أسبوع في دلهي لم يكن كافيا للنفاذ إلى عمق المجتمع الهندي بتناقضاته وفوارقه.. ملايين السكان بعقائد مختلفة ومستويات عيش متباينة، هندوس وسيخ ومسلمون وبينهم منتسبون إلى ديانات أخرى سماوية ووضعية، يحاولون التعايش في بلد تصنفه الأرقام الدولية سابع قوة اقتصادية في العالم، لكنه لم يتمكن بعدُ من ترجمة هذه القوة إلى واقع يعيش فيه ملايين السكان تحت خط الفقر. دلهي- مولاي إدريس المودن دلهي، الرابعة صباحا بالتوقيت المحلي، آلاف السيارات والدراجات وعربات “التوك توك” الشهيرة تجوب شوارع مدينة تكاد لا تنام، وهي التي تعتبر عاصمة الهند السياسية وأشهر مدنها على الإطلاق والأكثر سكانا بعد مومباي بأزيد من 30 مليون نسمة.. فوارق صارخة.. حركة دؤوبة في الشوارع العريضة ذات الاتجاه الواحد، وبائعو الأكلات والمشروبات الشعبية المحلية أخذوا أماكنهم في مفترقات الطرق وقرب محطات الحافلات لخدمة أولى أفواج الذاهبين إلى أعمالهم.. أطعمة شعبية يصعب تمييز موادها ولا خلطاتها، ووحدها روائح البهارات القوية تنفذ إلى الأنوف، دون أن تفلح في طرد مخاوفنا، نحن الغرباء عن البلد. لا مجال لتجريب أكلات شوارع تغيب فيها أبسط شروط النظافة والجودة، والأسلم أن ننتظر عودتنا إلى فندقنا المصنف لتذوق عشرات الأطباق الهندية التي لا تغيب عنها التوابل الحارة.. هي من ميزات المطبخ الهندي الغني بالوصفات. الحياة في هذه المدينة المترامية الأطراف تبدأ قبل شروق الشمس بساعات، وفي الطريق من المطار إلى وسط المدينة، لا يمكن أن تخطئ العين الكثير من مظاهر الفوارق الطبقية التي تميز البلد، بنايات شاهقة ومضيئة تجاور فيلات وإقامات لأثرياء البلد ممن بنوا ثرواتهم في قطاعات الصناعة والتجارة وحتى الخدمات، وشوارع بمدارات واسعة لتسهيل حركة السير والجولان في واحدة من أكبر المدن كثافة سكانية في العالم.. ووسط كل هذا، آلاف المواطنين ممن يفترشون الأرض في الحدائق وتحت القناطر وفي إشارات المرور، ينتظرون إشراقة الصباح لاستجداء الصدقات أو البحث عن فرص عمل في بلد يسعى إلى تقليص نسبة البطالة إلى ما دون 6 في المائة، حسب إحصائيات صادرة عن الحكومة السنة الماضية.. الرقم مبالغ فيه، ربما، لكن، من الممكن، أن تكون لدى الحكومة الهندية معايير خاصة في تحديد العاطلين عن العمل، تستثني عشرات الآلاف من بائعي المناديل الورقية والأقلام والتذكارات في الإشارات الضوئية وتضعهم في خانة المشتغلين. هنا، من العادي جدا أن تجد أسرا بكامل أفرادها “تقطن” خلف إشارة مرور، يتمدد أفرادها جنبا إلى جنب في الليل على أفرشة بالية تغيرت ألوانها إلى اللون الأسود بفعل الأوساخ، ومع أولى ساعات الصباح يشرعون في ممارسة حياتهم اليومية أمام مستعملي العربات والراجلين مثل مشهد مسرحي يشترك الممثلون والجمهور في لعب أدواره.. ضمنهم أصحاب حرف بسيطة، وبائعون جائلون، ومتسولون وحتى متصيدو الفرص.. هذه الفئات الاجتماعية الهشة لا تشملها برامج الحكومة، أو على الأقل، لم تصلها بعد فرصة الاستفادة منها، لكن أطرف تفسير قد تسمعه لتبرير وضعية هذه الحالات الإنسانية، التي تعد بالملايين، هو أن الهند دولة ديمقراطية ومن حق أي مواطن أن يفعل ما يشاء دون أن تفرض عليه الدولة قراراتها، كما يحصل في الجارة الصين مثلا، حيث تفرض الدولة تحديد النسل.. الأمر غير ممكن هنا في الهند رغم أن عدد سكانها يتجاوز اليوم، مليارا و350 مليون نسمة، ما يضعها في الرتبة الثانية