• ينبغي أن نؤكد هنا حفظا للذاكرة أن الدستور الجديد انطلق ببداية مسطرية ممنوحة ترتكز على مبدأ التعيين من خلال الإعلان عن تعيين لجنة استشارية ملكية للمراجعة الدستورية، وكونها استشارية أضفت على أشغالها طابعا غير إلزامي لنتائج اشتغالها، بحيث تكون الكلمة الأخيرة تصويبا وتعديلا للملك، وكانت هذه البداية المسطرية اللاديمقراطية مؤذنة بمآل مضموني من نفس جنسها اللاديمقراطي. • إن النزاهة الانتخابية شرط تابع لصنع الإرادة الشعبية وليس شرطا تأسيسيا لصنع هذه الإرادة. • ينبغي التشبت بمطلب الإقرار الواضح الذي لا لبس فيه بدستور ديمقراطي تتوضح فيه الاختصاصات والمؤسسات وآليات المحاسبة والتقويم لكل من له سلطة فعلية وفصل السلطات وطبيعة النظام السياسي الديمقراطي...، بل أن التأويل الدستوري في ظل دستور ديمقراطي يكون من اختصاص مؤسسة يقر بها هذا الدستور الديمقراطي ذاته. مدخل مستندان أساسيان يمثلان حجر الزاوية في قياس مصداقية وشرعية نتائج انتخابات 2011 وتوابعها، ويمكن الرجوع إليهما حين يتيه النقاش السياسي في تفاصيل إفرازات نتائج هذه الانتخابات للتذكر وللتقييم وللاعتبار، وهما على التوالي: المستند الدستوري، ثم المستند الشعبي، وسوف نرى من خلال هذا المقال أن خطاب الفاعل السياسي المنخرط في هذا المسلسل الرسمي الذي انطلق مع الدستور الجديد، ظل يدبج مفرداته للتغطية حقا على هذين المستندين تحويرا لحقيقة مضامينهما لصالح شرعنة الموقف والأداء السياسيين ومنه البحث عن مصداقية ما لنواتجهما على مستوى واقع الحال، فما حقيقة هذين المستندين وكيف تم تحوير وتوظيف مضامينهما من طرف الفاعل السياسي المنخرط في هذا المسلسل الانتخابي والدستوري منذ الإعلان الرسمي عن خطواته العملية؟ أولا في المستند الدستوري ينبغي أن نؤكد هنا حفظا للذاكرة أن الدستور الجديد انطلق ببداية مسطرية ممنوحة ترتكز على مبدأ التعيين من خلال الإعلان عن تعيين لجنة استشارية ملكية للمراجعة الدستورية، وكونها استشارية أضفت على أشغالها طابعا غير إلزامي لنتائج اشتغالها، بحيث تكون الكلمة الأخيرة تصويبا وتعديلا للملك، وكانت هذه البداية المسطرية اللاديمقراطية مؤذنة بمآل مضموني من نفس جنسها اللاديمقراطي، هكذا سنشهد "مشاورات مع الأحزاب" سارت على نفس النهج الاستشاري غير الإلزامي لتختتم بالإعلان عن مضامين الدستور الجديد، والذي ضم هيكله العام إقرارا بنظام ملكية تنفيذية للملك فيها حظ واسع في ممارسة سلطات تنفيذية وتشريعية ورئاسية، ولينتهي ذلك المسلسل بالتأكيد الدستوري على صلاحيات واضحة للملك سواء على المستوى التنفيذي من خلال ترأسه للمجلس الوزاري الذي ظل يمارس دور الفيتو على أغلب وأهم مشاريع القوانين قبل مرورها على البرلمان، ويبت في السياسة العامة للبلاد وفي التعيينات السامية في مناصب الدولة، أو على مستوى ترأسه لبعض المجالس ذات الطبيعة الحيوية والمحورية في البلاد (المجلس الأعلى للسلطة القضائية، المجلس العلمي الأعلى، المجلس الأعلى للأمن...) أو على مستوى تعيينه لرؤساء بعض المؤسسات الدستورية وعلى رأسها المحكمة الدستورية، وإذن فالمستند الدستوري الذي قامت عليه انتخابات 2011 قائم على نظام ملكية تنفيذية تمارس السلطة وتقرر في التوجهات الكبرى للسياسة العامة للدولة وتعين باقتراح أو بدون اقتراح من