المدن العتيقة الهندية، كما في بنغالور ونيودلهي، كنز عامر بالتاريخ وجمال الهندسة المعمارية، يروي قصة الإنسان الهندي ورحلته مع الحضارة والدين والثقافة والتقاليد. كون فريد يتحول في العطل الدينية المخصصة للعبادة إلى مزار زاخر بالروحانيات، حيث يزهى ليله وتتصاعد من أفنية معابده ومساجده أدعية المحبة والسلام الأبدي، حيث يغوص الزائر في بحار الجمال والحب. "الأبقار المقدسة".. مشاهد وانطباعات بقرة بيضاء كبيرة الحجم مُبرقعة بالأسود تجوب شوارع الأحياء العتيقة بمدينة بنغالور دون أن يلتفت إليها أحد، بل إن أصحاب المحلات التجارية يُقومون بإطعامها، والأكثر من ذلك تنتصب الساكنة دفاعاً عنها من أي تهديد خارجي قد يلحقها.. مشهد قد يبدو غريبا للزائر الأجنبي بالنظر إلى كون الشارع ليس المكان الطبيعي للأبقار، لكنه بالنسبة إلى الهندي عادي تبعا للهالة القدسية التي تحظى بها البقرة في المخيال الشعبي. ضوضاء تعلو المكان.. طوابير طويلة من السيارات والعربات تملأ شوارع بنغالور، التي تُصنّف على أنها العاصمة التكنولوجية للهند.. أبواق السيارات والمركبات تُطلق بسبب أو بدون سبب وسط مياه أمطار الليلة الفائتة.. شرعت السماء تنكشف قليلا، لكن رغم انفراجها لا تزال المياه تسيل في الشوارع وتجرف بعض النفايات المُبعثرة في الأزقة. قمنا بجولة في أرجاء الأحياء العتيقة ببنغالور.. متاهة من الأزقة اللامتناهية التي يزورها السياح بكثير من اللهفة. الناس هنا يستقبلونك بابتسامتهم المعهودة وكرمهم اللامحدود. ورغم أن الساكنة تتكلم اللغة المحلية فقط، فإن ذلك لا يمنعها من التواصل مع الزوار بلغة الإشارات حينما تسأل عن أي شيء في المنطقة. رحلة تيه.. ومعالِم خالدة انطلقنا في رحلة تيه مسائية صوب شارع المحلات التجارية الكائن في قلب المدينة العتيقة لبنغالور. الازدحام الشديد لا يقتصر على وقت الذروة على غرار المغرب، وإنما يوجد في أي وقت ومكان بالديار الهندية. هنا، أغلب من صادفناهم حبيسو الثقافة المحلية، حيث لا يعرفون الموقع الجغرافي للمغرب، بل هناك من لا يدري حتى بوجود القارة الإفريقية. ولا يكتمل التجوال داخل أزقة المدينة العتيقة دون زيارة المنطقة التي تعيش فيها الأسر المُسلمة. لا شيء مغاير للثقافات الهندية الأخرى: التقاليد والأعراف توحدهم، باستثناء الاختلافات التي تخص الديانة. فعوض أن تجد التماثيل الهندوسية في أرجاء المدينة، تعثر على بعض المساجد الشبيهة بالبلدان الإسلامية. سلكنا أحد دروب المدينة العتيقة ببنغالور، فأوصلنا إلى سوق للجملة يخص بيع الخضر والفواكه. قلب المدينة يعكس التناقضات الاجتماعية التي تسم الهند.. رائحة كريهة تفوح في كل أرجاء المكان، والنفايات تملأ الأزقة، وأعداد "الأبقار المقدسة" متضاعف في هذه المنطقة التي يقصدها الناس من أجل اقتناء حاجياتهم طوال الأسبوع. بمجرد مغادرة المدينة العتيقة، ويكفي أن يُقلّك "التوك توك" إلى منطقة أخرى لا تبعد عنها سوى بربع ساعة حتى تكتشف عالما آخر.. يعكس حجم الهوة الاقتصادية والاجتماعية الكائنة في المنطقة، حيث تنتشر الكثير من المحلات التجارية في هذا الحي الراقي، الذي تتضاعف فيه الأسعار بالمقارنة مع وجدناه في "المدينة القْدِيمة". بالعمل ثم العمل.. يعيش الهندي رحلة استكشاف عالم المدن العتيقة لم يقتصر على بنغالور، حيث اتجهنا صوب العاصمة نيودلهي. استغرقت الرحلة عبر الطائرة قرابة ثلاث ساعات. الضجيج والازدحام هنا أشد بكثير مما هو موجود في بنغالور، بسبب الكثافة السكانية المرتفعة بالعاصمة الهندية، التي يبلغ عدد سكانها 28 مليون نسمة. أول ملاحظة أثارتنا في المدينة العتيقة لنيودلهي هي الرواج التجاري الذي تعرفه محلات المنطقة، بالنظر إلى الأعداد الكبيرة للسياح الذين يزورون المكان. كل شيء هنا رخيص بالمقارنة مع ما يُباع في المحلات التجارية الكبرى بالمدينة. الجميع يتعامل بأدب مع الأجانب، فرغم الاكتظاظ الشديد لا تسمع أي سباب أو مشاجرات. الملاحظة الثانية: لا توجد أي مقاهٍ بالأحياء المجاورة للمدينة العتيقة التي تفوح بعبق التاريخ، لأن الكلّ في عجلة من أمره. الساكنة تشتغل بجد طوال اليوم في أي مهنة، فلا يوجد أي متسع من الوقت لديها لتزجية الوقت، بل هناك مهن فريدة ابتدعها الهنود تُدر عليهم بضع الروبيات، لأن جوهر الثقافة الهندية يوصي بالعمل واستغلال الوقت الثمين. الحياة اليومية.. "مفارقات مقبولة" المفارقات الاجتماعية هنا واضحة للعيان بدون شك، لكن لا أحد يشكو من أوضاعه الاجتماعية للآخر. ومن النادر أن تجد بعض المتسولين في الأحياء، مما يشير إلى كون هذه الفئات تُطبّع مع الفقر الذي تعانيه، حيث يصبح جزءا من حياتها اليومية؛ ومن ثمة لا مجال للشكوى، لأن الجميع يبحث عن مورد رزق دائم. ليس بعيداً عن المدينة العتيقة، وبالتحديد في اتجاه مركز نيودلهي، حيث مقرات القطاعات الوزارية الكبرى، تؤثث الحدائق المكان، فلا يمكن أن تقصد أي وجهة دون أن تجدها مغطاة بالأشجار العملاقة التي يعود عمرها إلى عشرات السنين، وهي التي تخفف من تبعات التلوث الصناعي الذي يواجه العاصمة الهندية. في مساء اليوم ذاته، انتقلنا إلى قلب العاصمة، حيث حضرنا عرضاً موسيقيا يمتح من الأصول التراثية الموغلة في الحضارة الهندية، بحضور وفود مختلفة. وقد تميّز العرض التراثي بالمزاوجة بين الأصالة والحداثة في الألبسة المخصصة للعرض، فضلا عن إعادة إحياء مجموعة من الأغاني الكلاسيكية الشهيرة في الهند.