ما الذي يغرينا بالتفكير على طريقة الفلاسفة؟ ... كيف تدخل الفلسفة إلى حياتنا بشكل هادئ ومتواصل إلى أن تصبح أسلوبا للتفكير و"آلية" تلقائية لإنتاج الأفكار والمفاهيم؟ ... ليس شيء أكره لنفسي من الخرافات التي تعجُّ بها سوق الفلسفة "الأكاديمية" بمغرب اليوم، والتي توهم الناس أن الفلسفة نمط من المعرفة يشتغل ب"آليات" أو "قواعد" أو "قوانين" ضمنية ينبغي استصراحها والكشف عنها ... والعمل بمقتضياتها إذا أراد المرء أن يمارس التفلسف! لن أحكي لك ياعزيزي القارئ عن دخول التفلسف إلى حياة سقراط وأفلاطون وابن رشد وپول ريكور وإيدي ساشيكو وغيرهم من عظماء الفلاسفة في التاريخ الإنساني. فما كُتب عن تفلسف هؤلاء كثير وغزير ... بل سأحكي لك عن معاناتي الشخصية مع فكرة فلسفية واحدة ... أنا مجرد طالب علم بسيط، لا أزال أتعلم من طلبتي وزملائي وإخوتي في النضال السياسي والكُتّاب الذين أقرأ لهم كل يوم .. ولكني طالب عِلمٍ تعلَّم الكثير من التأمُّل في الشكل الذي دخلت به الفلسفة إلى حياته الشخصية ... فلم أكن أتأَمّل فقط، بل كنت دائما أتأمّل في تأمُّلي. أريد أن "أستبيح مسامعكم" (وهذه عبارة تعلمتها من أحد فلاسفة مغرب اليوم أكنُّ له ودّاً وتقديرا خاصين اسمه محمد موهوب صاحب كتاب "ترجمان الفلسفة") بأن أحكي لكم قصتي مع فكرة ( = "إشكالية") فلسفية عانيت معها معاناة حقيقية ... عندما أقول "معاناة" فأنا أعني تماما ما أقول .. "معاناة" بما تجمعه هذه اللفظة من معاني "التحيُّر الفكري" و"الخوف من الضّلال" و"بذل المال لاقتناء الكتب" و"السهر الكثير من أجل إنهاء قراءة كتاب" و"الإنفصال عن عالم الناس لزمن قد يطول" و"حرمان الجسد من مُتع الحياة الكثيرة" .. وغير ذلك مما قد يبدو نوعا من "الزّهد" فيما يستلذه الناس من مُتع الحياة ومغرياتها .. س"أستبيح مسامعكم" لأحكي لكم قصتي مع فكرة "العقل" التي هي أصل دراستي ل"اللغة" و"الإبتكار" ...! "اكتشاف مشكلة" رغم أني كنت أبدي كثيرا من السذاجة في طفولتي ومراهقتي (والآن أيضا إلى حد ما)، فقد كان ذهني دائما مشغولا بفكرة (لم أكن أعرف كيف أعبر عنها) مرتبطة بالعقل. اسمحوا لي أولا أن أوضح هذه الفكرة:عندما تنظر إلى شجرة، فما "يحضر" أمامك هو شجرة حقيقية. ما كان يربِكُني دائما هو معنى "يحضر" ... الشجرة نفسها (وليس مجرد صورتها المنطبعة في شبكية عيني) تحضر في تجربتي. "حضور" الأشياء في تجربتنا يجعلنا نبدو مختلفين عن الحاسوب الذي نطمح بواسطته إلى تقليد الذكاء الإنساني. الذكاء ليس مجرد قدرة على حل المعادلات الرياضية (الحاسوب يستطيع أن يفعل هذا أيضا) ... بل هو قدرة الذكاء على "استحضار الأشياء" في تجربته الخاصة، وكأنه يعيد خلق الأشياء من جديد في تجربته الذاتية. سنة 1996 حصلت على كتاب مهم عنوانه "الله والفيزياء المعاصرة" (بالإنجليزية) لبول ديڤيس، صادر عن تاتش ستاون سنة 1984. بول ديڤيس ملحد ذكي. فكرته