عادة ما يربط أغلب منتجو وصناع الأفلام، القصيرة منها والطويلة في التلفزيون كما في السينما، الإبداع بتوفر إمكانيات تقنية ومالية مهمة كي يكتمل، كما يربط الكثيرون منهم أيضا الإبداعَ، في السمعي البصري عموما، بضرورة توفر حكاية غنية بالأحداث والتحولات والمفاجئات. إلا أن مشاهدة الكثير من الأفلام الذكية والمُدهشة، قصيرة كانت أم طويلة أم وثائقية، تبرهن لنا على عكس ذلك. حكاية مُراهقة أقول هذا الكلام انطلاقا من فيلم قصير (عنوانه "Into The Blue" من إخراج "أنطونيطا الامات كوسيانوفيتش" سنة 2017) شاهدته في دورة أكتوبر 2018 من "مهرجان الفيلم القصير المتوسطي"، الذي ينظمه المركز السينمائي المغربي بطنجة. يلخص هذا الفيلم معنى القول المأثور: "السهل الممتنع"، أو الإبداع انطلاقا من البساطة ومن الاعتيادي. يتعلق الأمر بقصة بسيطة تدور أحداثها في مكان صغير المساحة بين جبل وساحل. تهرب "جوليا" البالغة من العمر ثلاثة عشر عاما رفقة والدتها من منزلهما لأسباب لا يوضحها الفيلم مادام قصيرا وهي أسباب ليست بالمهمة في منطقه السردي. تلجأ "جوليا" وأمها الى جزيرة جميلة المناظر وخلابة الطبيعة ترعرعت "جوليا" فيها بعد ولادتها في كرواتيا. كانت علاقة "جوليا" بصديقتها "آنا" قد عرفت توترا وهو ما أدى الى تأزيم نفسيتها. نتج عن هذا التوتر ارتباط "آنا" بشاب مراهق أيضا أُغرمت به. تعاني "جوليا" من الغيرة ليكشف سردُ الفيلم بحذقٍ عن نزوع مثلي أنثوي مستتر لديها تجاه صديقتها آنا. تتخلل مشاهد الفيلم لقطات غطسٍ مُتواتر لبطلته "جوليا" في مياه البحر... "في الأزرق".. وكأنه غوصٌ في عمق الحياة بحثاً عن ماهيتها ومعناها، وعن موقع مراهقةٍ، مُشتعِلةٍ رغبةً في الحياة، منها. تملأ الأسئلة العقول في سن المراهقة. تنطلق في نفسية المراهقين عندها عملية بحث لامتناهية في الذات وفي الوجود الذي يفتنها بقدر ما يُرعبها: إنه التركيز في الفيلم على "الأفق الأزرق" حيث يلتقي البحر والسماء. إنه أفق تساؤلات بطلة الفيلم، المراهقة "جوليا"، حول معانٍ عميقةً قد لا تصل، بل لن تصل، لمنتهاها يوما، مثل البحر والعمق البصري لمنظور الأفق اللامتناهي الذي يمثله. تظل تلك الأسئلة الوجودية والغوص و"الارتماء" فيها (مشاهد ارتماء البطلة المتكرر في لجة الأزرق) يجعلها ترتقي لمستويات أعلى (الجبل أو البرج في الفيلم) أو أكثر عمقا. ذلك ما يدفعها للفهم وللاستنارة، مع أنها تغوص في الظلام الأزرق لترتقي نحو النور: نور الشمس التي تحت أشعتها الدافئة تعيش التساؤلات الحارقة/الصامتة لمراهقتها. الأزرق ودلالاته تغوص "جوليا "في البحر، في المشهد الأول، غضبا من كلام أمها... فهي لم تهرب بل كانت تحاول البحث عن أجوبة لتساؤلاتها. كان الغوص في الأزرق بمثابة ارتماءٍ في أحضان البحر العميق والمخيف والصديق-العدو في نفس الوقت. تسبح "جوليا" مثل سمكة في أحضان البحر مراقصة أمواجه وكأنها تدرك خباياه وتعرف أسراره حق المعرفة. يستمر غوْصُ "جوليا" سابحةً في كل أحوالها. إنها تسبح سعيدةً كانت أم