اعتاد الملك أن يصدر عفوه عن المعتقلين أو الصادرة في حقهم أحكام قضائية عند حلول المناسبات الدينية والوطنية. لكن عفوه عن هاجر الريسوني جاء خارجا عن هذا التقليد الملكي. فهاجر الريسوني ليست شخصية وطنية أو معارضة معروفة بمواقفها الجذرية من النظام حتى تحظى بعفو استثنائي كما وقع مع إبراهام السرفاتي مثلا، ولا هي معتقلة سياسية تبنت قضيتها هيئات دولية لها تأثير على الحكومات الغربية كما حصل في قضية معتقلي تازممارت، بل هي مواطنة وصحفية عادية تم اعتقالها بسبب ارتكابها "أفعالا يجرمها القانون" (الإجهاض والفساد )، الأمر الذي اعتبرته هيئات نسائية وحقوقية خرقا سافرا للدستور واعتداء على الحريات الفردية. فالمعركة التي خاضتها وتخوضها الهيئات والفعاليات المغربية لم تكن من أجل هاجر فقط، بل من أجل تغيير القانون الجنائي وملاءمته مع بنود الدستور والمواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب. وكان حادث اعتقال هاجر الريسوني مناسبة لتجديد مطالب الهيئات النسائية والحقوقية وإعطاء زخم أكبر للنضال من أجل رفع التجريم عن الإجهاض والعلاقات الرضائية بين الراشدين وضمان الحريات الفردية وحق النساء في تملّك أجسادهن ووقف/منع الدولة وأجهزتها الأمنية والقضائية من التجسس والتلصص على حميمية الأشخاص. وباعتبار الحكومة أعدت مشروع القانون الجنائي وعرضته على لجنة التشريع التي ستنكب على مناقشته في الأيام القادمة، فإن العفو الملكي على هاجر الريسوني، في هذه اللحظة بالذات يوجه رسائل لأطراف بعينها داخل الدولة كالتالي: 1 رسالة إلى الحكومة المغربية باعتبارها صاحبة مشروع القانون الجنائي مفادها أن القانون الذي حوكمت بمقتضاه هاجر الريسوني أصبح متجاوزا ويسيء إلى سمعة المغرب وتترتب عنه آثار اجتماعية خطيرة. لذا وجب تغييرها بما يتناسب مع تطور المجتمع ويستوعب حركيته وانفتاحه ويتلاءم مع الدستور ويحترم التزامات المغرب الدولية في مجال حقوق الإنسان. يكفي أن يتدخل الملك بالعفو عن السجناء الذين تحسن (تجاوزا ) سلوكهم لا أن يكون عفوه تصحيحا لأخطاء ارتكبتها الأجهزة الأمنية والقضائية. فسمعة المغرب تضررت كثيرا بسبب اعتقال هاجر الريسوني في قضية حميمة لا تشكل أي تهديد للمجتمع أو للدولة في الوقت الذي كل الديمقراطيات تحمي وتضمن ممارسة ما حوكمت من أجله هاجر. 2 رسالة إلى لجنة التشريع البرلمانية تنبهها إلى ضرورة التفاعل والتجاوب مع مطالب الحركة النسائية والحقوقية بوضع قانون جنائي عصري يقطع مع معايير الحلال والحرام ويرقى بالتشريع إلى مستوى ضمان كرامة المواطنين وحماية حقوقهم وحرياتهم بما يتلاءم مع المواثيق الدولية والتزامات المغرب. فالملك قدم دليلا على تفاعله الإيجابي مع مطالب الهيئات النسائية والحقوقية، فكذلك على لجنة التشريع أن تفعل وتخرج من التضييق على حقوق المواطنين وحرياتهم بتجاوز قانون مجحف ورجعي وموروث عن عهود غابرة، بأن تضع قانونا يستلهم إطاره وتشريعاته من قيم ومبادئ حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا. 3 رسالة إلى هيئة القضاء تنبهها إلى أمرين اثنين: أولهما: الانفتاح على المواثيق الدولية والتشبع بثقافة حقوق الإنسان والاجتهاد بما يصون الحريات الفردية وكرامة المواطنين مع احترام مبدأ مساواة المواطنين أمام القانون. فهناك حالات تم حفظ الملف بشأنها وأخرى كانت أحكامها خفيفة بينما حالة الريسوني كانت مشددة. فللقاضي حق الاجتهاد بما يصون كرامة المواطنين ولا يخرق القوانين دون ارتكاب الأخطاء مثل التي تطلب تصحيحها عفوا ملكيا. ثانيها: احترام نصوص مدونة الأسرة وملاءمة الاجتهادات القضائية معها. فالمدونة تقر بالعلاقات الجنسية في فترة الخطوبة وتلحق الابن بأبيه قبل توثيق عقد الزواج. فتهمة "الفساد" لا تقر بها مدونة الأسرة في فترة الخطوبة وتعتبر العلاقة بين الخطيبين علاقة شرعية يترتب عنها ما يترب عن العلاقة الموثقة بعقد الزواج. 4 رسالة إلى المجلس العلمي الأعلى باعتباره الجهة الرسمية التي كلّفها الملك بدراسة مقترحات ومطالب الهيئات النسائية والحقوقية المتعلقة بالإجهاض. فالمجلس إياه حصر إباحة الإجهاض في أربع حالات ( وجود خطر الحمل على حياة الأم، الاغتصاب، زنا المحارم، تشوه الجنين). وعفو الملك عن هاجر، وهي المتهمة بالإجهاض، معناه أنه لا يرى أنها ارتكبت فعلا ينبغي تجريمه قانونيا ولا تحريمه شرعا رغم أنه لا يدخل ضمن الحالات الأربعة التي أباح فيها المجلس الإجهاض. فالعفو رسالة إلى المجلس بضرورة الاجتهاد والانفتاح على المذاهب الفقهية وتوسيع الحالات التي يُباح فيها الإجهاض شرعا انسجاما مع روح الدين واجتهادات الأئمة التي تتوخى رفع الحرج والتيسير على الناس. فالتحريم فقهيا والتجريم قانونيا لم يمنعا الإجهاض، بدليل إجراء 800 حالة إجهاض سري يوما، رمي 24 رضيعا في حاويات الأزبال والشوارع، فضلا عن عشرات الآلاف من الأطفال المتخلى عنهم وغالبيتهم من حمل غير مرغوب فيه. إذن المطلوب من المجلس العلمي الأعلى أن يأخذ المبادرة ويعلن عن اجتهادات أكثر انفتاحا على باقي المذاهب الفقهية قبل أن تنتهي لجنة التشريع من مناقشة مشروع القانون الجنائي وعرضه للمناقشة والمصادقة في جلسة عام للبرلمان.