بعد الصين. الزيادة الكبيرة في أعداد السكان، تضع الحكومة أمام رهانات صعبة تقوض جهودها في الاستجابة للحاجيات الأساسية للمواطنين من شغل وتطبيب وتعليم، فضلا عن التحديات الكبيرة التي تواجه الفريق الحكومي في ما يتعلق بضمان شروط العيش الكريم لمئات الملايين من الهنود، والتوغل في أحياء دلهي القديمة كفيل بالوقوف على كثير من المظاهر السلبية، خاصة في ما يتعلق بالنظافة والتطهير السائل والتزود بالماء الشروب، وأيضا في ما يتعلق بالحد من نسبة التلوث التي تبلغ مستويات خطيرة، تنضاف إلى الروائح الكريهة التي تنبعث من قنوات الصرف الصحي المكشوفة، والتي لا يمكن إلا أن تثير انتباه أي زائر أجنبي للمدينة. قنوات تصريف المياه العادمة المكشوفة هي معضلة كبرى في العاصمة دلهي، كما في مدن أخرى عبر البلاد، وهو ما يزيد من مخاطر الإصابة بالأمراض المعدية، خاصة في فصل الصيف حيث تلامس درجات الحرارة معدلات مرتفعة تفوق 48 درجة مئوية، أو في فصل الأمطار حيث تتكون تجمعات مائية أو تحدث فيضانات، وهي بيئة ملائمة لتناسل البعوض وأنواع أخرى من الحشرات الناقلة للعدوى. يقول سوبرامانيام جيشانكار، وزير الخارجية، في لقاء جمعه بوفد صحافي مغربي يقوم بزيارة إلى الهند، “إن حكومة بلاده تمكنت من ضمان عودتها إلى تسيير البلاد، عقب الانتخابات الأخيرة لشهر ماي الماضي، بفضل السياسات الناجحة التي نفذتها في الولاية السابقة، خاصة في قطاعات تمس الحياة اليومية للمواطنين سواء تعلق الأمر بقطاعات الصحة والسكن والتعليم”. وزير الخارجية الهندي يضيف: “خلال السنوات الخمس الماضية تمكنت الحكومة، التي يقودها رئيس الوزراء ناريندرامودي، من بناء 15 مليون سكن اجتماعي، وآلاف المراحيض العمومية وأيضا تم توسيع الولوج إلى الكهرباء وغاز الطهي لعدد كبير من المنازل.. نحن بصدد بناء وجه جديد للهند، وهناك تحديات كثيرة تنتظر الحكومة الحالية”. الأسبقية للأسرع.. التجول في شوارع دلهي مغامرة غير مضمونة العواقب دائما، سواء بسبب الاكتظاظ أوبسبب أسلوب السياقة الذي لا ينضبط لأي معايير.. وعلى مدار اليوم تجوب شوارع المدينة وأزقتها المتفرعة آلاف السيارات هندية الصنع، أو تلك المستوردة من الخارج، وخاصة العلامات اليابانية التي وجدت في الهند سوقا استهلاكية كبيرة، مع استمرار توسع الطبقة المتوسطة وارتفاع نسبي في دخل الأفراد. السياقة هنا تتم على اليسار وِفق الأسلوب الإنجليزي، ورغم أن الطرق صُممت بشكل يقلل من التقاطعات، مع تخصيص مدارات واسعة لتغيير الاتجاهات، إلا أن طريقة قيادة مستعملي السيارات والحافلات وعربات “التوك توك” تبقى متفردة، ولا يمكن مجاراتها بسهولة.. لتكون الأسبقية للأكثر خفة العرف السائد في أوساط مستعملي الطريق. وتزداد حدة أخطار استعمال الطريق في المدينة الغول كلما ابتعدنا عن الأحياء الراقية، حيث الإدارات العمومية والسفارات ووحدات فندقية تابعة لعلامات عالمية، للغوص في أحياء دلهي القديمة، حيث تختلط السيارات والحافلات المتهالكة مع البقرات التي يتخذها كثيرون هنا آلهة معبودة، والراجلين وأصحاب الدراجات النارية في مشهد سريالي، قلما تجد مثيلا له في عواصم أخرى. وفضلا عن الاكتظاظ وأسلوب السياقة المتهور، يبالغ السائقون في استعمال منبهات الصوت. الأمر كان مثيرا بالنسبة إلينا نحن الغرباء عن المدينة، ومن الصعب التأقلم معه بسرعة، لكنه أمر عادي جدا بالنسبة إلى أهل البلد أو المقيمين ممن قضوا سنوات