شكل نوع من الأغاني الشعبية مرآة فنية عكست الزخم الاحتجاجي لأوسع الجماهير؛ فمقابل توظيف السلطة ومعارضتها لنصوص غنائية كرست توجهاتها ومواقفها السياسية؛ وجدت "الأغلبية الصامتة" ضالتها في انبثاق مجموعة من الموجات الغنائية والفرق الموسيقية التي ترجمت كل الأحاسيس والانفعالات وردود الفعل الشعبية من السياسات المنتهجة من طرف النخب السياسية، سواء تلك التي تتحكم في دواليب السلطة أو تلك التي تتواجد خارجها. وهكذا ظهرت منذ بداية السبعينيات من القرن 20 مجموعات غنائية بلورت مضامين وأشكالا موسيقية عكست كل مظاهر الاحتجاج السياسي ضد نظام حكم تميز باللجوء إلى أساليب قمعية تجسدت في تصفية معارضيه والتنكيل بهم أو نفيهم؛ وبإخماد الانتفاضات الشعبية بالحديد والنار. وكان على رأس هذه المجموعات الغنائية الشعبية وأشهرها مجموعة لمشاهب؛ وفرقة جيل جيلالة، وناس الغيوان. الأغنية الغيوانية كتعبير عن الاحتجاج الشعبي رغم أن المجموعات الغنائية الشعبية تأسست جلها طيلة فترة السبعينيات من القرن 20؛ إلا أن إرهاصاتها كانت ترجع بالأساس إلى الملابسات التي أحاطت بأول انتفاضة شعبية بعيد الاستقلال؛ فقد شكلت أحداث الدارالبيضاء ل 23 مارس 1965 بداية القطيعة السياسية بين السلطة وأوسع الفئات الشعبية؛ إذ لم يتورع النظام عن إطلاق النار على جماهير الطلاب والتلاميذ وعائلاتهم والزج بالعديد من المتظاهرين في السجون والمعتقلات. وقد خلفت هذه الأحداث الدامية وما صاحبها من عنف وعنف مضاد، خاصة من طرف أجهزة الدولة، شرخا غائرا بين الدولة الحديثة بالاستقلال ومختلف الفئات الشعبية التي عانت من أشكال التعنيف والتعذيب، بمن فيها بعض الأفراد الذين سيؤسسون بعد حوالي ست سنوات عن هذه الأحداث فرقة ناس الغيوان. وهكذا كتب العربي باطما في سيرته الذاتية (الرحيل) واصفا تأثره النفسي والجسدي بهذه الأحداث ما يلي: " وكان هنالك بالثانوية طلبة يكبروننا سنا، ينتمون إلى منظمة "الاتحاد الوطني لطلبة المغرب". وأظن أنه كان ذلك في إبان تكوين تلك المنظمة...فاستغلوا عنفنا وأطرونا من غير أن نعلم، كمليشيات لقول كلمة لا، إبان وقوع كل إضراب طلابي، حتى إنه في الإضراب الذي وقع سنة 1965 – 1966 كنا أول قسم خرج إلى ساحة الثانوية ورفع صوته مرددا شعارات الاستنكار، بل إن طلبة ثانوية الأزهر وثانوية مولاي عبد الله التي توجد أمام الأزهر هم أول من خرج إلى الشارع... وفي ساحة "البياضة"، ساحة تقع بدرب السلطان، كانت القوة ...الشرطة في كل مكان، والطلبة من كل جهة، وقد عم التخريب وإضرام النار وتكسير واجهات الدكاكين... كما أنه دخل بين صفوف الطلبة أناس آخرون، أخذوا يسرقون كل ما تصل إليه أيديهم، وأظن أنهم كانوا مدسوسين من طرف السلطة لإفشال الإضراب الذي كان منظما في بدايته... فألقي عليَ القبض وقضيت بالسجن شهرا كاملا... رأيت فيه ما يقشعر له بدني، عندما أتذكره... كنا طلبة كثيرين في زنازين صغيرة مظلمة، مع سجناء آخرين..الزحام والنتانة والقمل والعراك... ونظرا لكثرتنا، فلم نسجل بدفاتر السجن، كانوا يحملوننا كالأغنام ثم يرموننا في السجن..."الكوم" فرقة شرطة تتكون من رجال تجاوز عمرهم الأربعين سنة، معظمهم بدو من الريف والأطلس، كانوا جنودا في جيوش الاستعمار... وبعد الاستقلال ألحقتهم الدولة – لخبرتهم – بفيالق الشرطة... أناس لا يرحمون صبيا ولا صبية... ولا يعرفون إلا الأمر...