متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات        هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    المقاربة الملكية لحقوق الإنسان أطرت الأوراش الإصلاحية والمبادرات الرائدة التي باشرها المغرب في هذا المجال (بوريطة)    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب    رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'        أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الحكومة توقف رسوم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام        وفاة ضابطين اثر تحطم طائرة تابعة للقوات الجوية الملكية اثناء مهمة تدريب    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن        رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اللغة والكائن الانساني
نشر في هسبريس يوم 04 - 02 - 2019

سأحاول في هذا المقال أن أجيب عن السؤال التالي: ما هي المقدمات الأساسية التي نحتاج لها في فهم اللغة إذا ما أردنا فهمها على ضوء تفسير أنتروپولوجي عميق للإنسان؟
أستعمل هنا لفظة "أنثروپولوجيا" بالمعنى الفلسفي الكلاسيكي، أي ذاك المبحث الذي يسعى لفهم التّأنسن (ما يجعل الإنسان إنسانا) سواء من وجهة نظر بيولوجية (الأنتروپولوجيا البيولوجيا والإرتقائية) أو من وجهة نظر ثقافية (الأنثروپولوجيا الثقافية) أو من وجهة نظر لسانية (الأنثروپولوجيا اللسانية) أو من وجهة نظر تبحث في الغايات والكليات (الأنثروپولوجية الفلسفية).
هايدڭر ومنهجه النقدي
من بين نقاط الضعف الجوهرية في الأنتروپولوجيا المعاصرة أنها تفترض (بدون أي دليل) أن الإنسان مجرد نوع بيولوجي (يطور وظائف ثقافية عالية كالمعرفة ومؤسسة الزواج والدولة و .. اللغة.). هذا الإفتراض نقطة ضعف لأنه يحجب عنا حقيقة مهمة وهي أن الإنسان (جوهريا) ليس "نوعا بيولوجيا" فقط بل مُخْرَجٌ outcome لحل أنواع مختلفة من التعارضات clashes تعارضات بين المهمة الأساسية ل"الكينونة" والحوض الوجودي الذي تجد فيه الكينونة نفسها. لفهم هذه المقدمة، لا بد من فهم منهج نقدي بسيط (رغم أنه يبدو معقدا) بدأه الفيلسوف الألماني هايدڭر و لم يساهم اللسانيون والأنتروپولوجيون في الدفع به إلى حدوده القصوى.
لماذا هايدڭر مهم في سياق فهم الإنسان لنفسه؟ ... هايدڭر مهم في هذا السياق لأننا نتعلم منه منهج التفكير (وليس منهجا للتفكير) الذي عاشته الفلسفة في بعض لحظاتها المشرقة (قد نختلف مع هايدڭر في تحديدها) نتعلم منه أن لا نأخذ "الإنسان" مأخذ البداهة. نتعلم منه أن لا نفترض (بشكل واع أو غير واع) تعريفا مسبقا للإنسان نبني عليه فهمنا لما يفعله الإنسان أو ينبغي أن يفعله.
عندما تعرّف الإنسان بأنه "حيوان عاقل"، فليس المشكل هو إن كان هذا التعريف صادقا أو كاذبا. المشكل هو أنه تعريف يفترض أننا نفهم "العقل". إذا سألت ذاك الذي لا يفكر ("اللّا مُفكّر" إذا شئتم): ما هي الحرية؟ فإنه سيسارع لتذكيري بأن "الحرية ليست مطلقة"، أوأن حدود الحرية "تختلف من ثقافة إلى ثقافة"، أو أن "ال حرية هي جوهر الإنسان"، إلخ. المشكل في كل هذا اللغط اللافلسفي أنه لا يُقارب "الحرية" بل يصرح بالمواقف السلبية أو الإيجابية لذاك الذي لا يفكر من الحرية.
هايدڭر مهم لأنه يُعيد تفكيرنا إلى التربة الوجودية التي تنغرس فيها شجرة ديكارت الشهيرة حتى نعيد فهمنا لهذه الشجرة في ضوء التربة التي تنغرس فيها.
مفتاح الفكرِ وإبداعِ المعرفة هو اكتساب القدرة على النزول إلى التربة الوجودية التي تنغرس فيها إنسانيتنا. هذا هو أفق العلوم الإنسانية في العقود القادمة من الألفية الثالثة.
