سنة بعد سنة، يتكرس مفهوم " الدخول "، ويحتل مساحة شاسعة في القول والفكر والتدبير. إنه الشروع في " كشط " الخمول والراحة الصيفية، والبدء في التخلص من بقاياه القائظة، والابتعاد مرغمين عن البحر المنعش: برّاد العظام والأجسام والأفضية، والأمكنة، والمجالات. قد تكون فئات واسعة من شعبنا بعيدة عن البحر والصيف والاصطياف بسبب العَوَز والإملاق، وشح الدخل. وكيفما كانت الحال، فها هو الصيف يرحل رويدا، رويدا، موسعا الطريق للخريف بما هو فصل الدخول الأثير، لا بما هو فصل الشيخوخة والموات كما نقول في الأدب والشعر والفن في منحاه الرومانسي. أما الدخول المقصود، فدخولات: دخول سياسي، ودخول مدرسي تربوي، ودخول اقتصادي، ودخول " بيئي "، ودخول في معمعان العمل والشغل، والبرمجة والتخطيط. غير أن الدخول الذي يحظى بالاهتمام والانهمام، وتدور تسميته على الألسنة في الساحات العمومية، والفضاءات الشعبية، والأمكنة المكتظة بالغادي والرائح، بالمستهلك والمتسوق، هو الدخول المدرسي. إذ أن جيشا من البنات والبنين، وأطنانا من الكتب والدفاتر، وما لايحصى من الوِزْرات، والثياب الجديدة، يملأ الرحب والسعة، وينتشر انتشارا، مثيرا الانتباه، ولافتا العيون الفضولية والمحايدة، إلى هذا الكرنفال البديع، الملون، الصاخب الذي لا ينتهي. وليس يَعْزُبُ عن البال أن الدخول السياسي هو المتحكم والموجه طبعا لباقي الدخولات. فسياسة الدولة هي الأس والبعد التدبيري والتسييري لكل المضامير والمجالات والميادين والقطاعات، والمنشآت، والمؤسسات. يستوي في ذلك ما له علقة بالاقتصاد وبالاجتماع، أو بالتربية، وبالتعليم، وبالصحة، وبالشغل، وبالسكن. إذ هذا هو المفروض والمفترض في تدبير السياسة العامة للبلاد. وإنْ كانت الحكومة مقصرة في بعض المجالات والقطاعات، حيث تدبرها مزاجيا ووقتيا، وبشكل عشوائي ينوس بين الصمم والعناد. فهي لا ترخي العنان للحوار الاجتماعي مع الأطراف المسؤولة والمعنية، والتي لها صلة وثقى بهذا القطاع أو ذاك. وليس من شك في أن الدخول السياسي هذا الخريف، سيكون دخولا مختلفا، دخولا آخرَ، يرجى من ورائه، تصحيح المسار المائل منذ عقود، ووضع القاطرة على السكة المتصدعة من زمان بعد سبكها السبك المحكم. ما يعني أننا في انتظار تنفيذ مضامين الخطاب الملكي الأخير، وتطبيق أهم توجيهاته وإشاراته بما يخدم ويسهم في معاودة إطلاق التنمية الشاملة، وفك القيود عن جملة من الأوراش الاجتماعية، والمرافق الخدماتية المعلقة. وبما يفيد إخراج التعليم من عنق الزجاجة، وإنقاذه من حالة التردي والتراجع، والخبط العشوائي، والمزايدات السياسية والإيديولوجية الفجة والفارغة. ويعيد الاعتبار المنتظر للصحة العمومية، والتطبيب، والمشافي الحكومية التي تعرف استهتارا، وإهمالا، وتفتقر إلى التجهيزات الطبية في حدها الأدنى. أما الدخول الأهم المنتظر بحسب خطاب 20 غشت، فهو ما نص عليه من وجوب إحداث وتشكيل لجنة من أجل وضع النموذج الحقيقي والفعلي حتى يتسنى ولو في المدى المتوسط توزيع الثروة الوطنية التوزيع العادل، ما يمكن المواطنين والمواطنات من غَنْم مستحقاتهم التي ينتجها باطن وظاهر أرضهم المكنوزة الثرة المعطاء، ومن وراء ذلك، استرداد الكرامة المهدورة، والمواطنة المبقورة. فإذا راعت رئاسة الحكومة روح الخطاب الملكي، وانشغاله البادي بحالة الشعب من خلال الكثرة الكاثرة من أبنائه التي تتآكل في صمت، وترى كيف أن قلة تقتسم معها الوطن، ترفل في بحبوحة العيش والنعم، وكيف أن الهوة الاجتماعية والطبقية تزداد توسعا وانحفارا بين أقلية " طاغية "، وكثرة مغبونة ومظلومة، إذا راعت الحكومة ذلك، أمكن لها أن تعيد الخطى إلى الجادة، والنهوض التنموي بالبلاد إلى التحقق الفعلي، والتبلور الجدي. وهذا ما يحمل الحكومة مسؤولية وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، أي إيلاء الأهمية أولا بأول إلى المؤهلات العلمية والإدارية، والكفاءة التدبيرية، والخبرة المتراكمة في مضمار ما من المضامير التي سيشغلها فلان أو علان، بعيدا عن الصفقات والترضيات، وجبر الخواطر، واقتسام الكعكة والوزيعة. وقد عانينا من ذلك وما زلنا، وكابدنا أفدح المكابدات. وواقع البلاد يشهد على ما أقول. حكومة جديدة بكفاءت حقيقية معتبرة، ومؤهلات علمية وفكرية وسياسية وملفاتية، هي ما ننتظر، إلى جانبها لجنة لبناء نموذج تنموي كما اقترح عاهل البلاد. لجنة ذات مستوى تقويمي وتقييمي استراتيجي اقتصاديا وسياسيا، واجتماعيا، تنكب على الملفات الحارقة، والقضايا المستعجلة، والانتظارات الحائرة والقلقة. لجنة مدعومة من ذوي الاختصاص، والأريحية والغيرة على حاضر وغد الوطن. لقد قال الملك: ( إننا نتطلع إلى أن يشكل النموذج التنموي، في صيغته الجديدة، قاعدة صلبة لانبثاق عقد اجتماعي جديد ينخرط فيه الجميع ). على هذا المعول، وإنا لمتفائلون إلى حين. أما الدخول الثقافي وعلى عكس ما هو معمول به في أوروبا والذي يصادف دخول الخريف، فإن موعده لاَحِقٌ إذ أن الدخول التربوي والمدرسي والسياسي، يعتم عليه، ويدفعه إلى الركن حتى ينقشع غبار البرامج والمناهج والكتب المدرسية، وصرير أبواب المؤسسات والمدارس.