الأساسية في هذا الكتاب هي أن العلم الفيزيائي المعاصر لا يستطيع أن ينفي وجود إله ولكن لا يحتاج لافتراض وجود إله ليفسر العالم منشأً وبناءً. لم أكن مهتما كثيرا بدفاع ديڤيز المستميت عن نظرته "الطبيعية" (الإلحادية) بقدر ما كنت مهتما بجانب من حجته أورده في الفصلين السادس والسابع من الكتاب .. كانت فكرته هي أن كل ما يفعله العقل البشري، يستطيع الحاسوب أن يقوم به أيضا. بعد ثلاث سنوات من قراءتي لكتاب ديڤيس، وجدت كتابا هاما في إحدى مكتبات ڤاليتا المالطية عنوانه "تشريح الفكر" لصاحبه إيان ڭلين صادر في نفس السنة عن مطبوعات جامعة أكسفورد. هل الفكر قابل للتشريح؟ العنوان نفسه كان مستفزا بالنسبة لي. كتاب ڭلين ضخم (أكثر من 600 صفحة) ولكني قررت قراءته كاملا لعلّي أجد فيه إجابة شافية عن سؤالي الأصلي (ماذا يعني أن تكون الأشياء "حاضرة" في تجربتنا) .. استفدت من هذا الكتاب من أوجه مختلفة: أولا استفدت منه لأنه عرفني على علم جديد كنت أسمع عنه ولكن لم أكن أعرف عنه الكثير: إنه العلم المعرفي the cognitive science. ثانيا من خلاله تعرفت على رواد العلم المعرفي وعلى كتبهم التي سأحصل فيما بعد على معظمها. تعرفت على بينروز، عالم الفيزياء الرياضية، وكتابه الذي صدر عام 1994 الذي عنوانه "ظلال العقل: بحث في علم الوعي المفقود". من خلال ڭلين تعرفت أيضا على ديڤيد مار الذي ألف كتابا عام 1982 حول البنية المعرفية للإبصار (عنوان كتابه "الإبصار") والذي تأثر شومسكي برصده لمستويات ثلاثة في دراسته لأي معرفية (اعترف شومسكي بذلك في أحد الحوارات الصحفية) ... كما تعرفت على فيلسوف ملحد إسمه دانييل دينيت معروف بكتاب له منشور عام 1995 عنوانه "فكرة داروين الخطيرة". هل وجدت في كتاب ڭلين والكتب التي تعرفت عليها من خلاله أي جواب على سؤالي الأصلي ... لا! .. بل إني تعلمت من دانييل دانيت أن سؤالي مجرد سؤال موهوم (سؤال مبني على أوهام كثيرة)! ... موهوم؟ .. كيف؟ ألا تكون الأشياء حاضرة في وعينا بالفعل؟ .. جواب دينيت أن السؤال مبني على افتراضات تجعله غير منسجم داخليا. مثلا، عندما نقول بأن "الشيء حاضر في تجربتي" فإني أفترض أن هناك "ذاتا" ما أحيل عليها بياء المتكلم في عبارة "تجربتي" وهذه الذات مجرد وهم لا يمكن أن أثبت وجوده ... وكأنما أفترض وهما وأستنتج من افتراضي بأن ما أفترض وجوده يحتاج إلى تفسير. لم يقنعني دينيت لأسباب كثيرة أهمها تلك التي صاغها فيلسوف آخر اسمه ديڤيد تشالمرز في مقال له عام 1995 عنوانه "مواجهة مشكلة الوعي". فقد دافع هذا الفيلسوف المتميز عن نفس السؤال الذي طرحته في مراهقتي وسماه بسؤال "المشكلة الصعبة" ... صاغ تشالمرز هذا السؤال بشكل أنيق وانتقد كل من حاول أن يختزل الوعي إلى شيء آخر غير القدرة على استحضار الأشياء في التجربة. لم يستطع دينيت أن يصمد أمام قوة حجة تشارلمز. منذ سنتين استدعى ماستر الفلسفة