ما هي "الكينونة"؟
الكينونة هي الوجود (أي الصفة المشتركة بين كل الموجودات = كونها موجودة) عندما ينفتح بشكل تام فيسعى إلى أن يكون كل شيء آخر غير نفسه (تماما كالمرآة التي تعكس كل شيء آخر غير نفسها). عندما تنفتح الكينونة فتسعى أن تكون كل شيء غير نفسها (وهذا مقتضى تعريفها)، فإنها تكتشف استحالة مهمتها هاته. هي مستحيلة لأن لا شيء يمكن أن يكون نفسه وغير نفسه في نفس الوقت. هي مستحيلة أيضا لأن لا شيء يمكنه أن يكون ذاته وأن لا يكون ذاته في نفس الوقت. وهي أيضا مستحيلة لأن الجزء لا يمكن أن يبقى جزء ا وأن يكون كلّا في نفس الوقت.
من التعارضات الأساسية التي تختبرها الكينونة أنها تسعى إلى أن تكون كل شيء وأن تبقى، في نفس الوقت، نفسها وليس شيئا آخر غير نفسها. الحل الذي تختزل به الكينونة هذا التناقض هو أن "تتَمثّل" الكينونة العالم أي أن تُعيد بناءه رمزيا وكأنها مرآة تعكس العالم داخلها فيكون هذا التمثُّل إدراكا حسيا، معرفةً، تمثيلا أيقونيّاً، تمثيلا رمزيا، خيالا، ذاكرةً، إلخ. الجامع بين كل هذه الأشكال من التمثيل representation أنها تعيد بناء الحوض الوجودي الذي يحيط بالكينونة بحيث يصبح جزءا منها (كما في التمثل الحسي) أو حاملا لآثارها (كما في الرموز والأيقونات).
إذا فهمنا "الإنسان" على أنه جماع الحلول التي حُلَّتْ بها التعارضات بين الكينونة والحوض الوجودي المُلقاة فيه، سنتجه بعد ذلك إلى طرح السؤال الأنتروپولوجي بشكل دقيق: كيف تتطور هذه الحلول؟ وما هي الآليات المحددة لهذه التطورات؟ مثلا: لماذا انتقلت الكينونة من تمثلها للعالم بواسطة الأيقونات icons إلى تمثيله بواسطة العلامات (التي يرتبط فيها الدليل بالمدلول ارتباطا اعتباطيا)؟ ما هي الحدود القصوى لتطور التمثيل الكينوني بصفته حلا للتعارضات المشار إليها؟
الأنتروپولوجيا علم عظيم يحتاج لا إلى تعميق أسئلته بل إلى إعادة طرحها في ضوء فهم للإنسان بصفته حلا لتعارض الكينونة مع وجودها .. بهذا المعنى فالأنتروپولوجيا ليست هي "علم الإنسان" بل علم "غربة الإنسان في العالم".
العلامة والكينونة
تتشكل كل "علامة" sign من دال ومدلول. لكن ما معنى "الدال" وما معنى "المدلول"؟ ... ما معنى أن "يحيل" دال على مدلول؟ ما معنى أن "يدل" لفظ horse على ما يحضر في وعينا عندما نفكر في "الحصان"؟
اللسانيات المعاصرة تفترض وجود "دال" ندرسه من خلال علوم كالصوتيات والمورفولوجيا والتركيب، كما تفترض وجود "مدلول" ندرسه من خلال علوم ك"علم الدلالة" و"التداوليات". قد يهتم اللسانيون أحيانا بالمنتصيات interfaces التي يتقاطع فيها الدال بالمدلول، لكنهم لا يهتمون بمعنى "أن يدل الدال على المدلول".
ما هو المضمون الأكثر بدائية ( = الأقل تشوّها بالصّورنة التي تبعدنا تدريجيا عن الشيء نحو مفهومه المجرد) والأكثر يوميّة (كما نختبره في حياتنا اليومية الأصيلة) لفعل "التّدلال"؟
لكي "يدل الدال على المدلول" بهذا المعنى البدائي واليومي والأصيل، ينبغي أن تحقق ثلاثة شروط على الأقل:
أولها ينبغي أن تتجه الكينونة نحو وجود ما: حصان، شجرة، جبل، إلخ. وأن يكون اتجاهها نحوه قلِقا. فالوجود الذي تتجه نحوه الكينونة ليس مجرد "وجود" ملقى به أمامها، بل هو أشياء "جاهزة" available : حصان يمكن أن يُمتطى، شجرة تعطي ثمارا مغذية، جبل يصعب صعوده، إلخ.
