يوم "اكتشاف القارّة الأمريكية"، أو ما يُطلق عليها "العالم الجديد" في 12 أكتوبر من عام 1492 أصبح من كلّ عام هو اليوم والتاريخ الذي تُحيي فيه إسبانيا عيدَها الوطني، أو ما يُطلقون عليه "يوم الأسبنة" (Dia de la Hispanidad) الذي يحتفي به وفيه الإسبان بأفخم مظاهر الزّينة، والبهرجة، والتعاليِ، والزّهو، والفخار بنشر لغتهم وثقافتهم ونفوذهم في العالم الجديد، كما رأينا على شاشات التلفزيونات الإسبانية مؤخراً. ويُعتبر هذا اليوم في نظر البعض اليوم الذي تغيّرت فيه خريطة العالم وتاريخه، وهو يُقرن باسم كريستوفر كولومبوس مثلما تقرن ذكرى فتح الأندلس عام 711 م باسم طارق ابن زيّاد. إلاّ أنّه تجدر الإشارة إلى أنّ غير قليلٍ من الباحثين، والمفكّرين، والكتّاب، والمُتخصّصين في تاريخ القارة الأمريكية، يرون في هذا "الاكتشاف" أو هذا "اللقاء" صدامًا بين حضارات أوروبية وحضارات هندية للسكّان الأصليين، إنه - بالنسبة لهم -تاريخ أسود أبيد فيه الملايين من أبناء القبائل الهندية، واستبعد، وشُتّت بعضُهم في أفضل الأحوال، ونُهبت ثرواتهم، وطُمست رموز حضارتهم في أكثر حروب الإبادة، والقهر، والعنت، والمتابعة الوحشيّة التي عرفها التاريخ؛ وذلك تحت ذريعة أنهم كانوا يشكّلون عوائق تحول دون انطلاق جحافل المستعمرين على أراضي وسواحل بحار، وضفاف أنهار، وغابات، وأدغال ما أطلق عليه في ما بعد ب"العالم الجديد". وتقف القارّة الأمريكيّة اليوم محاولة التئام جراحها المفتوحة، وكِلاَمِها الغائرة، وتضميد جسدها الواهن المكلوم مستحضرة أبشع مظاهر الوحشيّة، والتعسّف التي تعامل بها المستعمِر الأوروبي الأبيض بدون رحمة ولا شفقة مع سكّان البلدان الأصليّين، ومع ثروات الطبيعة وكنوزها الحضارية التي لا تُقدّر بثمن أو بمال. وصماتُ عارٍ في جبين البشريّة يرى الباحث ورئيس بوليفيا الأسبق "خايمي باث ثامورا" خلال الفترة المتراوحة بين (1989 - 1993): أنّ "تاريخ القرون الخمسة الماضية، أيّ منذ أن هبط كريسطوبال كولومبوس على أرض العالم الجديد، يشكّل أبرز نقاط التحوّل والدّمار في تاريخ البيئة على ظهر كوكب الأرض؛ كما أنّ ضحايا تلك الاكتشافات وما صاحبها من تظلّم وقسوة بالغين ما انفكّوا يتساقطون بالملايين حتّى الآن، رغم أنه في المقابل وفي أعين الشعوب الأوروبية المعاصرة هي عندهم علامات تحضّر وتمدين، وأمارات إشراق وتنوير بما يسمّى اكتشافهم المجحف للقارّة الأمريكيةالجديدة". ويرى الباحث البوليفي كذلك "فيكتور هيغو كارديناس" من جهته أنّ "الاحتفالات التي يقيمها الأوربيّون عادة في هذا التاريخ احتفاء بهذا الحدث ليست سوى نقطة سوداء، ووصمة عار على جبين البشرية، فهو وبكلّ المقاييس تسجيل لتاريخ الغزو، والهلاك، وبداية حقبة استعمارية حالكة للقارة الأمريكيةالجنوبية"، فهذا الحدث - في نظره – "جلب معه جحافل الجنود، والمغامرين، والتجّار الإسبان، والبرتغاليين، كما جلب الموتَ والدمارَ للملايين من أبناء الشعوب والقبائل الأصلية التي نشأت، وترعرعت، وعاشت على أراضي وجزر القارة الأمريكية منذ عهود سحيقة من التاريخ. تضافُ إلى