عانينا الكثير في ذلك الشهر... وفي يوم أطلقوا سراحنا، بعد أن تيقنوا بأننا مجرد طلبة فقط لا انتماء سياسيا لهم. ولازالت آثار الضرب عالقة بظهري الآن، كشاهد على تلك الفترة... ذلك لأنه، عندما دخلنا إلى المعتقل إن صح التعبير، وجدنا رجالا لم أر طيلة حياتي مثلهم، أقوياء يقفون، وهم يحملون عصيا، وعندما يدخل الطالب يقلعون ملابسه، ثم يضربونه على ظهره، وبعد ذلك، يتقدم آخر... وهكذا ... وبعد خروجي من السجن، قضيت أياما أتسكع، أنا وأصدقائي، في أزقة المدينة...". ولعل في هذه الشهادة الحية التي عبر عنها أحد مؤسسي فرقة ناس الغيوان ما يعكس درجة المعاناة التي عانى منها، ليس فقط هذا الفنان وهو في بداية شبابه؛ بل معاناة شباب تلك الفترة وما كان يحس به من كبت وقهر من طرف أجهزة الدولة التي كانت ترفض أي شكل من أشكال الاحتجاج السياسي، خاصة في الساحات والشوارع العمومية. من هنا، كان انبثاق هذه المجموعات وما كانت تبدعه من أغان شعبية ترجمة تلقائية وعفوية لهذا الزخم الاحتجاجي الذي كان يعتمل بين الأوساط الشعبية، خاصة فئات الشباب منهم. وهكذا عكست أغاني ناس الغيوان منذ بداياتها الأولى هذا الاحتجاج الشعبي على كل مظاهر الظلم والتسلط، من خلال إشارات سواء ضمنية أو علنية ظهرت في أول أغنية أدتها هذه الفرقة بعنوان "يا بني الإنسان"، إذ عكست كلماتها الطابع الاحتجاجي من خلال "تساؤلات استنكارية" حول الحرب والطغيان بين بني الإنسان مادام كل البشر سواسية وينتمون إلى نفس النوع ونفس القيم. وهذا مقطع من الأغنية: بغيت نوضع سؤال ونكول بلسان أهل الغيوان يا بني الإنسان علاش احنا عديان لاش لكروب... لاش الأحزان لاش لكدوب... لاش البهتان لاش لحروب... لاش الطغيان واحنا خاوا...احنا احباب... احنا جيران با بني الإنسان يا بني الإنسان الأغنية الغيوانية والتنديد بتعسف السلطة بعدما لاقت أغاني هذه الفرقة قبولا من طرف الأوساط الشعبية؛ واصلت أداء أغاني عكست بعض مظاهر التسلط، من سجن واعتقالات وتغريب، إذ عكست أغنية "ماهموني" هذا الوضع من خلال الكلمات التالية : ما هموني غير الرجال إلى ضاعو لحيوط إلى رابو كلها بيني دار ما هولوني غير الصبيان مرضو وجاعو والغرس إلى سقط نوضو نغرسو أشجار والحوض إلى جف واسود نعناعه الصغير ف رجالنا يجنيه فاكية وثمار مصير وحدين عند أخرين ساهل تنزاعو وشعاع الشمس ما تخزنو لسوار زاد سبوعا تابعاه لتمناعو من حرك عينه ف راسو مده للجزار وفي سياق التنديد بمظاهر التسلط والكبت؛ أدت هذه الفرقة أغنية "غير خودوني" التي تقول كلماتها ما يلي: يا ذا الريم منها مولوع مرحبتي به إلى جاني ولازلت منها ملسوع ولو علحبل مشاني أدن أدن أدن غير خودوني... لله غير خودوني روحي نهيب لفداكم غير خودوني معدوم ولفي... لله دلوني ما صابر علّي مشاو... انا ما صابر صفايح ف يدين حداد انا ما صابر كلبي جا بين يدين حداد حداد مكا يحن ما يشفق عليه ينزل ضربة عل الضربة وإلى برد زاد النار عليه سيل سيل يا الدم المغدور تراب الأرض محال ينساك وحوش الغابة ترهبات منك السم ف الصحاري جافل منك دم المغدور ما نسلم فيه حق المظلوم أنا ما ندوزو ياطاعني من خلفي... موت وحده هي غير خودوني... لله غير خودوني... الأغنية الغيوانية والتنديد بالقهر السياسي رغم وفاة بوجميع المفاجئة والغامضة؛ واصلت هذه الفرقة أغانيها الشعبية التي عكست في مرحلة تالية مظاهر سياسية سلبية أخرى، تمثلت في الفساد السياسي من الرشوة واستغلال النفوذ؛ ومن تهميش سياسي تجسد في مظاهر الإقصاء الاقتصادي والسياسي لأوسع الفئات الشعبية. وهكذا أدت هذه الفرقة بعد رحيل بوجميع مجموعة من الأغاني التي كانت تتجاوب مع ما كان يعتمل في صدور شباب الأحياء الشعبية من انفعالات صامتة طافحة بالسخط والتذمر، في ظل نظام عادة ما كان يلجأ إلى العنف في احتوائه لكل الاحتجاجات الشعبية وإلى لغة الحديد والنار لإخماد الانتفاضات الشعبية، كتلك الأحداث الدامية التي عرفتها العاصمة الاقتصادية في 20 يونيو 1981؛ وسقوط العديد من القتلى في بعض الأحياء الشعبية، بما فيها الحي المحمدي الذي يعتبر مهد انطلاق هذه الفرقة. وفي هذا السياق عكست أغنية (المعنى) بعض مظاهر القهر السياسي الذي يعاني منه المواطن البسيط؛ إذ تضمنت