في كليتنا (الذي أدرس فيه مادتي الفيلولوجيا والتداوليات) أحد الفلاسفة الأمريكيين المعاصرين (اسمه ڤيجي) من الذين يفتخرون بكونهم تكونوا على يد دانييل دينيت (دينيت هو من أطر راسلته في الدوكتوراه) ... حاورته بشكل مفصل نسبيا في سؤال "المشكلة الصعبة" فاكتشفت أنه ليس على علم بالإنتقادات الوجيهة التي وجهها تشارمز لدينيت .. كان ڤيجي المسكين يحكي لي نفس كلام دينيت معتقدا أن حججه ستفاجؤني .. أخبرته بأني أعرف حجج دينيت الخمسة وبأني لست متفقا معها لثلاثة أسباب وهي: 1 أن دينيت لم يستطع تفسير ظاهرة الربط: للعقل قدرة على توحيد الخبرة الذاتية رغم أن الدماغ تجزيئي في تكوينه. 2 أن للعقل قدرة على توسيع الخبرة بتوسيع سياقها 3 أن للعقل قدرة على تقدير المجاهيل (ما ليس حاضرا في الخبرة). أضفت إلى هذه الأسباب الثلاثة سببا رابعا وهو أن للعقل قدرة على "استحضار" الشيئ في الخبرة وكأنه يعيد خلق هذا الشيء بشكل ذاتي. لم أستطع أن أتخلص من سؤال "الإستحضار" لأنه سؤال كان يهمني بالفعل .. بل يخيفُني! .. الإنسان كائن يستطيع أن "يستحضر" الأشياء وكأنه يخلقها من جديد في مجال تجربته الذاتية. لاحظت أن ڤيجي المسكين اضطرب وعاد يكرر نفس حجج دينيت القديمة المعروفة. هناك كتب كثيرة درستها بعد قراءتي لڭلين. كتب لپينكر (كيف يشتغل العقل)، وپيشيلين الذي يشتغل على معرفية الإبصار، وفودر الذي يشتغل على قالبية الدماغ ... هناك موسوعة كنت حصلت عليها تجمع كل التجارب المخبرية التي أجريت على طرق اشتغال العقل. أتذكر أيضا كتابا قرأته يدرس فيه صاحبه عقل شيكسبير انطلاقا من الخصائص الفزيولوجية لجمجمته! أصبح العلم المعرفي جزء ا أصيلا من تكويني .. تعلمت من العلم المعرفي أن فهمنا للعقل هو بالفعل مفتاح فهمنا للإنسان، وأن هناك سؤالا جوهريا (سؤال ”استحضار“ الشيء في التجربة الذاتية) لم يجب عنه هذا العلم بعد، وأن المفكرين المغاربة الذين أعرفهم لا يزالون غير واعين بأهمية هذا العلم هذا العلم الجديد وفتوحاته العظيمة! هايدڭر الخطير حتى سنة 1998 كنت أكره هايدڭر ... كنت أعتبر كتاباته مجرد مستغلقات فلسفية غير قابلة للفهم! الذي جعلني واثقا من هذا الحكم الجائر (كما سأكتشف فيما بعد) هو جون سورل .. أذكر أن هذا الأخير قال يوما بأنه حاول أن يقرأ كتاب "الكينونة والزمن" لهايدڭر ليقتنع بعد قراءته لصفحات قليلات أن هايدڭر فيلسوف سيء غير عقلاني وغير مفهوم مما جعله يلقي بكتاب هايدڭر جانبا..! لست أذكر كيف قررت أن أقرأت كتابا لهايدڭر عام 1998 ... كل ما أذكر هو أن الكتاب كان هو كتاب "عن التقنية" الذي أنهى هايدڭر كتابته سنة 1949 ونشره سنة 1954 .. لم أفهم نص الكتاب من قراءتي الأولى ولكني بدأت ألاحظ أن هايدڭر يقول "شيئا" مهما جدا ينبغي أن أفهمه بإعادة قراءة هذا الكتاب وبدراسة كتبه الأخرى بصبر واجتهاد. لتستفيد من الفلسفة عليك دائما أن تتوفر على قليل من