تلك المظالم أنواع شتّى من ألوان القمع، والذلّ، والمهانة التي لحقت بأبناء الأجيال التي تمكّنت من النجاة من مقاصل، وسيوف، ومدافع، وأنفاط الغزاة الجدد البيض"، ويقول الباحث نفسه: "هناك ما بين 60 و70 مليون هندي من السكّان الأصليين ممّن قطنوا وسكنوا الأراضي الشاسعة الممتدّة من ألاسكا إلى أطراف القارة اللاّتينية الجنوبية تمّت إبادة معظمهم بمختلف وسائل القمع، والاضطهاد، والوحشية التي لم تعرف البشرية مثيلاً لها من قبل، في تلك المذابح الجماعية التي بدأت منذ وصول الغزاة الأوائل ضدّ السكّان الأصليين. أمّا أبناء القبائل الذين تمكّنوا من الفرار والنفاذ بعيدًا عن تلك المذابح، مثل قبائل "اليانونامي" في البرازيل، وقبائل "اللاّكاندون" في المكسيك، فقد تعرضوا لعمليات المطاردة والطرد والمتابعة إلى أطراف هذين البلدين ليقيموا فيها تجمّعاتهم السكّانية بعد أن سلبوا كافة حقوقهم كمواطنين، وبنفس النمط الذي تحيا به قبائل الهنود في مناطق الشمال والوسط والجنوب من القارة اللاّتينية الجنوبية ما فتئ يعصف بهم الفقر، والعوز، والخصاصة، ويسحقهم البؤس والتعاسة والتهميش". ويضيف "فيكتور كارديناس": 'إنّه من المحزن، والمؤسف أن نشهد اليوم مساحات شاسعة من أراضي القارة الأمريكية، والجزر المحيطة بها، وقد تحوّلت إلى أراضٍ جرداء خالية من مظاهر الحياة الطبيعية أو البشرية من على ظهرها. ولو عاد كريسطوبال كولومبوس إلى الحياة من جديد بعد تلك القرون الخمسة العِجاف فلن يستطيع التعرّف على ذلك العالم الجديد الخلاّب الذي وصفه في دفاتر يومياته بالأراضي الخصبة المليئة بالغابات الكثيفة، والبحيرات الواسعة الصّافية، والأغصان المورقة التي تنوء بثمارها من فواكه لم يعرفها الإنسانُ الأوروبيّ من قبل.. واليوم بعد أن دمّر الغزاة أبرزَ وأجملَ مظاهر الطبيعة التي وصفها كولومبوس في مذكّراته، أصبحت معظم المناطق جرداء قاحلة مثلما حدث في جزر هايتي، كما دُمّرت في السّلفادور ما يقرب من 98 في المائة من غاباتها، وأدغالها.. وحيثما توجد مناطق مزروعة بالغابات الآن لا تخلو فيها شجرة واحدة من أمراض الخواء التي أصابت تجاويفها الداخلية، وهي الظاهرة التي تشهدها الغابات في مختلف مناطق قبائل "لاكاندون" في المكسيك على سبيل المثال، وفى سواها من أصقاع هذه القارّة مترامية الأطراف". قصص وحكايات من وحي ما يُسمّى "الاكتشاف" القصص التي يسوقها الكاتب الأورغوائي الكبير الرّاحل إدواردو غاليانو في كتابه "مذكّرات النار" (ثلاثة أجزاء) عن تاريخ أمريكا اللاتينية هي قصص حقيقية، وهي تتضمّن قيمًا رمزية عميقة تكشف النّقاب عن أشياء لا تخلو من أهمية. ويضرب الكاتب كمثال بواحدة من هذه القصص المروّعة من تاريخ هذه الجهة النائية من العالم عندما أقيم عام 1496 أوّل "مكان للحرْق" في أمريكا اللاّتينية في "هايتي". إنه منذ اكتشاف أمريكا لأوّل مرّة يعاقَب إنسان في هذه القارة بالقتل حرقًا.. إن القاتل (العشماوي) هو "بارطولومي كولومبوس"، أخو كريسطوبال كولومبوس، البحّار الشهير المغامر.. الضحايا الذين اشتعلت أجسامهم حرْقًا وهم أحياء