ثانيها: "القلق" البدائي الذي تتجه به الكينونة نحو ما تريد أن "تدل" عليه راجع لكون ما تريد أن تدل عليه مصدر همٍّ Care. الحصان والشجرة والجبل هي مسألة حياة أو موت بالنسبة لي ولأسرتي وعشيرتي وقبيلتي. فأنا لا "أحيل" بمجرد مدّ سبابتي نحو .. بل بالإنفتاح الحذر على ما أدل عليه. "الدلالة" على موضوع، في أصلها الأكثر بدائية، هي نوع من الموقف الحذر المتيقظ أمام خطر داهم "أهتمّ" به (من "الهم").
ثالثها: أن "أدل" على شيء هو شكل من أشكال حل الكينونة للتعارض بين سعيها إلى كون الشيء واستحالة هذه المهمة. تحل الكينونة هذا التعارض بأن تُمثل الوجود أيقونة ثم رمزا ثم علامة.
"العلامة" هي نفسها علامة على ما تفعله الكينونة، أي كونها تسعى إلى أن تكون كل شيء غير نفسها، كما تفعل المرآة عندما تعكس كل شيء غير نفسها.
لقد آن الأوان لبناء لسانيات بعد سوسيرية post-saussurian لا تكتفي بدراسة الدال وما يتعلق به من مدلولات، بل تدرس أيضا الفعل الذي تنجزه الكينونة وهي تدل بالدال على المدلول، أي فعل التِّدلال. فأصل إبداعية اللغة ليس هو آلية المعاودة (كما يرى تشومسكي) بل هو فعل الخلق الذي تنهض به الكينونة وهي تعيد خلق العالم بالتدلال.
المعنى والكينونة
عندما يقول متكلم: "إنها تمطر الآن"، فما يعنيه بكلامه هو: "إنها تمطر الآن". لكن ماذا يعني "أن يعني" المتكلم ما يقوله؟ لا أقصد بهذا الكلام أن أتساءل عن طبيعة "معنى" الكلام. ما أقصده هو أن أتساءل عن معنى "فعل المعنى"، أي ما يفعله المتكلم إذ "يعني" ما يعنيه بكلامه.
ميز فلاسفة اللغة الأنڭلوساكسونيون، مثل ڭرايس وستروسون، بين معنيين مختلفين لفعل المعنى، أولهما طبيعي natural meaning، كأن "تعني الغيوم الكثيفة في السماء أنها ستمطر اليوم"، وثانيهما لساني non-natural meaning. و"المعنى اللساني" للقول (ق) هو أن "يقصد المتكلم أن يجعل المستمع يعتقد أن (ق) أو أن يدفعه إلى النهوض بعمل يعبر عنه القول (ق).
بهذا التحديد، يكون معنى القول "إنها تمطر" هو: أن المتكلم يقصد أن يجعل المستمع يعتقد "أنها تمطر".
من إيجابيات هذا التحديد أنه يكشف لنا عن معنى فعل إنتاج المعنى ويرفع عنه الغموض الذي يقترن به: فعل إنتاج المعنى هو فعل مقصدي يقصد به المتكلم أن يؤثر في اعتقاد المتكلم وأفعاله.
لكن وجه ضعف هذا التحديد تظهر بوضوح عندما نفحص أمثلة من النوع التالي: لنفترض أن متكلما قال: "إنها تمطر" وهو يتظاهر بتوجيه كلامه لشخص (ش) بينما المقصود بكلامه شخص آخر (س) لا يحمل مظلة يقف إلى جانب المتكلم و(ش). و كأنه يقول ل(س): "لماذا لا تحمل مظلة رغم أنها تمطر؟".
لذلك ينبغي أن نضيف إلى تعريف "المعنى" عنصر "رغبة المتكلم في جعل المستمع يدرك بأن لهذا المتكلم رغبة في جعله يعتقد بأن (ق)". لذلك فعندما توجه المتكلم بقوله ل(ش)، فإنه يستلزم بتوجُّهه له أن لديه رغبة في جعله يدرك بأن يقصد أن يجعله يعتقد ب"أنها تمطر". وبما أن الرغبة الحقيقية للمتكلم هي جعل (س) يعتقد ب"أنها تمطر"، فيكون استلزامه الأول "كاذبا" أو على الأقل "ملتبسا".