لدن رئيس الحكومة في المناصب السامية للدولة، و هي بذلك ترسخ لممارسة تضرب في العمق مبدأ ربط السلطة والمسؤولية بالمحاسبة التي مافتئ الخطاب الرسمي يؤكد عليها في الآونة الأخيرة. ثانيا في المستند الشعبي أتت انتخابات 2011 في حمأة الحركية الاجتماعية والسياسية التي تقودها حركة 20 فبراير والهيآت الداعمة لها، لتعلن هذه الانتخابات عن انطلاق مرحلة تنزيل الدستور الجديد، وبدأ التحضير للانتخابات ب"مشاورات" مع الأحزاب حول القوانين الانتخابية والتقطيع الانتخابي وضبط اللوائح، هذه المشاورات التي قادتها وزارة الداخلية التي تكلفت بمهمة الإشراف على هذه الانتخابات من بدايتها إلى نهايتها، ضدا على مطالب سياسية حتى من القوى المنخرطة في هذا المسلسل الدستوري والانتخابي، بضرورة استقلالية الهيئة المشرفة عن الانتخابات، وانتهت بنتائج أعطت الصدارة لحزب العدالة والتنمية، وسوقت السلطة المخزنية صورة عنوانها العام "نزاهة الانتخابات"، بينما كان الخلل الرئيس الذي عملت الدولة جاهدة أن يخفت بريقه هو نسبة المشاركة الانتخابية الضعيفة. لقد كان هو التحدي الرئيسي أمام السلطة المخزنية لتوسل شرعية شعبية "مقبولة" هو نسبة مشاركة انتخابية تعزز المصداقية الشعبية، لكن ومن المعطيات الرسمية التي أعلنت عنها وزارة الداخلية تبين أن أكثر من 7 ملايين مسجل في اللوائح الانتخابية من أصل ما يقرب من 13 مليون قاطعوا هذه الانتخابات. لقد كانت الأرقام الرسمية صادمة: تراجع المسجلين في الانتخابات بحوالي مليونين عن انتخابات 2007 في الوقت الذي كان من المفترض أن يزيد بفعل عامل النمو الديمغرافي وبفعل الدعاية الإعلامية الرسمية، لكن يتقلص عدد المسجلين في اللوائح الانتخابية من حوالي 15 مليون في 2007 إلى حوالي 13 مليون ناخب في 2011، ومن أصل 13 مليون مسجل يذهب إلى صناديق الاقتراع حوالي 6 ملايين مغاربة ويقاطع أكثر من نصف المسجلين، استمرار نسبة البطائق الملغاة التي تعدت 19% والتي تعبر عن رأي ساخط أيضا ولو بمشاركته في التصويت، فضلا عن أن هذه المعطيات الرسمية لا تأخذ بعين الاعتبار حساب نسبة من يحق لهم التصويت سواء تسجلوا في اللوائح أم لم يتسجلوا، إنها أرقام صادمة خصوصا في ظل كل التحفيزات الرسمية الإعلامية والتباشير بالدستور الجديد وبأهمية المسلسل "الإصلاحي الرسمي"، لنخلص في الأخير أن هذه المعطيات الرسمية الصادمة سواء من حيث انخفاض عدد المسجلين، واستمرار غالبية المغاربة في مقاطعة الانتخابات، تعكس ضعف المستند الشعبي لهذه الانتخابات، وبالتالي ضعف الشرعية الشعبية لنتائج هذه الانتخابات وتبعاتها المؤسساتية. ثالثا في عملية التغطية على هذين المستندين جرت عملية تواطىء رسمي وحزبي عند معسكر المنخرطين في هذا المسلسل الدستوري والانتخابي، في تدبيج خطاب يعمل على تغطية هذا الاختلال الذي انفضح مع ضعف المستندين الدستوري والشعبي لهذا المسلسل الذكور، هذا الخطاب ارتكز على تمويهين اثنين: التمويه الأول التواطىء على إظهار عنوان النزاهة الانتخابية أساس لصنع الإرادة الشعبية وهو عنوان تمويهي كانت غايته التغطية على الأساس الحقيقي لصنع الإرادة الشعبية المتمثل في نسبة المشاركة الانتخابية، إن شرعية مسلسل بناء المؤسسات الدستورية والسياسية في فترات التحول الديمقراطي تقاس بنسبة المشاركة الانتخابية