هم ستّة من الهنود. ويشير الكاتب إلى أنّ هذا الإعدام أو هذه التضحية تجسّم لنا كلّ شيء، ليس فقط تصادم حضارتين، بل وأكثر من ذلك هو أنّ أكبر خطأ لما يُطلق عليه اكتشاف أمريكا هو في الواقع عدم اكتشاف شيء، لأنّ "كولومبوس" مات مقتنعًا بأنه كان في اليابان كما يعرف الجميع. أيّ في ظهر آسيا. إنّ الأوروبيّين الذين قدِموا إلى أمريكا كانت لهم عيون لمشاهدة الحقيقة التي وجدوها، إلاّ أنهم كانوا عاجزين عن اكتشافها، ذلك أنّ نظرتهم لها كانت نظرة عمياء. إنّ دأب هؤلاء كان هو السّلب والنّهب المنظمين، وإلحاق الأذى والضرر ببلدان أخرى. إنّ الغازي، يقول غاليانو: وصل لإنقاذ الذي وقع عليه الغزو من ظلام الوثنية، إلاّ أنه في آخر المطاف هو الذي وقع بين مخالب الوثنية الحقيقية، فما هو الذنب الذي ارتكبه هؤلاء الهنود الستّة ليلقِي بهم بارطولومي كولومبوس في النّار أحياء..؟!. الهِندي الأبيض المُلتحي ومآسي الاكتشاف يورد غاليانو: "ليس عيبًا أن يُحْتفَى باكتشاف أمريكا، ولكن ليس من أجل تكريم الملوك الكاثوليك الإسبان الذين أنشؤوا محاكمَ التفتيش، والتعذيب، والتقتيل، والتنكيل المعروفين بعدم التسامح، والجهل، بل ليكن هذا الاحتفال تكريمًا لبعض التقاليد الأمريكية القديمة جدًّا، وقيم وعوائد الأمم التي عشقت الحرية، وتعلقت بالشّرف، والكرامة، وهامت بالطبيعة. إنّ سكّان هذه المناطق من العالم كانوا يعيشون ويعملون جماعات في ما بينهم قبل أن يحدث "الاكتشاف" الذي جاء ولقّنهم الأنانية، والكراهية، والأثرة، والتشرذم، وحقّ المِلْكية، والجَشَع، وروائع أخرى..! أو أن يكون احتفالاً بهؤلاء الذين جاؤوا فاتحين، مثل حالة البحّار "غونسالو غيرّيرو"، الذي ظلّ تائهًا في أرض "المايا"، ثم سرعان ما انخرط في مجتمع الهنود، وتزوّج منهم وكان له أولاد، وعندما علم (المكتشِف) "إيرنان كورطيس" بقصّة ذلك البحّار طلب منه الحضور فرفض، وآثر أن يظلّ مع أهله الجدد، وعائلته وأولاده. ولما كان عام 1536 وبعد معركة طويلة بين هنود المايا والغزاة، وبين العشرات من الجثث ظهر هنديٌّ ملتحٍ، هنديّ ذو جلد أبيض، وقد شقّت جبينه رصاصة غاشمة. لقد كان "غونسالو غيرّيرو" الذي آثر أن يسقط مع مَنْ ارتاح إليهم، وأحسنوا وفادتَه، هو أوّل غازٍ تمّ غزوُه، وكان هناك آخرون ظلوا في غياهب المجهول، والنسيان. قدسيّة الصّداقة والصّديق يحكي لنا غاليانو من جهة أخرى في كتابه المذكور المثير برمزية عميقة عن مبدأ تقدير وتقديس الصّداقة عند السكّان الأصلييّن في هذا الشقّ من العالم، فيخبرنا كيف أنّ البطل الأسطوري "بانشو فييّا" كان اسمه الحقيقي هو "دوراتيو أرانغو". وبانشو كان اسم أعزّ أصدقائه، وعندما قتل الحَرَس المدني صديقَه الذي كان ينتمي إلى شلّة "أرانغو" اتّخذ لنفسه اسم صديقه، أيّ الاسم الذي هَوَى، وأصبح اسمُه "بانشو فييّا" لكي لا يموت اسم صديقه أبدًا، إنّه نوع من مصارعة أو مقارعة الموت ضدّ النّسيان الذي يُعتبر الموت الوحيد الذي يقتل حقيقة. وهكذا ظلّ اسم صديقه حيًّا في شخصه، تردّده أمريكا اللاّتينية حتى اليوم. ويسوق الكاتب مثالاً آخر في