نقطة الضعف الثانية هي كما يلي: عندما يرغب المتكلم في جعل المستمع يدرك بأن المتكلم يقصد أن يجعله يعتقد (ق)، فإن المتكلم يرغب أيضا في جعل المستمع يدرك بأن المتكلم يرغب في جعل المتكلم يقصد أن يجعله يعتقد أن (ق)، والمتكلم يرغب أيضا في جعل المستمع يدرك بأن المتكلم يرغب في جعل المتكلم يدرك بأن المتكلم يرغب في جعل المتكلم يدرك بأن المتكلم يقصد أن يجعل المستمع يعتقد أن (ق). لذلك يمكن أن نستمر في تمديد هذا الشرط المحدد لمعنى المعنى بشكل لا نهائي بأن ندمج في كل مرة جملة "بأن المتكلم يرغب ..." في الموقع المؤول مفعولا به لفعل "يدرك".
نستنتج من هذا أن تحديد معنى فعل إنتاج المعنى يتضمن امتدادا لا نهائيا لفعل إدراك رغبة المتكلم: يرغب المتكلم أن يجعل المستمع يدرك رغبة المتكلم في جعل المستمع يدرك رغبة المتكلم في جعل المستمع يدرك رغبة المتكلم في جعل المستمع يدرك ... (مكررة إلى ما لا نهاية) أن المستمع يقصد أن يجعل المستمع يعتقد (ق). بهذا المعنى فإن تحديد المعنى مكونا لا نهائيا يتحدى رغبتنا في "التحديد".
المهمة الأساسية للكينونة هي أن تكون كل شئ آخر غير نفسها. وعندما تكون الكينونة كينونات أخرى، فإنها تخلق موقفا لا نهائيا: تكون الكينونة كينونةً هي نفسها تكون الكينونةَ الأولى، فينتج عندنا موقف من "التّكاوُن" اللّانهائي.
إننا نحتاج للسانيات جديدة تتجاوز التحديد الأنتروپولوجي للإنسان الذي يفترض بأن الإنسان عقل حوسبي computational mind قابل للإختزال لوحدات دنيا مثل "القصد" و"الفعل". نحتاج لاستعادة مفهوم "السر" Mystery الذي يستلزمه مكون "اللانهائية" في تعريف المعنى والذي يبدو أنه هو أساس معنى "القيمة".
الكينونة والتباس اللغة
هناك خاصية مهمة مشتركة بين "الجسد" و"اللغة" وهي الخاصية التي سماها ميرلو پونتي ب"الإلتباس" ambiguity. عندما أشير بسبابتي إلى صدري وأقول للخياط غاضبا: "هذا جسدي وأنا أدرى به!"، متذمرا من محاولته لفرض مقاييسه أو ذوقه علي، فأنا أدل باعتراضي هذا على كون هذا الجسد "جزءا" مما أعتبره "أنا". لكن عندما أندمج في رقصة جماعية بشكل تام، فإني أنسى حدود جسدي لأتماهى مع "جسد" أكبر هو جسد الجماعة التي أرقص معها. فلا أسترجع وعيي بجسدي وحدوده مثلا إلا بعد أن تنتهي الرقصة أو بعد أن يطأ أحدهم على قدمي بشكل مؤلم.
هذه "الحالة الوجودية" من الخروج عن حدود الجسد بالإنتظام في الجماعة هي الشرط التي يحتاج الجندي للإنخراط فيه ليكون إنجازه العسكري فعالا و"شجاعا". بهذا المعنى، فإن الجسد هو محدد أساسي ل"أنا" ولكنه، في نفس الوقت، مجرد حدود يمكن أن أتجاوزها نحو جسد أكبر.
إنه التباس بين حالتين وجوديتين: حالة يكون فيها الجسد "منخرطا" engaged في العالم (مجموعة الرقص، فريق عسكري، تجربة التفاعل الجنسي، فرقة كرة القدم)، وحالة ينسحب فيها الجسد من "العالم" نحو نفسه ونحو تطابقه مع الأنا.