وليس بمدى حضور شرط النزاهة الانتخابية، وذلك لاعتبار ضرورة مرحلة التحول الديمقراطي في بناء تعاقدات دستورية وسياسية كبرى متينة، ولنلق نظرة خاطفة على بعض الأرقام المتعلقة ببعض تجارب التحول الديمقراطي، ففي تجربة التحول الديمقراطي بإسبانيا وبعد موت فرانكو سنة 1975، وإقرار إصلاحات دستورية وسياسية عميقة انتهت باستفتاء سن 1976 عرف نسبة مشاركة فيه فاقت 77%، وبعدها أقيمت أول انتخابات ديمقراطية للمجلس التأسيسي سنة 1977 عرفت نسبة مشاركة انتخابية واسعة 78%، في تجربة التحول الديمقراطي بجنوب إفريقيا التي انطلقت مع 1994 سجلت نسبة مشاركة انتخابية واسعة بلغت حد 86 %، وفي تجربة تونس ما بعد الإطاحة بالدكتاتور بن علي سنة 2010 سجلت انتخابات المجلس التأسيسي2011 نسبة مشاركة انتخابية فاقت 90 %. وهذه المعطيات والأرقام تبين بالملموس أن نسبة المشاركة الانتخابية تعد من بين أهم المؤشرات التي تدل على أن الانتخابات تصنع فعلا الإرادة الشعبية الواسعة، وأن هذه المشاركة الواسعة هي التي تمنح الشرعية الشعبية لهذه الانتخابات. إن النزاهة الانتخابية شرط تابع لصنع الإرادة الشعبية وليس شرطا تأسيسيا لصنع هذه الإرادة، وحين تضعف نسبة المشاركة الانتخابية وتضمحل، فلا معنى لشرعية الانتخابات حتى وإن افترضنا جدلا نزاهتها، لأن شرعية الانتخابات تستمد من مدى مشاركة الشعب فيها ونسبة مشاركته وانخراطه في هذا المسلسل تزكية له، وعليه فحجة أصحاب معسكر الانخراط في هذا المسلسل الانتخابي والدستوري ضعيفة وداحضة لأنها اعتمدت على مرافعة تمويهية تغطي على الشرط التأسيسي لصنع الإرادة الشعبية الذي هو نسبة المشاركة الانتخابية بشرط تابع له وهو "النزاهة" مع تحفظنا على توفر هذا الشرط كلية في انتخابات 2011. التمويه الثاني التواطىء على إظهار عنوان معركة التأويل الديمقراطي أنها أم المعارك الراهنة وهو عنوان تمويهي غايته التغطية على معركة الإقرار بدستور ديمقراطي باعتبارها لازالت أم المعارك، إن معسكر المشاركين في هذا المسلسل الدستوري والانتخابي عملوا جاهدين على تحوير الجهد إلى معركة تتبدد فيها الجهود والنضالات بدعوى أن تأويل بنود الدستور لصالح تغليب ديمقراطيته هي الأولوية النضالية القصوى، بينما الأصل في كل إصلاح وضوح عناوينه ووضوح بداياته، وإلا تاه النقاش وتاهت المعارك في التأويلات والتأويلات المضادة إلى ما لانهاية. ينبغي التشبت بمطلب الإقرار الواضح الذي لا لبس فيه بدستور ديمقراطي تتوضح فيه الاختصاصات والمؤسسات وآليات المحاسبة والتقويم لكل من له سلطة فعلية وفصل السلطات وطبيعة النظام السياسي الديمقراطي...، بل أن التأويل الدستوري في ظل دستور ديمقراطي يكون من اختصاص مؤسسة يقر بها هذا الدستور الديمقراطي ذاته. إن السياسة الحقيقية هي قول الحقيقة، والشجاعة كل الشجاعة تكون في الوضوح مع الذات ومع الشعب ومع الرأي العام، لأن الوضوح سبيل إلى المصداقية، ومن قول الحقيقة أن نقر أن البداية الصحيحة للإصلاحات الدستورية لازالت تراوح مكانها، وكل ما يمر علينا حاليا هو في تقديري ضياع للوقت وتبديد للجهد وإسهام في إطالة عمر الاستبداد تحت عناوين تمويهية هي مسوقة للخارج وللرأي العام الدولي أكثر منها حقيقة سير نحو طريق الإصلاح المنشود. *عضو اللجنة التحضيرية لإعادة تأسيس حزب الأمة المغربي.