الصبر وكثير من التواضع ... صبرٌ يمكنك من مواصلة المسير رغم الصعوبات .. وتواضعٌ يجعلك تدرك أن الفلاسفة أناس أذكياء أدركوا أمورا عظيمة أنت تجهلها .. لاحظت ثلاثة أمور مهمة في نصوص هايدڭر. أولها أن هايدڭر مهتم بالإنسان في حقيقته ... الإنسان كما يمارس حياته في وجوده القريب غير المزيف. ثانيها أنك لكي تفهم هايدڭر جيدا، ينبغي أن تسمح له أن "يلهمك" بلغته الفريدة التي تجمع بين المجاز والحقيقة في انسجام يندر أن تجده عند فيلسوف آخر. فهو يختلف عن الفلاسفة الرياضيين، والمناطقة، والفيزيائيين، ... الذين تعودت عليهم في ثقافتي الأنڭليساكسونية التقليدية الذين يميلون إلى تحري الدقة الحرفية في مرافعاتهم الفلسفية. يحتاج الأمر الثالث الذي لاحظته في هايدڭر إلى شيء من التوضيح .. علق هايدڭر في كتاب له عنوانه "الوجود والكينونة" (مكون من أربع مقالات طويلة جمع ترجماتها إلى الإنجليزيه الدكتور فيل عام 1949 وصدرها بمقدمة) على ما كتبه ديكارت لپيكو (مترجم "پرينسيپا فيلوسوفيا" إلى الفرنسية) عندما قال له بأن الفلسفة شجرة فروعها الميكانيكا والطب والأخلاق، وجذعها الفلسفة، وجذورها الميتافيزيقا علق هايدڭر على هذا الكلام بقوله إن غاية بحثه الفلسفي أن يتأمل في التربة التي تنغرس فيها الجذور .. التربة التي تحتوي على الأسمة والغذاء الذي يغذي الشجرة كاملة .. لي قصة مع هذه "الجذور" التي يتحدث عنها هايدڭر سأحكيها لك. سنة 2005 قررت أن أدرس "الكينونة والزمن" بعمق وتأنٍّ. اكتشفت فيما بعد أنك لا تستطيع أن تفهم هايدڭر بشكل جيد إذا لم تنطلق من هنا .. من هذا الكتاب الضخم. نشر هذا العمل عام 1929 ولم يترجم إلى اللغة الانجليزية إلا في سنة 1962. للكتاب "الكينونة والزمن" ترجمتان انجليزيتان. الأولى هي لماكيري وروبنسون (1962) من منشورات هارپر, والثانية لستانبوڭ (1996)، من منشورات جامعة نيويورك. قرأت فيما بعد محاضرات هربرت درايفوس (وهو أعظم شارح لهايدڭر في أمريكا، وربما في العالم كله!) التي عنوانها "الوجود في العالم" والتي علق فيها بتفصيل على نص "الكينونة والزمن". نشر كتاب درايفوس هذا عام 1990. سأحدثك فيما بعد عن أهمية درايفوس في فهم هايدڭر وكيف أثر هذا الرجل في فهمي لمشكلة "الإستحضار". لقد قررت أن أقرأ "الكينونة والزمن" بعمق وتأن. ففي صيف 2005 كنت أذهب إلى مقهى بحي البديع بمدينة مراكش في ملكية عجوز فرنسية حيث أجلس لمدة أربع ساعات يوميا، أرتشف خلالها كوب قهوة مركزة وأتناول حلوى من الشيكولاطة اللذيذة كانت تصنعها السيدة الفرنسية على طريقة مصنع الحلويات الفرنسي... بالإضافة إلى القهوة والحلوى الفرنسية كنت أقرأ في كل جلسة من جلساتي اليومية ستة صفحات من "الكينونة والزمن"! سبق لي أن قلت بأن هايدڭر يريد أن يبحث في الأرضية التي تنغرس فيها جذور شجرة المعرفة .. الأرضية التي تستمد منها الشجرة الغذاء والماء والسماد. ما هي التربة التي تنغرس فيها الشجرة؟ بالنسبة لهايدڭر التربة هي "الوجود". "الوجود" صفة مشتركة بين جميع الأشياء الموجودة: حاسوبك الذي تستخدمه الآن "موجود"؛ عقلك "موجود"؛ والمكان الذي تتواجد به الآن أيضا "موجود". قد تقول: ولكن ما هي هذه الصفة؟ أليست صفة "الوجود" عامة وغامضة وفضفاضة وغير قابلة للفهم؟ ... هذا بالضبط هو مربط الفرس بالنسبة لهايدڭر .. فعمومية معنى "الوجود" والتباسها النسبي هو الذي جعل العلماء والفلاسفة يقفزون عليها ويتجهون بدل التأمل فيها إلى التأمل في الموجودات فحسب. يتأملون في الحاسوب وفي العقل وفي المكان بدل أن يتأملوا في التربة التي تنغرس فيها هذه الأشياء كلها وهي "تربة الوجود". لذلك يميز هايدڭر بين طريقتين في التفكير: التفكير الأنطيقي، وهو عندما نفكر في الموجودات، والتفكير الأنطولوجي، وهو عندما نفكر في التربة التي تنغرس فيها هاته الموجودات أي "الوجود". لقد كنت أحس عندما كنت أقرأ "الكينونة والزمن" أنني كنت أقرأ كتابا يقرأني. أريد فقط أن أنبه القارئ هنا أن لهايدڭر في هذا الكتاب خلفية فلسفية لم يكن يصرح بها دائما ولكني كنت واعيا بها جيدا ... فقد سبق لي أن درست قصيدة بارمنيدس الطويلة عن "الوجود" بصفته "المادة" التي تتكون منها الأشياء، وحالة "الوجود" التي انطلق منها هيڭل في موسوعته الفلسفية بصفتها الحالة الصفر لجدله اللولبي المتصاعد، والحجج الوجودية على وجود الله التي استعملها القديس أنسيلم والإنتقادات التي تعرضت لها هذه الحجج. كما كنت قد درست بشكل جيد كتاب "الوجود والعدم" لجان بول سارتر. ما أزعجني كثيرا في كتاب "الكينونة والزمن" هو أن هايدڭر لم يخصص للحديث عن الوجود نفسه سوى صفحات قليلات ليتجه بعدها إلى التأمل في شكل الوجود الذي يهتم به كثيرا وهو "الدازاين". "الدازاين" كلمة ألمانية تعني حرفيا "الذي يوجد هناك" أو "الحضور". لقد قررت أن أستمر في قراءة الكتاب رغم أنه لم يشف غليلي من حيث تحليله للوجود في حد ذاته .. لقد كنت أتمنى أن أجد في هايدڭر تفسيرا مقنعا لعلاقة الوجود ب"ما يسميه ب"الدازاين" .. لكن لم جد تفسيرا من هذا النوع .. يتجنب هايدڭر استعمال لفظة "الإنسان" أو "الذات" أو "الشخص" ويستعمل بدلها اللفظة الألمانية "الدازاين" التي تعني حرفيا "الذي يوجد هناك" أو "الحضور". وعلة هذا الإستعمال أن هايدڭر يريد أن يتجنب حالة البداهة التي تبدو عليها علاقة "الذات" ب"الموضوع" عندما نستخدم الألفاظ التقليدية .. فغرض هايدڭر الأساسي هي أن يستشكل علاقة "الذات" ب"الموضوع" كما نتمثلها في حياتنا اليومية .. لكن ما علاقة هايدڭر بمشكلتي: مشكلة "الإستحضار" ... هل يجيب عن هذا السؤال بأي شكل من الأشكال؟ ... القصدية عمقت فهمي لهايدڭر من طريق أخرى سأشرحها ... نشر الفيلسوف الأمريكي جون سورل كتابا عام 1983 عنوانه "القصدية" Intentionality (منشورات جامعة كامبريدج). اقتنيت نسخة من هذا الكتاب وقرأته عام 1995. دعني أولا أشرح لك فكرة "القصدية" بشكل مبسط. افترض أنك نطقت بالجملة التالية: "لقد ندمت على سفري إلى مدينة فانطازيا". عندما تقول هذا الكلام فإنك تعبر عن ندمك، أليس كذلك؟ لندقق أكثر ينبغي أن نقول إنك "ندمت على ..." شيء بعينه وهو كونك سافرت إلى مدينة فانطازيا. لا يمكنك أن "تندم" فحسب .. لا بد أن يكون لندمك موضوع خارج ذاتك ووعيك وهو كونك "سافرت إلى مدينة فانطازيا". "الندم" فعل من أفعال الوعي (موقف من مواقف الوعي) يتجه نحو موضوع خارجه (موضوع ينتمي إلى العالم الخارجي). هناك أنواع مختلفة كثيرة من أفعال الوعي، مثل "الإعتقاد" و"الخوف" و"الأسف"، وكلها تخضع لنفس القانون وهو: عندما تختبر فعلا من أفعال الوعي، فلا بد أن يكون له موضوع خارجي. مثلا، إذا قلت: "أنا أعتقد ..." وسكت بعد ذلك، فمن المرجح أن يسألك المستمع: "تعتقد ماذا؟". فلا بد لفعل الإعتقاد من موضوع خارجي نعبر به بجملة نضعها في موقع مفعول الفعل "اعتقد": "أعتقد أن زيدا سافر إلى مدينة فانطازيا".بنفس الشكل لا تقول: "خفت ..." إلا إذا كنت تقصد بأنك "خفت من ..."، ولا تقول: "أسفت ..." إلا إذا كنت تقصد "أسفت لشيء ..".ضرورة توفر أفعال الوعي على موضوع خارجي تتجه إليه هو ما يسميه سورل (وهوسرل من قبله) ب"القصدية" .. "القصدية" هي قصد الوعي إلى ... أي اتجاهه إلى ... بهذا المعنى، فإن "القصد" (النية، intention) مجرد نوع من أنواع القصدية. فلا ينبغي الخلط بين "القصد" intention و"القصدية" intentionality. فلا تخلط بينهما! انتقد فيلسوف أمريكي اسمه هربرت درايفوس (وهو، كما قلت سابقا، أعظم شراح هايدڭر في الولاياتالمتحدةالأمريكية وربما في العالم كله) فكرة "القصدية" هذه بطريقة مثيرة. ينبني نقد درايفوس على فكرتين: أولهما، أن سورل يفترض بأن العلاقة بين الفعل القصدي وموضوعه بديهية وبينة بذاتها. لكن المتأمل فيها بشيء من الذكاء الفلسفي سيلاحظ بأنها علاقة غامضة لم نفهمها بعد بشكل جيد. فما معنى أن "يتجه" فعل القصد "نحو" موضوعه. عبارة "يتجه" مجاز يخفي حقيقة لا نفهمها بشكل جيد. ثانيهما، أن سورل افترض أن فعل الوعي يمثّل موضوعه كما تفعل المرآة عندما تعكس موضوعها "ممثلة" إياه بصورة منعكسة على سطحها. يرفض درايفوس هذين المسلمتين ويستعمل فكرة هايدڭر حول "الوجود في العالم" ليبين بأن علاقة فعل الوعي بموضوعه ليست بديهية وليست تمثيلية. فعندما "يتجه" فعل الوعي إلى موضوعه فإنه يتحد به "اتحادا" عجيبا ويفعل ذلك بشكل غير واع يجعلنا ننخرط في العالم لا بالوجود داخله فقط بل بالإنشغال به انشغال من يكون فيه جزء اً لا ينفصم عنه. بهذا المعنى فإن "القصدية" هي ما يؤسس وجوديا لعلاقتنا بالعالم التي ليست مجرد "انتماء" وليست مجرد "مواجهة" وليست مجرد "تفاعل" وليست مجرد "انفعال" ... بل هي علاقة فريدة، على أساسها ينبغي أن نفهم علاقتنا بالبيئة