نفس الإلتباس نعيشه عندما نستعمل اللغة. عندما تستعمل لغتك الأم في حياتك اليومية حيث تكون "منخرطا" في العالم، فإنك لا تفكر في اللغة أصلا، بل لا تكون واعيا حتى بكونك تستعمل لغة بعينها دون أخرى. وآخر ما يمكن أن تفكر فيه عندما تعبر عن مشاعر الحب لشريكك، أو عندما تنفجر غاضبا لسبب من الأسباب، أو عندما تروي قصة حياتك الحزينة آخر ما تفكر فيه هو قواعد اللغة التي تستعملها وأنت تتكلم. في لحظة من اللحظات، تنسحب من "العالم" لتفكر في لغتك، وفي قواعدها، وفي أساليب التعبير بها، وفي معاني كلماتها أو ومباني عباراتها. في هذا اللحظة أنت تستعمل اللغة للحديث عن اللغة، تماما كما تستعمل جزءا من جسدك (السبابة) للإحالة على جسدك. بهذا المعنى، فإن اللغة هي حالة وجودية ملتبسة أيضا.
الكينونة Being هي الوجود عندما يفقد تماثله الأصلي ويسعى إلى أن يكون كل شيء آخر غير نفسه (تذكر استعارة "المرآة" التي تعكس كل شيء آخر غير نفسها). هذه مهمة مستحيلة لثلاثة أسباب من بينها أن هذه المهمة تضطر الكينونة أن تكون نفسها وغيرها في نفس الوقت. إلا أن للكينونة أساليبها الخاصة في حل هذا التناقض: لا يمكن للكينونة أن تكون نفسها وغيرها في نفس الوقت، لكنها يمكن أن "تتَجَسْدَن"، أي أن تعيش من خلال جسد يحمل خصائص الهوية الذاتية (مثلا: "وجه" تتناصي به الكينونة مع الغير بالتعابير الوجهية facial expressions، وبالنظرات المتبادلة eye contact، إلخ)، معا لإحتفاظ بإمكانية نفي هذا الجسد بالإحالة على "أنا حقيقي" (النفس، الروح، الأنا الداخلي، إلخ) يستطيع الذوبان في حوض وجودي أوسع (الجماعة، المجتمع، الكون، إلخ).
هذا التحديد الوجودي للغة بصفتها شكلا من الأشكال التي تحل بها الكينونة مشكلة التناقض في مهمتها الأساسية (أن تكون ذاتها وغيرها) هو التربة الوجودية التي لم يحللها ميرلو پونتي ولم يكن هايدڭر واعيا بها .. وهي أصل التعارض بين اللغة بصفتها وسيلة للتواصل، واللغة بصفتها هوية يتحدد بها مصير الإنسان وعلاقته بالغير.
الكينونة وال Background عند جون سورل
نقول باللغة الإنجليزية:
1- John opened the door
2- John opened his eyes
3- John opened a book
نستعمل فعل open في هذه الجمل بدلالات متقاربة تفيد معنى "إنهاء وضع الإغلاق الذي كان عليه الشيء". هناك من طبيعة الحال اختلافات أساسية بين الدلالات الثلاثة. في الجملة الأولى يتخذ معنى open شكل "استعمال أداة كاليد أو المفتاح أوغيرهما ودفع الباب بشكل أفقي يجعله يدور حول محوره". أما في الجملة الثانية ففعل ... له "عامل" هو فاعل الجملة ولكن لا أداة له (لا يفتح الإنسان عينه بالمفتاح مثلا). في حالة الجملة الثالثة يتخذ فتح الكتاب شكل إدارة غلافه بشكل نصف دائري.
هذا يعني أنك لكي تفهم معنى كلمة جديدة في لغة تتعلمها عليك أن تستوعب "تجربة إنسانية" مرتبطة بمعنى تلك الكلمة. في حالة فعل open مثلا، يجب أن "تستوعب تجربة الباب، الجسم الصلب الذي يُمكِّن دفعه من استدارته على محوره". ولتفهم الجملة الثانية، يجب أن تستوعب التجربة الذاتية التي تستطيع بها استعمال عضلاتك لرفع جفنيك من أجل السماح للضوء بالدخول إلى العينين". ولتفهم الجملة الثالثة، ينبغي أن تعلم أن للكتاب دفتين وأوراقا وأن من الممكن إدارة هاتين الدفتين وهاته الأوراق بشكل نصف دائري إذا ما شئنا الإطلاع على محتويات الكتاب الداخلية.
