ليس سؤالاً سؤالٌ لا يضعنا أمام مرايا الشكّ في هذا المألوف الذي يحبس النظر عن الأمداء الممكنة في علاقتنا بذواتنا وعلاقة ذواتنا بالما حول. أقول هذا لأنني في تجربتي البسيطة في مجال فن "الأيكيدو" كنتُ أدخل الركح (tatami) مفصولا عن جسدي، وأنا أعتبره "آخرَ" يستحق كل القهر الرياضي كي يذعن لمشروعي الشخصي القاضي بتخسيس وزنه أو بترويض بدائيته، أو بتشذيب ديناميته المبنية داخل أنساق الزقاق والشارع حيث يتحكم القرين والأقران في تربيب هذا الجسد انطلاقا من ثقافة المشترك أولا ومن ثقافة المقارنة والمفاضلة ثانيا (تدخل السينما في هذا المؤثر الموسوم بالشارع حيث الرغبة في التماهي مع أبطال تاريخيين، أذكر منهم هرقل وسبارتاكوس وعنترة وغيرهم، حيث كان ستيف ريفز وفريد شوقي وغيرهما يداعبون مخيالنا بتقنيات سينمائية عالية). ولقد ألفتُ جسدي قديما حتى حسبته صديقا لي ينفصل عنّي باختياراته. وقد حوّلتُ هذه الألفة يوم اعتنقتُ فن "الجيدو"، مبكرا في عقدي الثاني، ثم تبلور هذا التحول عندما اعتنقتُ فن "الأيكيدو" في عقدي الرابع، وبينهما كنت أغازل كرة القدم في بطولات الأحياء وفي بطولات القسم الوطني الثالث، وفي تفاصيل هذه المحطات كان يسكن شيطان السؤال وكان يكبر. في هذا المسار، اكتشفتُ كم كانت سذاجتنا واضحةً في التعبير عن هذا الجسد، وعن رغباته في جو طغت عليه الطقوسية الفاصلة بين الذكر والأنثى... حيث كلّما تمّ إبعادنا عن عالم المرأة، كُنّا نزداد إلحاحا على تبويب فصول الجسد في اتجاه الأنثى، انطلاقا من وعينا اللاواعي بأن كل تطوّر في أي عضلة من عضلاتنا هو هدية للأنثى الساكنة فينا، أبينا أم شئنا. في نضجي الآني، أرى الجسد موضوعا ملائما للتحليل، لا في تشعباته البيولوجية أو الأنثروبولوجية أو السوسيولوجية... ولكن، في فلسفته النابعة من علاقتي النوعية بأشكال الممارسة لفن الأيكيدو، وهنا يحق لي كممارس أن أخرج بقناعاتي الجسدية من شرنقات التكوين العضلي المسطّح، إلى التكوين المتسائل والمُسائل لحركية هذا الجسد النازحة من ثقافة الشرق الأسيوي، بحمولتها الفكرية الخاصة، والمختلطة بتراب مغربي عربي إسلامي. تبدو مفردة الجسد أمرا بديهيا، مع العلم أن البداهة أحيانا هي مداخل شيطانية لمتاهات الأسرار وخبايا الأشياء، لأنها تترك كثيرا من الفراغات بغير أجوبة، ومنها يتعملق السؤال حتّى ولو تمّ إقباره. وقد يأتي يوم ينبثق فيه هذا السؤال ماردا لا قبل لنا بردّه. والبداهة مبطنة دائما بنقيضها: فما هو مألوف عندي مدهش عند الآخر، وما هو بديهي عندي اليوم قد يصبح مدهشا غدا لديّ في مسلسل التحولات الممكنة في إنسانيتي... وإلّا، فالحكم على جسدي بالسكونية مسألة مقبولة إذا كذّبْنا فينا ما تستبطنه البداهات من إدهاش. من هنا، ضرورة تحويل النظر إلى هذه المفردة المسمّاة بالجسد، على الأقل في مجال اشتغالنا الآن، أي في مساحات ثقافة فن الأيكيدو، حتى لا نشط بالاستنتاجات بعيدا عن منطق التخريج والتحصيل. والمفاهيم هنا، وأيضا، هي مفاهيم خاضعة لشخصي لأنها مرتبطة بجسدي، وبالتالي فأي إسقاط لنتائج هذا التحليل على الذوات الأخرى ينبغي أن يحترس من التعميمات والتهويمات وإطلاق الأحكام جزافا في فراغٍ يفتقر إلى أبسط بصمات العلمية. الجسد يرقص في كل فضاءات الأيكيدو. ولماذا بدأت بفكرة الرقص؟ لأنها فكرة ذات حساسية مثقلة بالحظر في ثقافتنا العربية القاضية بربط فعل الرقص بتمثلاتنا الشعبية المعجونة داخل الطابوهات التقليدية. ورقص الجسد في ركح هذا الفن يرتبط أساسا بحركات ما يسمى في أدبيات الأيكيدو ب (tai sabaki). وهي سلسلة من الحركات المبنية بإيقاعات خاصة تمهد للممارس فكرة التحكم في الجسد انطلاقا من تمهيره على اللف والدوران في افتراض مواجهة الآخر الموصوف بالخصم في رياضات أخرى، والذي تسميه فلسفة الأيكيدو بالمشارك أو الشريك. إن هذه العملية التي تتكرر في كل بدايات الحصص التدريبية هي ذاتها التي تصاحب الممارس في تطبيقاتها الافتراضية على الركح، وهي ذاتها التي تصاحبه في الملتقيات الرسمية وفي التكوينات الموسمية، وعليه أن يتقنها أمام الآخر مجسدا في المتفرجين باعتبارهم عينا مستمتعة وناقدة ومقتدية، وأمام لجان التصحيح والتقييم باعتبارهم عينا مراقبة تمتلك في نظر الممارسِ النموذجَ المثالي لهذه العملية، وهي العملية التي قد تكون حاسمة لوضعية "الايكيدوكا" وهو يتعرض للعنف في حياته اليومية. ومن ثمّة فهذه الرقصات الداخلة في بداهات التعلم تخرج من مجرد حركات للتعلم إلى سلوك يومي يخالط نسغ حياة الإنسان، ويشكل حدود تصرفه في ثقة كبيرة بأن جسده يصبح معرفة ثقافية بعد أن كان معرفة حركية فقط. تكاد تتحوّل رقصة التاي سَباكي (tai sabaki) إلى طقس يتكرر في كل حصّة تدريبية، وفي كل لقاء تظاهري، محلّي أو عابر للمحلي... وفي تكراره تنتفي البداهة والرتابة بحيث تخرج هذه الحركات من مجرد إجراء تمهيري يتقن فيه الممارس فن الروغان (esquiver) إلى دينامية تخالط نسغ حياة هذا الممارس لهذا الفن، وبالتالي يصبح أمرا محالاً أن تُغَيَّبَ هذه الرقصة داخل برنامج التكوين، سواء على المستوى القريب أو البعيد في تجربة المنخرط في هذا المسلسل الحركي. إن من تجليات حركية الجسد داخل منظومة الأيكيدو، أنه جسد يقوم في وجوده وفي تفاعلاته على حاسة اللمس التي تتحوّل من مجرد عملية حسيّة لإدراك الآخر وتموقعاته في سيرورة الفعل الرياضي إلى وجود مستقل يروم تدجين العنف في وجود آخر مستقل أيضا، وبالتالي يكون هذا التدجين فعلا يُمارَسُ على الذّاتِ أولاً بأوّل. ويستحيل أن نتصوّر فن الأيكيدو يتمظهر خارج الآخر الشريك على صفيح الركح (tatami) أو على صفيح الواقع. اللمس إذن معيارٌ لوجود الذاتين ولتفاعلهما باعتباره طاقة حسية في مادتها الخام تتضاعف طاقةً داخلية في غضون الممارسة وتصبح وعياً ذكيا لا آلياً بضرورة استيعاب الآخر في تحولاته المكانية، مادام الممارس يتصرف بسرعة خارقة في التعامل مع أفعال الآخر وردود أفعاله في تجدد مستمر للفعل ولرد الفعل. من هنا نفهم قوة هذه الحاسة وهي تشكل فعل الجسد داخل فن الأيكيدو، وتصوغ ملاحظاته البسيطة والمركبة لجسد الآخر، في معرفة سيكولوجية بسيطة لسلوك الآخر، وفي معرفة نقدية أيضا لتمظهرات أخطائه التي تتحول إلى مؤشرات بنيوية لعلامات الجسد وهو يتشكل كائنا يحمل المعنى ونقيض المعنى، وكلاهما شفراتٌ تفضحها حاسة اللمس... يتبع