من حياتنا النفسية الحقيقية غير واع وغير شفاف وغير قابل لأن يتحكم فيه كما كنت أعتقد بسذاجة. تعلمت من الدروس الإبستيمولوجية للجابري (وجيل المفكرين الذين تكونوا على يديه) أن الرياضيات غير يقينية لأنها مبنية على مسلمات غير قابلة للبرهنة، وأن العلم اكتشف عوالم (مثل عالم الكوانطوم) شكك في مبادئنا "المنطقية" (مثل مبدإ "عدم التناقض" = لا يمكن أن نقول الشيء ونقيضه، ومبدإ "المحلية" = لا يمكن للشيء الواحد أن يوجد هنا وهناك في الوقت نفسه!). تعلمت الكثير عن تعدد المنطق، وتعدد الرياضيات، وتعدد العلم، وسديمية الحقيقة، ووهمية اليقين... اختلطت علي كل الأوراق لأجد نفسي أومن بكل شيء ولا شيء في الوقت نفسه. اقتنعت بأن كل ما يمكن أن نفعله إذ نحاول أن نفهم العالم المحيط بنا (إن وجد هذا العالم أصلا) هو أن نبني "نماذج" أو "تمثيلات" أو "نظريات" نصور بها هذا الواقع بشكل رمزي تنخره أوهامنا وأيديولوجياتنا وأوهامنا. وبهذا، وصلت إلى الاقتناع شبه التام بقولة فايرباند الشهيرة: "كل شيء ممكن everything goes". كان هذا التّيه المعرفي يتعايش في حياتي مع إيمان متفائل إلى حد التطرف ببساطة الحياة وجمالها.. بقدرة الإنسان على التطور إلى الأفضل.. بالطيبوبة الأصلية للناس... وبضرورة الاستمتاع بالحياة. بذلك جمع مزاجي المعرفي بين التحيُّر الفكري والرغبة في التأسيس لأسلوب حياة بسيط مؤمن بقيمة الحياة وجدواها. كان سؤالي العميق هو: كيف يمكن أن نجمع بين هذين المطلبين. وجدت جزءا مهما من الإجابة عن هذا السؤال في برتراند راسل. برتراند راسل عالم رياضيات ومنطق كبير، وفيلسوف ثاقب الذكاء... ولكنه في الوقت نفسه "معلم" حاذق، ذو قدرات بيداغوجية فريدة في توصيل أفكاره. أول كتاب قرأته له بالكامل هو "تاريخ الفلسفة الغربية" الذي تناول فيه الفلسفة الغربية منذ جذورها الأولى في العهد اليوناني القديم حتى القرن العشرين. لكن هذا الكتاب لم يكن مجرد كتاب في تاريخ الأفكار، بل كان يتضمن أيضا وجهة نظر راسل في القضايا الفلسفية التي كان يتناولها.. بالنقد أو التشكيك أو التصويب وغير ذلك من أشكال التدخل المعرفي الفعال. تعرفت على تاريخ الفكر الفلسفي الغربي الغني من خلال هذا الكتاب وخرجت بنتيجة مهمة مفادها أن تاريخ الفكر هو بالفعل تاريخ تطوري.. لقد أصبحنا نعرف أكثر بكثير مما كان يعرفه أجدادنا. بدون شك، هناك أمور كثيرة لا نزال نجهلها.. بدون شك، معرفتنا العلمية تمر بأزمة خانقة... لكن ما لا يمكن أن ننكره هو أننا أصبحنا نعرف أكثر بكثير مما كان يعرف أجدادنا... هذه هي الفكرة الأولى التي حررتني من وهم "النسبية المطلقة". الفكرة الثانية لم تتضح لي بشكل أكبر إلا عندما درست كتابا ثانيا لبرتراند راسل عنوانه "مشكلة الفلسفة".. عصارة هذا الكتاب أن "الصدق" هي مجرد صفة من صفات الجمل و أن مناط الحكم بالصدق على هذه الجمل بالصدق هو مطابقة مضمونها للواقع وأن معظم مشكلات الفلسفة خصوصا والمعرفة العلمية عموما تأتي نتيجة لعدم