وبالتكنولوجيا وبالحضارة وبالآخر وبكل ما نكون مضطرين أن "نلتقي" به إذ نمارس إنسانيتنا ... "القصدية" جزء من المشكلة المعرفية التي سبق لي أن سميتها ب"الإستحضار" والتي لم أكمل الحديث عنها بعد ... "القصدية" هي ما يجعل الأشياء حاضرة أمامنا .. ولا يمكن فهم المعنى الحقيقية للقصدية إلا إذا فهمنا ما يقصده هايدڭر بهذه العلاقة الفريدة التي تربط الإنسان ("الدازاين") بالوجود ... يسمي هايدڭر هذه العلاقة ب"الوجود في العالم"! ... لقد كنت أحس أن في تحليل هايدڭر مفتاحا أساسيا للإجابة عن سؤال "الإستحضار" .. لكني لم أكن مقتنعا تماما بهذا التحليل، لأن هايدڭر كان يتحدث عن "الدازاين" ولكنه لم يكن يتحدث كثيرا عن "الوجود" الذي يكون هذا "الدازاين" فيه .. كان يتحدث عن "شجرة المعرفة" ولكنه لم يكن يتحدث عن طبيعة "التربة الوجودية التي تنغرس فيها هذه الشجرة". لا بد أن هناك عنصرا آخر مهما يجب أن نأخذه بعين الإعتبار في إجابتنا عن سؤال "الإستحضار" .. عودة إلى سؤال العقل .. هيڭل! تذكر، عزيزي القارئ، أن سؤال "الإستحضار" هو: كيف نستطيع أن "نحضر" الأشياء التي نعيها إلى اختبارنا الواعي؟ عندما أرى شجرة، فأنا لا أرى صورة الشجرة التي تنطبع في شبكية عيني، بل أرى الشجرة نفسها .. ما أراه ليس صورة، بل حضورا "شفافا" لهذا الشيء الذي أراه. تذكر أيضا أن هذه القدرة على "الإستحضار" هي بالضبط ما يميز الحاسوب عن الإنسان. فإذا لم نفهم هذه القدرة على الإستحضار، لن نفهم الإنسان أبدا. سبق لي أيضا أن ذكرت لك بأن المفتاح الأساسي لفهم الإستحضار سنجده في كتابات هايدڭر .. وبينت بأن مفتاح هايدڭر هو التعارض الذي يقيمه بين "الوجود" (الصفة التي يكون بها الشيء موجودا) والدازاين (الوجود المهموم بوجوده أي الإنسان) .. أوضحت أيضا أن هايدڭر لا يهتم ب"الوجود" كثيرا لأن ما يهمه هو الدازاين .. لذلك سأنتقل بك إلى فيلسوف آخر اهتم ب"الوجود" في حد ذاته ... ستفهم فيما بعد لماذا ألح على ضرورة فهم الوجود. ستدرك بكل وضوح أن الوجود الإنساني (بما فيه" الإستحضار") لا يفهم إلا على ضوء العلاقة بين "الوجود" ب"الدازاين".. لي علاقة مع هيڭل لن أتحدث عنها الآن .. يكفيني أن أقول أن الباحث الذي يريد أن يبدأ في قراءة هيڭل يمكنه أن ينطلق من كتابه "موسوعة العلوم الفلسفية" الذي يحاول فيه هيڭل أن يستعمل منهجا جدليا لتصنيف جميع العلوم بربط بين مواضيعها من أدناها إلى أعلاها ... (نشرت "موسوعة العلوم الفلسفية" عام 1817، ترجم جزءه الثاني والثالث إلى اللغة الإنجليزية عام 1971، ولم يترجم جزءه الأول حتى عام و1991) ينطلق هيڭل في تصنيفه الجدلي من أبسط وأعم موضوع الذي هو "الوجود" ... فالوجود صفة مشتركة بين جميع الموضوعات التي نقول عنها إنها "موجودة": الأشياء غير الحية كالصخور والمعادن، الحية كالأعشاب والضفادع، والمتعلقة بالإنسان كاللغة والإرادة الحرة. لكن لا يضع تصنيفا مثل التصنيفات الفورفرورية السائدة بل يدعونا إلى أن نبدأ من "الأسفل" بالتفكير في الخصائص المميزة لصفة الوجود في حد ذاتها بغض النظر عما نسنده إليها، باعتبار أن هذه الصفة هي أبسط وأعم صفة يمكن أن نفكر فيها. الوجود بالنسبة له صفة ليس فيها تعدد وليس فيها تفاوتات وليس فيها تمايزات وليس فيها علاقات داخلية. 