هنا، فهي بالنسبة إليهم وسيلة لتنبيه الآخرين إلى خطر الاصطدام، وهي أيضا أسلوب للاحتجاج على أي حركة متهورة.. لكن استعمال المنبهات على مدار ساعات اليوم يجعل من الأمر وكأنه رياضة وطنية التنافس فيها مفتوح أمام الجميع. مزارات وتاريخ عريق.. في الهند العديد من الديانات، وأهمها الهندوسية بنسبة 80 في المائة، يليها الإسلام الذي يدين به أزيد من 180 مليون مسلم، أي ما يمثل نحو 14 في المائة من مجموع السكان، وفضلا عن هؤلاء يعتنق سكان الهند عقائد أخرى منها المسيحية والبوذية والسيخية والجاينية.. لكن العلاقة بين المنتسبين إلى هذه الديانات ليست دائما على ما يرام، وكثيرا ما تقع صدامات بين الطوائف بسبب تعصب كل فريق لعقيدته، وهو ما يجعل بعض الأقليات تعيش على الهامش ويتم معاملتها بنوع من الاحتقار حتى وإن حاولت الجهات الرسمية التقليل من الأمر وإشاعة رواية أن جميع الهنود سواسية. تعدد الديانات في الهند يعود إلى قرون خلت، وعلى مدار فترات شهدت البلاد بناء عدد من المعابد والمزارات والمساجد التي صمدت في وجه الزمن لتصير اليوم محج ملايين السياح عبر العالم، ومنها ما أدرج ضمن التراث الإنساني.. لا يمكن السفر إلى الهند دون زيارة بعض مآثرها الضاربة في القدم، وزيارتنا إلى دلهي، قادتنا إلى زيارة بعضها، علما أن المدينة تضم لوحدها العشرات من دور العبادة والمساجد التاريخية لعل أشهرها ضريح “همايون”، الذي يضم جثمان الإمبراطور المغولي نصير الدين همايون، والذي بُني سنة 1957 ميلادية، بأوامر من زوجته بعد 9 سنوات من وفاته. الضريح، الذي يقصده آلاف الزوار كل يوم، يضم حديقة شاسعة، كانت الأولى من نوعها في تصميم الحدائق بالهند، وتبلغ مساحتها نحو 30 ألف فدان، وتضم مجموعه من النباتات والأزهار الجميلة والنادرة، ونظرا إلى أن الضريح يعد من أبرز الاثار المغولية، فقد تم ضمه إلى قائمة اليونسكو من بين أفضل مواقع التراث الإنساني وتم ذلك سنة 1993. مزار آخر يقصده آلاف المريدين كل يوم، وزارته “أخبار اليوم”، هو معبد “أكشاردام”، وهو من المعالم البارزة لطائفة “سوامينارايان” واستغرق بناؤه خمس سنوات بين سنتي 2000 و2005. يتطلب الدخول إلى المعبد الخضوع إلى إجراءات تفتيشية صارمة تبدأ بالتخلص من الهواتف المحمولة وآلات التصوير الفوتوغرافي، وصولا إلى خلع الأحذية والتجول حفاة في أرجائه، وهي العملية التي يبررها القائمون عليه بتفادي تكرار الحادث الإرهابي الذي كان معبد مماثل للطائفة هدفا له سنة 2002. المعبد، الذي استخدم في بنائه الحرفيون التقنيات القديمة لنحت الحجر الرملي الأحمر والرخام المستورد من إيطاليا، يضم زهاء 20 ألف تمثال للآلهة والقديسين والمخلوقات الأسطورية. ويتوسطه تمثال بطول 3 أمتار يرمز للإله “سوامينارايان” معظمه من الذهب الخالص. وفضلا عن روعة المنحوتات والنقوش التي تميزه، يحظى زواره بعروض يتم خلالها المزج بين حركات نافورات المياه والموسيقى والأضواء، وهي من بين أفضل عروض الماء في العالم التي برع مصمموها في تطويع تقنية ثلاثية الأبعاد (3D) بشكل هائل. ولعل المزار الأشهر الذي عُرفت به الهند هو تاج محل، الذي يقع إلى الجنوب الشرقي من دلهي، وتحديدا في إقليم “أغرا”.. هذا الصرح التاريخي الذي بناه الإمبراطور “شاه جهان” تخليدا لذكرى زوجته الثانية الأقرب إلى قلبه “ممتاز محل”، يستقبل بدوره آلاف الزوار على مدار اليوم، خاصة أنه مصنف ضمن عجائب الدنيا السبع، نظرا