يسمي الفيلسوف الأمريكي جون سورل سديم المعتقدات والخبرات العملية التي يحتاجها المرء لفهم معاني الكلمات والتي لا يكون مصرحا بها في هذه الكلمات ب ال Background (بحيث الحرف B دائما من النوع الكبير).
من بين الظواهر التي تكشف عن وجود ال Background ظاهرة "الأفعال غير مفهومة. فإذا قلت بالإنجليزية:
4- John opened the mountain
أو
5- John opened the grass
فلن يكون لكلامك معنى معلوم لأن ال Background الذي ينتظم فيه فعل open لا يتضمن تجربة فعل "فتح الجبل" (فلسنا نعلم كيف نفتحه)، كما لا يتضمن تجربة "فتح العشب" (فلا نعلم ما يكون "فتح العشب").
من خصائص ال Background عند سورل أن مستعمله لا يكون واعيا باستعماله له، ولو كان واعيا به لأحاله على Background آخر أعمق، وهكذا إلى مالا نهاية، وهذا ما يستحيل على عقل الإنسان القيام به.
وعليه فإن تعلم معجم للغة الثانية هو في نفس الوقت اكتساب لل Background المتعلق بها. لذلك فإن أصعب مهمة في تعلم اللغة هي تعلم معجمها، فتعلم المعجم هو أيضا اكتساب لل Background
عندما أقول: "لقد توقفت عن تناول المخدرات"، فإن كلامي يُلزمني بالعديد من المعتقدات: 1 الإعتقاد بأني كنت أتناول المخدرات، 2 الإعتقاد بأن هناك شيئا ما يمارسه الإنسان اسمه "المخدرات"، 3 الإعتقاد أن بأن هذه الممارسة قد تستمر إلى أن "يتوقف" عنها الإنسان، 4 الإعتقاد أن الشخص الذي أحادثه يعرفني، 5 الإعتقاد أن إخباري له بتوقفي عن المخدرات قد يهمه، 6 الإعتقاد أن الشخص الذي أحادثة يعرف ربما بأن المخدرات مضرة ...
من خصائص طبقة "المعتقدات" التي يستلزمها كل قول من أقوالنا (مهما كانت بساطة مضمونه) أنها تكون غير محدودة ومعقدة. من خصائصها أيضا أن المتكلم لا يستحضرها في وعيه عندما يتكلم بل يتركها عند "عتبة" الوعي لا يُدخلها إلى دائرة الإنتباه إلى إذا دعت الحاجة إلى ذلك.
لكن ما الذي يجعل هذه المعتقدات الضمنية ممكنة وجوديا؟ ما هي التربة الوجودية التي تنغرس فيها؟
المعتقدات قبل أن يدخل عليها عنصر الحكم بالصدق والكذب هي مجرد قضايا Propositions ("القضية" جملة تتكون من موضوع ومحمول يسند للموضوع). لذلك يمكن أن نتصور بأن مجموعة المعتقدات التي تستلزمها الأقوال هي مجموعة من القضايا {ق1، ق2، ...ق ن}. نُدخل حُكما جِهيا على هذه المجموعة لتحولها من قضايا إلى "معتقدات" Beliefs ( = قضايا نحكم بصدقها، أو كذبها، أو احتمالها، إلخ).
لكن الأحكام التي ندخلها على القضايا في هذه الحالة ليست أحكاما واعية نمثلها في جمل، بل هي سديم من المواقف الضمنية التي عادة ما لا نصرح بها تحمل داخلها تناقضا مثيرا بين حالتين:
1- الحكم هو دائما حكم واعٍ لأن ثمرة الحكمِ الإعتقادُ، ولا اعتقاد إلى بما نعي حكمنا عليه. 2- لكن لا محدودية طبقة المعتقدات هذه وتعقدها اللانهائي يجعل الوعي به أمرا مستحيل، لأن الوعي باللامحدود من القضايا يتطلب طاقة نيورولوجية لا نهائية هي ممتنعة بحكم محدودية طاقة الدماغ.
التوتر بين الطبيعة الواعية للحكم، واستحالة هذه الطبيعة التي تفرضها محدودية الدماغ تتجلى في تمثلنا الذهني "كمونا ذهنيا" mental potential فالمعتقدات المستلزمة تكون دائما خزّانا من المعتقدات الكامنة potential beliefs يمكن أن ندفع عناصره إلى مستوى الوعي كلما احتجنا لذلك.