استعمال اللغة استعمالا جيدا... لذلك ابتدع راسل نوعا من التحليل سماه ب"التركيب التحليلي"... غايته أن يرد كل جملة إلى بنيتها المنطقية العميقة التي تتخفى وراء الاستعمال المنطقي غير السليم الذي تفرضه اللغة. فعندما تقول: "جاء زيد" مثلا، فإن كلامك ينبغي أن يحلل هكذا: يوجد هناك (س)، بحيث (س) رجل، و (س) جاء. إذا حللت الجمل بهذه الطريقة، فإنك ستحل جميع المشكلات الفلسفية التي كانت تستعمل لتقويض أسس المعرفة الإنسانية والتشكيك في جدواها. وبالمناسبة، لا يزال اللسانيون (مثل شومسكي) يستعملون هذا النوع من التحليل في البحث اللساني (يسمونه ب"البنية المنطقية"). قرأت مؤلفات أخرى لراسل مثل "تحليل المادة" (1927)، و"محاولات تشككية" (1928)، و"تحليل العقل" (1921)، و"مدح الكسل" (1935)، و"الدين والعلم" (1935)، وأخرى كثيرة.. أهم ما تعلمت من راسل أن المعرفة العلمية تتطور، وأن أفضل ما نعرفه تعلمناه من العلم، وأن لا بديل للعلم سوى الدجل ومختلف أنواع اللاعقلانية والجهل... تعلمت منه أيضا أننا نستطيع أن نعبر عن أعقد أفكارنا وأكثرها عمقا بشكل بسيط يفهمه الجميع، وأن العلم في جوهره تواصلي، وأن تفاؤلي وبساطة أسلوب حياتي أقرب من أي شيء آخر لروح العلم... لم أكن أتفق مع راسل في كل شيء، ولكنه كان معلمة أساسية في تاريخ نموي المعرفي. "نقرات" رولان بارث لست أذكر أين قرأت كلاما للناقد الفرنسي رولان بارث مقتضاه أن الناقد عندما يؤول عملا ما فإن عمله يكون شبيها بعمل النجار الذي يضع مسماره على قطعة الخشب ويطرق رأسه بمطرقته طرقا خفيفا، فينقله إلى مكان آخر فوق قطعة الخشب ليعمل نفس الشيء، قاصداً بطرقاته الخفيفة أن يبحث عن "أكْثَفِ" موقع في قطعة الخشب، أيْ الموقع الذي يثبت فيه المسمار ويتجذر بشكل أقوى. تعلمت كيف أستعمل هذا المبدأ في قراءتي للكتب عام في صيف 1994. سأحكي لك كيف تم ذلك. كانت سنتا 1993 و1994 سنتين متميزتين في تكويني الأكاديمي والفكري لأكثر من سبب. أولا، 1994 هي السنة التي أنجزت فيها بحث نهاية السنة الرابعة في شعبة اللغة الإنجليزية، وقد تطلب ذلك قراءة ل"أمهات" الكتب في علم التداوليات ("كيف نصنع الأشياء من الكلمات" لأوستين، "الأفعال الكلامية.." و"القصدية" لجون سورل، "الإستراتيجيات الكلية للتأدب" لبراون وليڤينسون، "الملاءمة" لسپربر وويلسون، وغير ذلك كثير). هذا بالإضافة إلى دراستي لقائمة طويلة من الروايات الكلاسيكية الإنجليزية ك"ذ ريد بادج أووڤ كاريدچ" للأمريكي ستيفن كرين، "ذ ماير أوڤ كاستر بريدچ" لثوماس هاردي، و"ڤوس" لباتريك وايت، و"ذ سپاير" لويليام ڭولدينغ. تعدد القراء ات وتشعبها شجعني على التفكير في طريقة للإحاطة بكل تفاصيل ما أقرأ بأقل مجهود ممكن محصلا أطيب الثمار وأعظمها نفعا. والسبب الثاني هو أني وضعت لنفسي إستراتيجية لقراءة خمسة كتب كاملة خارج المقررات الدراسية وبعيدا عن تكويني الأكاديمي الضيق قراءة جيدة في أربعة أشهر. والكتب هي: "النصوص الماقبل سقراطية" لكاتب