استعادت حركة 20 فبراير وهجها الأنثوي بعد انسحاب العدل والإحسان من الميدان، وبعد أن كنا نرى فصلا بين الرجال والنساء في صفوف التظاهرات، كأن "بينهما برزخٌ لا يبغيان". خطأ اختزال الماكينة الاستهلاكية الغربية للمرأة في جسدها، والتركيز على "اللوك"، وتسويقه في تلفيف تجاري للبيع، جعلها مجرد دمية "باربي" محشوة بسوائل السيليكون، مدّعية التحرّر الشامل في حين هي تعيش عصر العبودية الحديث في أشرس مراحله، هو الخطأ نفسه الذي نجده عند التيارات الدينية والمحافظة التي تردم هذا الجسد، وعندما تضع عليه خرقة البرقع السوداء تصبح مثل فزّاعة الحقول لا تقربها طيور الحرية المرعوبة، بادعاء تحرير الجسد من الحسي والمتعوي مما يدفعه إلى الانكماش والانغلاق على ذاته. بهذا المعنى، كلا النموذجين، الغربي المتفسّخ والإسلامي المُتستّر، يقتلان عقل المرأة ويحشدان تاريخا من الصور النمطية التي كرّستهما هيمنة ثقافة قضيبية، منتصبة في الغرب ومخصيّة في الشرق. إنه عصر شكلي وتافه يحتفي بالمظاهر والقشور، ويبتعد يوما بعد يوم عن حرية الفكر وإعمال العقل، وفكّ قيود الجسد ووقف الحرب الضروس للسيطرة الذكورية عليه. المرأة اليوم في العالم العربي، تنزل إلى ميدان التحرير، ترفع صوتها عاليا في وجه الاستبداد السياسي، لكن معركتها الحقيقية مازالت تعيش مخاضا كبيرا ضد الاستبداد الذكوري، بعد أن انحرف قطار الحراك العربي عن سكة الحرية، وصار في قبضة الأصوليات التي ستعود بها إلى عصور الانحطاط، وتروّج لقراءة نصية وحرفية تقتل العقل وتنصّب سلطة النقل. هنا يجب أن نكون منصفين، ونحن نتابع حركية النساء المطالبات بالديمقراطية، حتى لا نُتَّهم بشكل تبسيطي وعدائي بالدفاع عن النساء السافرات في مقابل المحتجبات، فالشابة العربية التي ترتدي الحجاب لأنه بالنسبة إليها يحميها من مجتمع يتحرّش بها كل يوم، ويقايض وظيفتها في الإدارة بجسدها، ويحرمها في الغرب من حريتها الفردية في اختيار ملبسها الذي ترتاح إليه وتقتنع به، علينا أن نقف بجانبها في محنتها الوجودية، وأن نتفهّم ردة فعلها تجاه أولئك الذين يطاردونها كفريسة، ليس من حقها التصرف بحرية في الأمكنة العمومية لأنها مثار الفتن والشهوات. وهنا علينا أن نتأمل ما تعيشه المرأة السعودية، التي فُرض الحجاب عليها بالغصب، وحجبها فعلا عن الحياة السياسية والاجتماعية، وحُرمت حتى من حق سياقة سيارة، لنفهم هذا التمادي الأصولي في وصايته التاريخية والدينية على المرأة، فالرجل هو من يُشرعن، وهو من يرسم خطاطة الحياة الذكورية، باسم تطبيق شرع الله الذي يمنحه شرعية السلطة والخلافة في الأرض. ونحن نتابع ما يحدث في مصر بعد 25 يناير، نصاب بالدهشة للوضع المهين الذي بدأت تعيشه المرأة، باسم ثورة عمياء تداس كرامتها بالجزمات العسكرية وبالفتاوى الدينية الغبية، فبعد أن رأينا المرأة يسحلها العسكر في ميدان التحرير، جاء دور المشايخ السلفيين للتناوب على سحلها فقهيا، فهذا أبو إسحاق الحويني لا يخجل من انتقاد أكبر امرأة ساهمت في تحرير وتعليم المرأة المصرية في نهاية القرن التاسع عشر وهي هدى الشعراوي، التي رمت النقاب وهي عائدة إلى مصر بعد الإقامة في فرنسا، فاستنكر ما فعلت وشبّه وجه المرأة بفرجها وعليها أن تستره، في أدنى درجات القبح العقدي والأخلاقي. أي شيخ مؤمن وورع هذا، يصنع صورة مقزّزة وبشعة عن الإسلام والمسلمين، وينافح "بجهله المقدّس" أمام تاريخ وحضارة مصر العظيمة ويختزل كل ما أنجزته هدى شعراوي في خرقة سوداء. المؤامرة التي تحاك ضد المرأة المصرية بعد الثورة المزعومة، جعلت نزولها إلى ميدان التحرير تهمة "بالصياعة" تسيء إلى سمعتها، الأكثر خطورة من ذلك، أن الشابات اللّواتي اعتقلهن العسكر أُخضِعْن، بشكل مهين، لاختبارات العذرية، لكن الناشطة الصعيدية سميرة إبراهيم لم تتنازل عن حقها ورفعت دعوى قضائية لما تعرّضت له من تنكيل وتحقير بجسدها وربحت القضية أمام العدالة. نساء متعلّمات ومنخرطات في التغيير، أبهجنا تألقهن وزعامتهن السياسية والفكرية والفنية، فاليمنية توكل كرمان الفائزة بجائزة نوبل للسلام، دافعت رغم حجابها عن الحقوق المهضومة للنساء في يمن سعيد بذكوره في البرلمان. تونس الخضراء أيضا تعرف موجة رهيبة من المفكرات اللواتي يهبطن للميدان ويساجلن على الفايسبوك بشراسة، ضمنهن رجاء بن سلامة وألفة يوسف التي دخلت غمار السجال الفقهي المقصور على الرجال بجرأة مذهلة، والمغنية أمل مثلوثي التي صرخت في أغنيتها "كلمتي حرّة" قبل الثورة وفي ظل نظام بن علي البائد. معركة المرأة العربية المقبلة، محتجبة كانت أم سافرة، حقوقية بالأساس أكثر منها سياسية، فالثورة النسائية تحتاج إلى تدقيق لغوي، لا نحتاج فيه أصلا إلى إعراب المذكر والمؤنث، حتى لا نصطدم بثور ذكوري هائج ونطّاح للثورة.