إلى هندسته الفريدة وجمعه بين أفضل ما أنتجه فن العمارة المغولية التي تمزج بين الفن الهندي والفارسي والإسلامي. ما يوحد هذه المزارات، سواء تلك التي تديرها الهيئة الرسمية للآثار، أو تلك التي تديرها مؤسسات خاصة حاصلة على تراخيص بموجب الاتفاقيات المبرمة في إطار مشروع “تبني المواقع التراثية الوطنية”، أو حتى تلك التي تتبع لبعض الطوائف الدينية، هو أنها مصدر لملايين الروبيات التي يدفعها الزوار نظير واجبات الدخول، حيث تصل تذكرة زيارة صرح تاج محل مثلا إلى 1300 روبية (حوالي 180 درهما) بالنسبة إلى الأجانب و250 روبية (حوالي 35 درهما) بالنسبة إلى المواطنين، فضلا عن تسعيرات خاصة بتلاميذ المدارس أو المجموعات السياحية، وهو ما يدر على خزينة الدولة مبالغ مهمة يعاد توجيهها لترميم الأثار والمواقع التاريخية التي تميز دلهي بشكل خاص، والهند بشكل عام، حيث يصل مجموع الآثار التي تستفيد من برنامج الحماية إلى أزيد من 3660 أثرا تاريخيا يعود إلأى مختلف الإمبراطوريات التي حكمت الهند. تنوع المزارات ودور العبادة في عموم الهند يساهم بشكل كبير في الرفع من أداء القطاع السياحي. لكن ما يميز السياحة في هذا البلد، وعلى خلاف الوجهات السياحية الدولية، هو أن عدد السياح الأجانب الذين يقصدون البلاد ومزاراتها لا يتعدى 10 ملايين سائح أجنبي فقط، ومقابل هذا يصل عدد السياح الداخليين إلى أزيد من 160 مليون سائح، غالبتيهم العظمى يحركهم بشكل أساسي وازعهم العقائدي والديني. كشمير.. أعلى درجات اليقظة خلال مقامنا في دلهي الجديدة صادفنا الكثير من اللافتات برسائل أمنية تحذر المواطنين من خطر الإرهاب وتدعوهم إلى اليقظة والإبلاغ عن أي عمل مشبوه. يتطلب الولوج إلى أي مؤسسة رسمية أو خاصة الخضوع إلى حصص تفتيش دقيقة.. في المطار نزعنا الأحذية وأحزمة السراويل، وفي مداخل الفنادق يتم تفتيش الحقائب اليدوية بآلات السكانير.. حتى الكلاب المدربة استدعيت لتساعد في كشف المحظورات.. زرنا مؤسسات رسمية عديدة بدعوة من وزارة الخارجية الهندية.. مؤسسة أبحاث الفضاء وشركة بهارات إلكترونيكس، المتخصصة في الأنظمة الدفاعية وصناعة الأسلحة والرادارات.. الأمر مبالغ فيه، لكن ما تعيشه الهند من توترات في الشمال كان كفيلا بمساعدتنا على تقبل الأمر. خلال مقامنا في دلهي، بلغ التوتر في إقليم كشمير المتنازع عليه أشده مع الجارة باكستان.. الموضوع يمثل حساسية بالغة هنا، ولكوننا ضيوفا على وزارة الخارجية لم يكن من اللائق إثارة الموضوع أمام كل من استقبلونا من مسؤولين حكوميين.. ومقابل ذلك، كان علينا الجلوس للاستماع إلى رواية عمار سينها، الدبلوماسي السابق والعضو الشرفي في مركز الأبحاث الهندي RIS، الذي انتقل، دون مناسبة، من الحديث عن العلاقات الهندية مع الدول الإفريقية وضمنها المغرب، إلى أزمة كشمير.. خلاصة حديثه كانت لتصحيح الكثير من المغالطات التي يتم الترويج لها، خاصة ما يتعلق بخرق الهند لمعاهدات حقوق الإنسان بخصوص النزاع في هذا الإقليم.. وحتى الاتهامات بحصار المنطقة وقطع الاتصالات، فقد صار من الماضي، يقول عمار سينها، حيث تم إعادة تفعيل الاتصالات.. رواية رسمية، من دبلوماسي سابق، كان ضروريا أن تلقن إلينا في أول أيام زيارتنا، رسالتها الخفية المخاطر الإرهابية والخوف على سلامتنا، لعلها تفي بأن نتفهم حرص مضيفينا على تحديد مسارات تحركاتنا بشكل صارم لا فرصة فيه للتجول خارج ما هو مخطط له مسبقا.