اسمه نايم؛ "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة" للجرجاني؛ سونيتات شيكسبير؛ والكتاب المقدس عند الهندوس المسمى ب"الباغاڤاد جيتا". سنتا 1993 و1994 لم تكونا مجرد سنتين للقراءة والتحصيل بل أيضا سنتين للاكتئاب الروحي والعاطفي الحاد.. لن أدخل في تفاصيل هذا الاكتئاب الروحي والعاطفي لأني سأكون مضطرا إذا فعلت ذلك أن أصرح بتفاصيل علاقتي مع أشخاص أحترمهم أو ألمح لها، وهذا ما أكره أن أفعله احتراما لهم ولما صارت عليه حياتهم اليوم. يكفي أن أقول بأني قراءاتي في هذه الفترة كانت مصحوبة بمشاعر قوية وصلت في بعض لحظاتها إلى درجة الاكتئاب الحاد والسوداوية المرة. كنت أحاول أن أبحث فيما أقرأ عن خلاص من الاكتئاب الحاد المؤقت الذي أصبت به لأسباب متعددة. الجديد في قراءتي للكتب الخمسة التي ذكرت عناوينها أني أصبحت أقرأ بمنهجية بالمنهجية نفسها التي ما زلت أستعمل إلى اليوم. منهجيتي بسيطة جدا ولكنها فعالة: عندما أقرأ كتابا، أقرأه وأنا أتخيل بأني سأقدم تقريرا مفصلا عما فهمته وما استفدته من ذلك الكتاب لإنسان ذكي. أتخيل مثلا بأني سأقدم عرضا أمام جمهور ذكي سيحاسبني على حسن فهمي لذلك الكتاب. لذلك فقد كنت أبحث، على طريقة رولان بارث، عن مكان "أثبت فيه المسمار بشكل جيد": وأنا أقرأ، كنت أبحث عن عبارة أو فقرة تختزل كل ما يريد أن يقوله الكاتب بشكل مقتضب ومبين لمقاصده الأساسية. اكتشفت مثلا أن النص الذي يعبر أكثر من غيره عن روح التفلسف عند فلاسفة ما قبل سقراط هو قصيدة طويلة عن الوجود لبارمينيدس، وأن النص الذي يعبر به الجرجاني عن منهجه في الدفاع عن إعجاز القرآن (في كتاب "أسرار البلاغة") هو نص يقول فيه "جملة ما أردت أن أبينه لك أنه لا بد لكل كلام تستحسنه ولفظ تستجيده... إلخ"، وأن السونيت الأكثر قربا من ثيمات الحب والزمان في سونيتات شيكسپير المائة وأربعة وخمسين هي السونيت رقم 138، وأن النص المفتاح في كتاب "الباغاڤاد جيتا" هو قصته الفاتحة التي يحادث فيها "كريشنا" الأمير "أرجونا" وهو يستعد لمعركة ضد أعدائه. لم أكن أقرأ هذه الكتب فقط بل كنت أسجل ملاحظاتي في دفتر خصصته لذلك. حتى عندما أنهي قراءة الكتاب، أعمد إلى النص "المثبت للمسمار" فأشرحه لنفسي بصوت عال، فأرتب عليه كل التفاصيل التي سجلتها في دفتر ملاحظتي، فتكون النتيجة تقريرا مفصلا عن الكتاب ومضامينه ورأيي في تلك المضامين. أذكر أني جمعت دفاتر كثيرة ملأتها بملاحظاتي وتعليقاتي حول ما كنت أقرأه. تعلمت من هذه الكتب ومن منهجية دراستي لها أن الأفكار مهما كانت معقدة ومتشابكة تبقى دائما قابلة ل"التكثيف" و"النقل". يكثفها الكاتب في نصوص بين ثنايا مكتوبه ينبغي البحث عنها (منهج بارث)، وينقلها القارئ إل ى غيره بعد أن يكتشف المكان الذي كثف فيه الكاتب أفكاره وبعد أن يطلع على تفاصيل هذه الأفكار. تعلمت أيضا أن قراءة ما يهمنا يساهم بشكل كبير في تخفيف الأزمات النفسية التي قد نمر بها في حياتنا. [email protected]