نفس السياق فيقول: كيف يمكن تفسير أنّ ثلاثة من المتمرّدين الأمريكييّن الجنوبييّن الذين أصبحوا يشكّلون نوعًا من الأسطورة في حياة النّاس، وفى أدب أمريكا اللاّتينية وهم: "سَابَاطاَ" و"سَاندينو" و"غِيفارا" جَمَعَهم مصيرٌ واحد، فالثلاثة ماتوا في سنّ 39 سنة، الثلاثة ماتوا إثر خيانة، والثلاثة ماتوا في كمين نُصِب لهم...! الأرض تبدو في الأفق.. Tierra a la vista ! اقترنت ذكرى ما يُسمّى "اكتشاف العالم الجديد" في 12 أكتوبر من عام 1492 باسم كريستوفر كولومبوس، مثلما اقترنت ذكرى فتح الأندلس عام 711 م باسم طارق ابن زيّاد. ولقد أصبح هذا التاريخ من كلّ عام هو اليوم الذي تُحيي فيه إسبانيا عيدَها الوطني، وهو اليوم ذاته الذي وصل فيه "كولومبوس" عام 1492 إلى جزيرة "غواناهاني" ب"باهاماس" في القارّة الأمريكية البِكر. وفي وقت يحتفي الإسبان بهذا اليوم بأعلى مظاهر الزّينة، والبذخ، والبهرجة، يقف السكّان الأصليون لهذه القارّة - كما رأينا آنفًا - على طرفي نقيض من هذا الاحتفال، إذ تعبّر فيه الغالبية العظمى منهم في شمال القارة الأمريكيةوجنوبها، وإلى جانبهم العديد من المهتمّين بتاريخ هذه القارة في مختلف أنحاء المعمور، من مؤرّخين، وكتّاب، ومفكّرين، وباحثين، وشعراء، وسياسيّين، وعلماء البيئة إلخ..، يعبّرون عن سخطهم، وعن مشاعر استيائهم من تكريس هذا التاريخ من شهر "أكتوبر" من كل عام كعلاماتٍ فارقة في تاريخ البشرية، بقدر ما كان ينبغي عليهم اعتباره نقاطَ تحوّل مجحف في صفحات تاريخ الظلم والتشتّت اللذين لحقا بأجناس شعوب هذه القارة من السكّان الأصلييّن، أرباب الأراضي الحقيقييّن التي اكتشفها كولومبوس وبحّارتُه منذ 523 سنة إلى اليوم. ويؤكّد الدّارسون والمتخصّصون أنّ كريستوبال كولومبوس كان يحسب أنّه متّجه إلى آسيا الشرقيّة، إلاّ أنّ مراكبَه الشراعيّة الثلاثة "سانتا ماريا" (أكبرها) و"لانينيا" (أوسطها) و"لابينتا" (أصغرها) رست في آخر المطاف على سواحل هذه الأراضي النائية التي كانت لمّا تزلْ مجهولة، ولم تكن قد وطأتها قبل هذا التاريخ قدم أوروبية قطّ. وكانت لحظة مشاهدة اليابسة من طرف أحد بحّارة كولومبوس، وهو "رودريغو دي تريانا"، عندما صاح بأعلى صوته من على حيزوم سفينة "لا بينتا" فرحًا، مرحًا، جذلاً، وهو يقول بنبرة جَهورية ممطوطة وكأنه يغنّي: "الأرررض.. الأرررض تبدو في الأفق..."، كانت هي اللحظة التي تغيّر فيها وجه التاريخ ومجراه..!. كولومبوس البحّار المغامر تؤكّد غيرُ قليلٍ من المصادر التاريخية أنّ كريسطوبال كولومبوس المولود في مدينة جِنْوة الإيطالية عام 1451، في التاريخ المتراوح بين 1459-1481، بدأ سفرياته نحو السّواحل الأوروبيّة لتمويل مغامراته في أعالي البحار، وأقاصي المحيطات.. كان بحّارًا مغامرًا كبيرًا، وذلك على الرّغم من أنه كان يميل إلى العزلة، ويتحاشى الاختلاط.. ومعروف عنه أنه في سنّ مبكّرة، وهو بعد في شرخ الشباب وريعانه (19 ربيعًا)، انضمّ إلى أوّل بعثة مسلّحة في محاولة من ملك جِنْوَة "دانييرو دي أنجو" عام 1459 للسّيطرة على مدينة نابولي لصالح نجله، حيث لم