1 ليس فيها "تعدد": افترض بأن عندنا موضوعين (س) و(ش) وافترض أيضا بأن هذين الموضوعين لا يتوفران على أية صفة سوى أنهما موجودان (لا حجم لهما، لا لون لهما، لا مذاق لهما، إلخ). ولتتذكر دائما أننا نتحدث هنا لا عن مواضيع حقيقية، بل عن كائنات افتراضية رياضية (مثل المتغيرات العددية الرياضية). 2 "ليس فيها تعدد": إذا كان الموضوعان (س) و(ش) متمازين، فهذا يعني أن هناك صفة واحدة على الأقل تميز بينهما (مثلا س يوجد في مكان وش يوجد في مكان آخر). وهذا يتناقض مع افتراضنا بأن س وش لا يتوفران سوى على خاصية واحدة وهي كونهما موجودين. وعليه يستحيل منطقيا أن يكون س وش متمايزين، لذلك فهما متطابقان: س = ش. 3 "وليس فيها تفاوتات وليس فيها تمايزات وليس فيها علاقات داخلية": هذا الكلام يعني بكل بساطة أننا لا نستطيع أن نتحدث عن علاقة داخلية بين س و ش، اللهم إذا كنا نريد التحدث عن علاقة موضوع بنفسه. فلا يمكن للشيء أن يكون أكبر أو أصغر من نفسه مثلا. العلاقة الوحيدة الممكنة بين س و ش هي علاقة التطابق: س = ش. بما أن صفة الوجود فقيرة وبسيطة وأحادية إلى هذه الدرجة، فمن أين يأتي التعدد والتنوع والغنى الذي نشهده في الطبيعة؟ .. هذا هي المسألة التي سيتناولها هيڭل في تحليله لمواضيع المعرفة العلمية .. وتحليله هو المفتاح الذي مكّنني من الإجابة، في كتبي التقنية، عن سؤال "الإستحضار" .. لقد اكتشفت أن فلسفة هيڭل ليست مجرد تأمّلات مجردة، بل هي "برنامج أنطلوجي" لتحليل جميع أنواع العلاقات التي نكتشفها في العالم .. العلاقة بين الصورة والحقيقة، بين الأنوثة والذكورة، بين الفعل والإنفعال، بين المُضاف والمُضيف، بين قوانين الميكانيكا والقوانين الكيماوية، بين العالم الميكروفيزيائي والعالم اماكروفيزيائي ... بين "الدّازاين" والوجود. اكتشفت أيضا أن فلسفة هيڭل تحتاج لأربعة أمور: أن تتحرر من كل قراءة تبعدها عن المقاصد الأصلية لهيڭل (قراء ات هيپوليت وڭادامير وماركس ...)، وأن تُحرّر من كل خلفياتها الميتافيزيقية الغير المبررة، وأن تُعاد صياغتها في إطار نظرية علمية مريّضة (معبّر عنها رياضيا)، وأن تُطبّق على مجالات بعينها في العلوم الحقة والإنسانية .. أول كتاب ألفته في حياتي (سنة 2005) كان محاولة للنهوض بهذه المهمة. ومعظم ما أكتبه في مجال اللسانيات هو محاولة لتطبيق هذه الفكرة. خلاصة تلكم رحلتي الطويلة مع سؤال "الإستحضار" .. وذلكم هو الشكل الذي دخل به الفكر الفلسفي إلى حياتي الفكرية، .. دخولا هادئا ومتواصلا ونافعا.