بهذا المعنى فإن ممكنات الذهن الإنساني هي حل لتناقض جوهري بين لا محدودية طبقة المعتقدات التي يستلزمها الكلام، التي هي في نهاية التحليل بعد من أبعاد الكينونة، ومحدودية الطاقة النيورولوجية، التي هي في نهاية التحليل بعد من أبعاد وجودنا.
يجب أن نتحرر من أوهام التصور التقليدي للإنسان بصفته "ذاتا" ... لسنا ذواتا، بل حلٌّ لتعارض الكينونة مع وجودها الخاص. هذا هو المدخل الأنتروپولوجي الصحيح لفهم ا للغة.
الكينونة واللاوعي
مهما كان عُمق اللاوعي الذي كان يتحدث عنه فرويد (والمتأثرون به) فهو لا وعي قابل للإتبطان introspection. فمهمة المحلل النفسي هي أن يُعين المريض على استبطان لحظة تائهة (ولكن مؤثرة) في أعماق اللاوعي الإنساني: لحظة اغتصاب، أو إحساس مدمر بالذنب، أو اختبار صدمة عاطفية قوية.
إلا أن مما اكتشفه العلم المعرفي cognitive science المعاصر واللسانيات المعاصرة أن هناك لاوعياً أعمق بكثير من اللاوعي الفرويدي لا وعياً غير قابل للإتبطان وغير قابل للإستعادة بالإستبطان ولا يمكن أن يكون موضوعا للإنتباه الواعي. أسمي هذا اللاوعي الأعمق ب"اللاوعي الوظيفي".
مما يشهد لوجود هذا اللاوعي الوظيفي أن هناك "نحواً" صوريا معقدا مشتركا بين جميع لغات العالم. من مظاهر هذا النحو المشترك مثلا أن جميع اللغات تربط وجود فاعل في الجملة بوجود الزمن في هذه الجملة ، وتسمح بوجود مواقع داخل الجملة فارغة من كل مادة صوتية ولكنها قابلة للتأويل، وجميع اللغات تستعمل أسماء وأفعالا، وجميع اللغات تحتوي على أدوات نفي واستفهام ... ولو قضى الإنسان حياته كلها محاولا استبطان هذا النحو المشترك لفشل في ذلك، لأن الوعي بخصائصه ومحتوياته ووظائف لا يتم ب"الإستبطان" بل بالبحث الموضوعي المفصل والمقارن بين لغات كثيرة.
اللاوعي الوظيفي طبقة عميقة من الآليات الوظيفية التي نحتاجها حياتنا العملية، كتلك الآليات التي تمكننا من تأويل الأبعاد (ما يوجد فوق وما يوجد تحت ...)، وتلك التي تمكننا من تأويل خبرتنا البصرية (كاهتمام أعيننا بالأشياء أكثر من اهتمامها بخصائص هذه الأشياء)، وتلك التي تمكننا من تمييز وجوه بشرية كثيرة (حتى ولو كانت المعلومات حول هذه الوجوه ناقصة)، وتلك التي تمكننا من تقدير المسافات، وتلك التي تمكننا من طي التفاصيل في استدلالاتنا، وتلك التي تمكننا من حفظ بعض معاني الكلمات رغم تبدل معاني المعجم ...
اللاوعي هو مستوى "جيولوجي" عميق في عملية الإرتقاء التاريخي للوعي الإنساني. إنه "وعي" الإنسانية بالعالم وباحتياجاتها الطبيعية والمعرفية. هو أيضا المستوى الذي لا يزال الوجود يتصارع فيه مع مساواته لنفسه (تطابقه مع نفسه) ولم يخرج بعد من هذا الصراع نحو إنجاز المهمة الأساسية للكينونة، أي سعيها إلى التطابق مع كل شيئ آخر سوى نفسها (كما تفعل المِرآة إذ تعكس كل شيء آخر إلا نفسها). بهذا المعنى فإن استرجاع اللاوعي الوظيفي، واستبطانه، وإعادته إلى دائرة الإنتباه هو نوع من الرجوع لوجودنا قبل أن يخرج بشكل كامل من تماثله الأصلي ..
خلاصة
تلكم بعض المقدمات التي نحتاج إليها في فهمنا للغة على ضوء تصور أنثروپولوجي ناضج للظاهرة الإنسانية .. تصور متحرر من ميتافيزيقا الحداثة وما بعدها و ملتزم فقط بالعلم وقيمه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.