يفتأ يطالب بهذا العرش من الأراغونيين. وتصف بعضُ كتب التاريخ كذلك أنّ كولومبوس كان من القراصنة الكبار، وقد شارك في عدّة مناسبات ضمن غارات على جِنوة، والبندقية. وكان الرحّالة الإيطالي الشّهير "ماركو بولو" من أبرز شخصيات هذه الحروب والغارات أيضًا. اشتغل كولومبوس في صفوف فرسان البحر في خدمة بلاده ما بين 1461-1465، حيث حصل على العديد من الغنائم، منها عشرات السُّفن التي كانت تمخر عباب البحار، والتي كانت تنتمي إلى البندقية، كما قام بهجمات على المرافئ المغاربية في شمال إفريقيا التي كان يعتبرها بعض الأوروبييّن أوكارًا للقراصنة؛ ففي 1461 قاد كولومبوس سفينةً مسلّحةً إلى ميناء تونس بهدف إطلاق سفينة إسبانية أخرى كانت مُحتجَزة هناك من طرف قراصنة مسلّحين؛ وخلال هذه الغارة البحرية نجا كولومبوس في عرض البحر بأعجوبة إثر تمرّد قام به البحّارة الذين كانوا مرافقين له، وأعلنوا العصيانَ عليه، حيث فرّ بجلده إلى مدينة جنوة. عمل هذا المغامر كذلك كبحّار محارب لدى ملك فرنسا، وحاول من خلال ذلك الحصول على ثروة طائلة لتعاطيه التجارة، إلاّ أنّ مساعيه في هذا السبيل باءت الفشل في آخر المطاف؛ وفى 1479 انتقل للإقامة في البرتغال، حيث شارك في عدّة بعثات إلى السّواحل الإفريقية، خاصّة إلى سواحل غينيا غرب إفريقيا؛ وهناك اتضحت له عبثية فكرة الوصول إلى الهند بالدوران حول إفريقيا، إذ لولا وصول كولومبوس في خطٍّ متوازٍ إلى الأراضي الأمريكية في ما بعد لكان السفرُ طويلاً جدًّا بل ومُستحيلاً بالنسبة لمراكبه الشراعيّة. كان كولومبوس بحّاراً مُغامراً، ومحاربًا شجاعًا شديدَ المراس، كان مُثقلاً بالفضول والتطلّع نحو اكتشاف آفاق بعيدة، وعوالم جديدة، ومجاهل نائية..ومعروف أنّ غيرَ قليلٍ من المؤرخين والكتّاب، وحتى العامّة، عملوا على حبكَ العديد من القصص والحكايات التي حيكت، حوله وتحوّلت في ما بعد إلى أساطير، إلاّ أنّ شخصيته الحقيقية تظلّ محصورةً في رجل بحّار طموح، ومغامر كبير، كما أنّ هناك من المؤرّخين الثقات مَنْ يؤكّد أنّه لم يصطحب معه خلال رحلته الاستكشافية الكبرى إلى أمريكا الوسائلَ والأدوات العربية (البَوْصَلة، الاسْطُرْلاب، الخرائط إلخ) وحسب، بل كان معه كذلك أناس من أصل عربي أو أمازيغي يُجيدون اللغةَ العربية لظنّه في بداية الأمر أنه كان متّجهًا صوب الهند، وليس نحو قارّة نائية جديدة. لقاء بين ثقافات يرى بعضُ المؤرّخين المُنْصِفين المتخصّصِين في تاريخ أمريكا اللاتينية أنّ من الأخطاء التي يقع فيها بعضُ الكتّاب والباحثين في ما يُسمّى "اكتشاف العالم الجديد" قولُهُم - بعد أن أجازوا مصطلح "لقاء" بدلَ "اكتشاف"- أنّ هذا اللقاء كان بين عالميْن أو ثقافتيْن اثنتْين، وهذا حيفٌ بيّن، وتحريف صارخ، وخطأ واضح. وحسَب هؤلاء المؤرّخين فإنّه من الإنصاف القول إنّ هذا اللقاء كان بين ّثقافاتٍ ثلاث، وهي الأوربية، والأمريكية الأصلية، إلى جانب الإرث الزّاخر والتأثير العميق للثقافة الإسلامية (عربيّة وأمازيغيّة) التي جاءت مع الإسبان الذين وفدوا على هذه الديار زرافات ووحدانًا خلال