فتحت عيني على الألم الجزائري وأنا لازلت طفلا صغيرا. كنا نسكن حيا شعبيا بمدينة بركان بعد نزوحنا من البادية. وكانت هناك عائلات جزائرية تقطن بجوارنا، تتقاسم منازل المغاربة. عائلات هاجرت وطنها من جراء بطش المستعمر واحتضنتها عائلات مغاربة بصدر رحب. كنا نحن الأطفال المغاربة والجزائريين نقضي أوقاتنا في اللعب في الزقاق، نتقاسم نفس الأفراح ونفس الأحزان. وكثيرا ما كنا نستمع بشغف الى جيراننا وهم يتحدثون عن المقاومة البطولية للشعب الجزائري. ومما زاد باهتمامنا بالقضية الجزائرية، تواجد قاعدة خلفية لجيش التحرير الجزائري بمدينة بركان. وكانت الشاحنات العسكرية الجزائرية التي تعبر شوارع المدينة، تسترعي انتباهنا وتجعلنا نعيش الكفاح المسلح لأشقائنا عبر تلك القصص الملحمية لجيش التحرير. وقد ترك فيلم "جميلة الجزائرية" ليوسف شاهين، إثر عرضه على الشاشة الكبيرة، وقعا كبيرا في نفوسنا. فيلم يحكي قصة المناضلة "جميلة بوحريد". أما الميلود، جارنا الجزائري الغامض، المنطوي على نفسه، يجسد مآسي وآلام شعب يعاني من قهر المستعمر الذي شرد آلاف العائلات من وطنها. كانت له بعض الأغنام يرعاها، وكلما ناداه الصغار ب" بميلود العسكر" إلا ورماهم بالحجارة وشتمهم وهو يصرخ في حالة هستيرية. وكنا نحن أولاد الدرب نحميه، لأنه حسب ما قيل لنا، إنه نجا بأعجوبة من انفجار لغم أثناء تسلله عبر الحدود لمقاومة الغزاة، والتي أصيب إثرها باضطراب عقلي. أما هول الحرب فقد عرفته ساكنة الحدود الجزائرية المغربية، وعشته في احدى الليالي التي زرت فيها أحد أفراد عائلتي بمدينة وجدة، والتي لم يغمض لي بها جفن. فأصوات المدافع والقنابل تدوي على الحدود، والسقف يكاد يسقط على رأسي وأنا خائف مذعور. إنها معارك جيش التحرير ضد المستعمر. وتقاسمنا كذلك آمال وأحلام الشعب الجزائري بكل جوارحنا وعواطفنا. فكم كانت فرحتنا كبيرة يوم استقلت الجزائر حتى أننا نحن التلاميذ تجرأنا على كتابة عبارة: "تحيا الجزائر" على السبورة قبل دخول المعلم الفرنسي الى القسم والذي وبخنا إلا أن معلم اللغة العربية رد لنا الاعتبار لما علم بذلك، فاحتفلنا معه بالمناسبة. كما سرنا نحن الأطفال في الشوارع رافعين العلم الجزائري، هاتفين باستقلال أشقائنا. فرحة تخللتها دموع الفرح والفراق. فحرقة الفراق لم يخففها إلا ذلك الأمل المعقود على تبادل الزيارات. لأن بعض العائلات قررت العودة الى وطنها، بينما لازالت عائلات أخرى تقيم بين ظهراننا في وطنها الثاني. استقلت الجزائر وبقيت قلوبنا دائما معها لنصرتها للحركات التحررية في العالم ولوقوفها مع كفاح الشعب الفلسطيني. وجرت الرياح بما لا تشتهي السفن. أغلقت الحدود ووضعت الحواجز بين الشعبين الشقيقين وطال الفراق إلا أن أواصر الأخوة لم ينل منها لا الزمن ولا سحابة الصيف. فالتاريخ المشترك وعامل اللغة والدين والجوار تساهم في تقوية الروابط الأخوية. ومما يثلج الصدر أن نفس الشعور الذي أحس به جيلي تجاه الأشقاء الجزائريين هو نفس الشعور الذي عند شبابنا اليوم، وهو شعور متبادل. وقد عبر عنه شباب البلدين أثناء مباريات كأس أمم إفريقيا، كما عبر المغاربة عن فرحهم بفوز المنتخب الجزائري بالكأس. وإذا كانت الحدود مغلقة لحد الآن، فإن قلوب الشعبين كانت وما زالت مفتوحة للعناق.