كلماتها ما يلي: "شكون ف الدنيا عل الحق يدافع ياك لكثير ما فيهم نفع مطعونين في الظهر وما ضحينا ب لعمر ياك أخرها هو لقبر بنادم ف الزنقة دالح ما مرتاح الخوف ولقهر عليه قاضي ف لعماق الفوضى ومن الفوق بيان لبحر هادي الحق والباطل هنا الشاهد يزور لعمى... والحاكم ما يدوق المعنى يا بنادم دار الصابون ما شي جفنة الطعام إلى سخون رد اللقمة يكفانا اللي حنا فيه يكفى الجوع وما قاسينا كل شي ديالنا وحنا مواليه". في حين عكست أغنية (لبطانة) بعض مظاهر الإقصاء والتهميش التي استفحلت نتيجة السياسة الرسمية المنتهجة من طرف النظام؛ وتضمنت ما يلي: عبيد الصنك المعبود يا كلوب لحجر كلوب طايشة مليانة ب لغدر سلسلتو لقبور... ها الحق... وها المنكر الخز للصخر من هم لبحر شكا والرياح العاصفة هجرات البرق والرعد ما بين صخرة جامدة وعوافي زاندة... ل صهد الريح هامدة. هذا ب مهمازه ينغز... هذا ما يرد عليه. هذا ب مهمازه ينغز... هذا ما يرد عليه. لا دوا يداوي حسبت عشرة وعشرة عرفتها شحال تساوي القرن عشرين هذا عايشين عيشة الذبانة ف لبطانة راه الفرق عظيم بين التفاح والرمانة واش من فرق بين أنت... وأنت... وأنا". الأغنية الغيوانية وفضح مظاهر الفساد السياسي تضمنت بعض الأغاني التي أدتها هذه الفرقة في منتصف الثمانينيات من القرن 20 انتقاد بعض مظاهر الفساد السياسي، من استغلال النفوذ والرشوة. وكذا عكست أغنية (سبحان الله) تجليات هذا الفساد السياسي، التي تعاني منه البلاد، وذلك من خلال الكلمات التالية: سبحان الله صيفنا ولى شتوة وارجع فصل الربيع ف البلدان خريف وامضات إيامنا سرقتنا سهوة وتخلطت لديان شلى ليك نصيف كلت اعجبي اضحات ف الدين الرخوة ولى الإيمان عندنا ف لعرب ضعيف جور الحكام زادنا تعب وقسوة لا راحة والعباد ف نكد وتعسيف والحاكم كايصول كايقبض الرشوة والشاهد كايدير في الشهادة تحريف افهم المعنى وعيق واستافد واروى هذا سر لكنان ما رامه تصحيف. من هنا شكلت أغاني هذه الفرقة طيلة عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن20 لسان حال المظلومين، وتعبيرا صادقا عن معاناتهم، ما جعلهم يتجاوبون معها ويتماهون مع كلماتها ويرددون نغماتها. فلقد "كان ناس الغيوان أيام الحسن الثاني صوت الكادحين والمسحوقين بامتياز، وعبر كل ألبوم يطرحونه، وفي كل أغنية يبدعونها، كان المغاربة يبحثون في ثناياها عما يمكن أن يؤولوه ضدا على شراسة النظام". ولعل الإقبال الجماهيري الذي حظيت به أغاني هذه الفرقة دفع الفرقاء السياسيين إلى التنافس حول احتواء أو توظيف الإشعاع الفني لناس الغيوان؛ فقد سبق للملك الراحل الحسن الثاني أن استدعى أعضاء هذه الفرقة للمشاركة ضمن السهرات الخاصة التي كان يحييها في بعض قصوره، وذلك على الرغم من تحفظ بعض الفنانين المقربين منه. وهكذا "بعدما طفت الظاهرة الغيوانية على السطح وسرقت الأضواء ونالت الإقبال الجماهيري... عبر الحسن الثاني عن رغبته في أن يستضيف ناس الغيوان في قصره، فقال له الفنان أحمد البيضاوي وهو من المقربين إليه، إلى جانب العربي الكواكبي: "إن هؤلاء لا يغنون عليك يا مولاي..." فأجابه الملك بأنه لم يطلب من أحد أن يغني عليه..، كما سبق أن دعاهم لكي يطلب منهم أداء بعض أغانيهم الاحتجاجية كأغنية البطانة وغيرها. كما عملت السلطات المحلية على استدعاء هذه الفرقة في السهرات العمومية التي كانت تنظم في الأقاليم خلال عهد وزير الداخلية السابق إدريس البصري؛ وذلك بعيد الانتفاضات الشعبية التي عرفتها البلاد طيلة عقد الثمانينيات ومنتصف تسعينيات القرن 20، ما دفع ببعض القوى اليسارية المتطرفة إلى النظر بحذر شديد إلى هذه الفرقة؛ إذ أصبحت لا ترى في "ناس الغيوان... سوى أداة طيعة في يد النظام للتنفيس على الاحتقان الاجتماعي ووسيلة من وسائل التنويم السياسي ليس إلا".