لم تَخْلُ المناظرة الأولى للصّناعات الثقافية والإبداعية من "نيران صديقة"، الجمعة، حيث انتقد عبد الله بوصوف، أمين عام مجلس الجالية المغربية المقيمة بالخارج، "عدم قدرته على مخاطبة جمهورِ المناظرة بالأمازيغية" رغم دسترَتها في سنة 2011 ونشر قانونها التنظيمي في الجريدة الرسمية، كما تحدّث عن "عدم حضور مغاربة العالَم بما يجب في المناظرة، علما أنّهم من يكتبون بلغات متعدّدة ما استوعَبوه من ثقافتهم المغربية، ويقومون بالدبلوماسية الثّقافية". ورأى بوصوف أن العولمة ساهمت في تشكيل ثقافة كونية تجتَثُّ الإنسانَ من جذوره الثّقافية باسم "الإنسان الكوني" دون تقديم بديلٍ للحفاظ على الموروث الثقافي، مضيفا أن الاحتكار الذي تمارسه الثقافة الكونية ساهم في ظهور تيارات محافظة وحمائية برزت سياسيا في العديد من الدول الأوروبية، بشعار حماية الخصوصيات الثقافية، إلى درجة سير الاتحاد الأوروبي في طريق تخصيص مفوضية لحماية نمط العيش الأوروبي. وتحدّث بوصوف عن الخبرة المغربية في تدبير الاختلاف، مستحضرا كون المغرب مكان لقاء، وأنّه "دون تعدّد لا وجودَ للحضارة المغربية"، واسترسل مقدّما مجموعة من الأمثلة على هذا: من مدينة سبتة التي كان بها أماكن خاصة بالعبادة المسيحية، وتنظيم صلوات استسقاء مشتركة، و2000 سنة من الوجود اليهودي بالمغرب، ووجود 120 صالحا يقصِدُهم المسلمون واليهود معا بالمغرب، واشتراكِهما في 11 مقاما في الملحون من أصل اثني عشر مقاما. وتساءل أمين عام مجلس الجالية المغربية المقيمة بالخارج عن سبب عدم عكس المقررات الدراسية المغربية بعض أوجه تاريخ المغرب؛ مثل بناء يوسف ابن تاشفين مدينة كاملة لزوجته حبّا لها، بينما يجب إيصال هذا إلى الشباب والعالَم لتُكَوَّنَ صورة المغرب، وتجلب سياحا ومستثمرين ومتعاطفين، مذكّرا في هذا السياق بأن "صناعة الصورة صناعة ثقيلة مثل الصناعات الحربية". وقال أحمد السكونتي، أستاذ باحث بالمعهد الوطني للأركيولوجْيا والتراث، إن التراث مورد غير متجدّد، ومساهم في التنمية، ولا نتفق بالضرورة على دلالته، وهو مصدر إلهام للمبدعين. كما يرى المتحدّث أنّه رغم وجود مؤسّسات في المغرب وإطار مؤسَّسي وقوانين وموارد بشرية محترمة، فإنّ هذا حاضر بشكل متواضع في ظِلِّ فروقات جهوية في حماية التّراث. ويرى الأستاذ الباحث أن التراث المغربي كامن أكثر من كونه تراثا مثمَّنا، وشدّد في هذا السياق على الحاجة إلى تقوية الإطار المؤسساتي، والجهات الاستشارية، وسياسة الجهات لتثمين التراث وخلق فرص للشّغل، وفتح شُعَبٍ أخرى للتكوين في مجالاته، واتّخاذ تدابير مالية وضريبية خاصة به، وتشجيع المبادرين فيه، ومرافقتهم ماليا وتكوينيا وتنظيم معرض كلّ سنة أو سنتين لتثمين التراث والتفكير فيه. وانطلق ماحي بينبين، روائي فنان تشكيلي، في مداخلته من مفهوم "الحُكرة" غيرِ القابلِ للتّرجمة، على الرغم من أنّه لا يمسّ المغاربة فقط، للحديث عن نتيجته التي تضمّنتها روايته "نجوم سيدي مومن" التي كتبها بعد أحداث 16 ماي الإرهابية، و"التي فاجأت المغاربة الذين كانوا يظنّون أن الإرهاب شيء لا يعنيهم". هذه الرواية التي كُتبت عن كيف تحوَّل مغاربة لقنابلَ إنسانية، توقّف بينبين عن كتابتها سنتين بعد تتبّع عيشهم في مدنهم الهامشية وبعدما أدرك أنّه لو نشأ كما نشأوا لتبِعَ "أوّل تاجر أحلام" يلتقيه. ثم زاد: "ترجم الكتاب إلى اثنتي عشرة لغة، وحوَّلَه نبيل عيوش إلى فيلم؛ وربحنا من المعاناة أموالا كثيرة لا تخصُّنا". هذه الأموال، وفق المتحدّث، رُدَّت إلى من تخصُّهم بإنشاء فضاء فيه قاعة سينما وحوسبة ورقص، ولغات، في حي "سيدي مومن" بالدار البيضاء؛ ويبتعد فيه الأطفال عن الشارع ليتعلموا ثقافة الحياة لا ثقافة الموت، واكتشف فنانين يأتي النّاس لمشاهدَتهم اليوم، كما خُلِقَت بعد ذلك مجموعة من المراكز الثّقافية في حي "بني مكادة" بطنجة، وفي مدن أخرى مثل أكادير ومراكش. تجدر الإشارة إلى أنّ المناظرة الأولى للصّناعات الثّقافية والإبداعية تقصِدُ "خلقَ ظروف ملائمة لبسط حوار بين الفاعلين العموميين والخواص والأطراف المتدخلة بالمنظومة، يمكِّن كُلَّ طَرَف من الاضطلاع بأهمية دوره وبنائه، على أساس المسؤوليات المنوطة به داخل المسلسل التنموي لقطاع الصناعات الثقافية والإبداعية في المغرب".