وبُعَيْد الاكتشاف، والهِجْرات المتوالية والمتعاقبة التي حدثتْ في ما بعد بشكل متواتر غير منقطع، إذ أطلق على هذه الأراضي المكتشفة بعد ذلك "إسبانيا الجديدة" أو "العالم الجديد". وإسبانيا الجديدة هذه لم تقم سوى على إشعاع، وآثار، وأرضية الحضارة الإسلاميّة المشعّة، حتّى وإن صادفت نهايتها (سياسيًّا) مع بداية الاكتشاف، إلاّ أنها كانت لمّا تَزَلْ قائمةً، متأصّلةً، متغلغلةً، متجذّرةً في مختلف مظاهر الحياة وداخل الأنفس، والعقول ذاتها. ففي ذلك الإبّان، أيّ بعد تاريخ 12 أكتوبر 1492، لم تكن الرّقعة الجغرافية الإسبانية خاليةً من العرب، والأمازيغ المسلمين، فمنهم من هاجر وفرّ بجلده، وهناك من آثر البقاءَ متظاهرًا باعتناق الكاثوليكية، والذين نجوا وبقوا سُمّوا الموريسكيين، الذين أُبعدوا هم الآخرون في ما بعد من ديارهم وموطنهم، والذين كان منهم أمهرَ الصنّاع، والحرفييّن، والمزارعين، والمهندسين، والعلماء، والمعلمين وخبراء الريّ، والفلاحة، والبستنة؛ بل لقد ظلت مسألة تسيير العديد من المرافق الحيوية، والقطاعات الأساسية، في البلاد ليس في الأندلس وحسب (جنوب إسبانيا)، بل وفي مختلف مناطق أخرى من شبه الجزيرة الإيبيرية، خاصّة في شمالها الشّرقي، بيد المسلمين. هذه الحقائق التاريخية التي لا يخامرها شكّ تؤكّدها مختلف الوثائق، والمراجع، والمظانّ التي لها صلة بهذا الموضوع، فكيف والحالة هذه ألاّ يَحْمِل الإسبانُ الذين هاجروا إلى العالم الجديد معهم هذا "التأثير"..؟ بل قد يصل بنا التساؤل والقول إنّ هناك مِنَ المسلمين المغلوبين على أمرهم مَنْ هاجر خفيةً مع أفواج المهاجرين الإسبان، وإلاّ مِنْ أين جاءت هذه الدّور، والقصور ذات الباحات، والساحات، والنافورات العربية التي بنيت في العديد من بلدان أمريكا اللاتينية..؟ بل ومن أين لهم هذه الأقبية، والأقواس، والمُقرنصات، والعقود، والشبابيك ذات الطابع الإسلامي البحت؟ والأبعد من ذلك هذه الكنائس التي كانوا يبنونها غداةَ وصولهم ويظهر فيها الأثر العربي والإسلامي بوضوح. ولقد استعمل بعضُهم فنون وأشكال الخطّ العربي المحتوي على أشعار، وأقوال، وأمثال، وحِكَم، وآيات قرآنية اعتقادًا منهم أنها كانت من علامات الزّينة، والزّخرفة، والتنميق في البيوتات الكبرى، والقصور في إسبانيا، وتعلو وجهَ المرء ابتسامة ممزوجةٌ بالرضى والمرارة معًا عندما تقع عيناه على بعضَ تلك الأشعار، والآيات القرآنية وقد وُضِعت مقلوبةً على تلك البلاطات، أو الرخامات، أو الخشب، أو الزلّيج..!. والحالة هذه، مازالت هناك - ولا ريب - صفحات مُشرقة للحضارة الإسلامية التي تألّقت، وازدهرت، وسادت في الأندلس.. وعن مدى التأثير العميق الذي أحدثته هذه الحضارة في الشقّ الجنوبي من القارة الأمريكية لم يُكشف عنها النقابُ بعد حتى اليوم، وما فتئ التاريخ في كلّ مناسبة يميط لنا الخِمار عن مفاجآت، وأخبار، وعن حقائق تاريخية مذهلة ومُدهشة ومثيرة. *كاتب وباحث ومترجم من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية-الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا- كولومبيا.