حزينة، لقد كانت طوال الحكي الفيلمي تركض نحو "الأزرق" لتحتمي بأحضانه. الأزرق لون السماء والبحر وغالبا ما يرتبط بالعمق وبالاستقرار وسعة الفضاء وآفاق الأمل والمُمكن. إنه تطلُّعٌ نحو الثقة والوفاء والحكمة والذكاء والإيمان والحقيقة. يقول الكثير من الحكماء أن اللون والبحر الأزرقان، معا، مفيدان للعقل والجسم والروح. يفضل الكثير من الذكور اللون الأزرق وذلك ما يجعلنا نقول بأن "جوليا" بغوصها في "الزرق" (أقصد البحر) كانت وكأنها تغوص في عمق الرجل، الجنس الآخر.. تحاول فهمه أو التعرف عليه. أبرز ظهور "آنا" في الفيلم ملامح من شخصية "جوليا" وقناعها (Persona) الاجتماعي المُتكوّن من طبقات دالة على ما ستكون عليه عندما تكبر. كانت "جوليا" متضايقة من صديق "آنا" وكانت تحاول الانفراد بها وأحيانا "لمسها" والنظر إليها بود وحب لم تره "آنا"، أو أنها لاحظته، ولم تكن مبالية به من قبل، نظرا لميولها الطبيعية نحو الذكور على عكس "جوليا". هكذا اشتعلت نارٌ من الغيرة داخل "جوليا" كانت دائماً تسعى إلى إطفائها بالارتماء في البحر الأزرق اللامتناهي. صورت الكاميرا نظرة "جوليا" العميقة والمُعبرة تعبير البحر بأمواجه وانقلابات مزاجه. ترتبط في ذلك التعبير عيون "جوليا" بالأزرق الفاتح الذي يميزهما. يعني ذلك أيضا أنها مراهقة صغيرة السن طرية العود تتمتع بصحة جيدة وجسد رياضي. تبدو "جوليا"، من خلال حركة الكاميرا الواثقة والمتتبعة بتؤدة لتقاسيم وجهها ورغم النار المتوقدة في دواخلها، فتاة مراهقة هادئة متفهمة وناعمة. في عيونها أزرق داكن يمثل المعرفة والقوة والنزاهة والجدية وأحيانا غضب يصعد مباشرة من رغبة ما في تملك أنثى أخرى تعيش وضعا طبيعيا لا يحلو لها يتعلق الأمر بصديقتها "آنا". لقد كانت "جوليا من منظور كاميرا المخرجة الكرواتية "أنطونيطا الامات كوسيانوفيتش" مرآة للبحر العميق المليء بالأسرار وبالحكايات الأنثوية الثاوية بين تياراته وأمواجه. ترتمي جوليا في “الأزرق" في أحد مشاهد الفيلم فيرتطم رأسها بصخرة وتفقد وعيها. يعم الصمت مجال البحر والمراهقين الثلاثة من حولها. ارتماء وارتطام وضربة على الرأس مثل ضربات الحياة تريق الدم وتؤلم، لكنها تنضح بالدروس وبتجارب في تعلم الرضى بالواقع وتقبل الوقع العنيف "للحرمان وللفَقْد" (الحرمان من الأعز وفقْدِ الأقرَبِ إلى الشّهوة وللذة المولدة للإحساس بالاستقرار والثقة في الحضن الحنون). إن علاقة المرأة، أو الأنثى، في فيلم "÷Into The Blue" بالبرج وبالجبل - كما حكت الكاتبة Charlotte Bronté في مؤلفها Jane Eyre - تعبر رمزيا عن ارتباط "جوليا" ب"آنا" بما يشبه الذكورية حيث كانت تصعد الجبل وكأنها تتحدى ما تحس به داخلها من ميول تملُّكية ذكورية نحو صديقتها. تختلف ارتماءة "جوليا" في زرقة البحر عن ارتماءة شخصية "دونا" (أداء الممثلة الأمريكية Lily James وإخراج Ol Parker في فيلم Mama Mia إنتاج 2018)، فقد كانت "دونا " تبحث عما وراء الأزرق، أما "جوليا" فكانت تبحث عن الأزرق نفسه. *كاتبة وناقدة سينمائية