يعتبر الأدب الساخر في المغرب خجولاً، رغم أن مساحة حرية التعبير والرأي كبيرة منذ عقود. وهذا لا يعني أن تاريخ المغرب لم يعرف أدبا ساخرا، فالأديب الميلودي شغموم من ألمع نجوم الأدب الساخر الذين أسسوا صرح السرد المغربي الحديث المؤسس على رمزية فلسفية وفكرية، عبر عنها بتفكهه الساخر كالعادة قائلا إنه حين كانت سنوات القمع والخوف من الجدران تلهب الكثير، كان الكاتب الفطن يسخر من الحكام ومن السلطة بذكائه، هذا أفضل من قضاء ثلاثين سنة في غياهب السجون. وأعمال الميلودي شغموم ملتهبة وموسومة بطابع السخرية السيميائية. يكفي ذكر الاسم لتتوافد على الذاكرة أول مجموعة قصصية في السبعينيات من القرن الماضي “أشياء تتحرك”، وأول عمل روائي ”الضلع والجزيرة”، وعشرات الإصدارات التي تتشعب نحو ضفاف الدراسات النقدية والأبحاث الأكاديمية والمقالات الصحافية. أما السخرية في الأدب المغربي فتتوزع على مختلف الأجناس الأدبية، ويكفي أن نذكر سخرية أحمد بوزفور وإدريس الخوري ومحمد زفزاف في القصة، وسخرية الطيب الصديقي في المسرح، وسخرية محمد ابن إبراهيم في الشعر المعرَّب، وسخرية أحمد لمسيح في الزجل. "السخرية عند إدريس الخوري" أجاب الخوري بأن "السخرية موهبة، والواقع يدفعك لتتخيل أشياء كهذه، وهذا متخيل أيضا، هو متخيل على مستوى السخرية وعلى مستوى اللغة وعلى مستوى الحكاية. وفي بعض الأحيان نقرأ الواقع قراءة مقلوبة أو بعبارة أخرى "مغلوطة" إن أردت. والسخرية مستملحة وجيدة، ولست وحدي من يوظفها. وظفها كذلك المرحوم زفزاف، والذي كان ساخرا كبيرا، حتى إن الناس لا يفهمونه، فقد عاشرته سنوات في الدارالبيضاء، إنه كاتب ذو قدرة كبيرة على السخرية، وذلك يتجلى في نصوصه، وهذا ما نفتقر له في الأدب المغربي بصفة عامة". وقد اتفق إدريس الخوري مع مقولة صديقه بوزفور، والتي دافع فيها عنه: "سخرية الخوري ليست حاقدة أو خبيثة أو سوداء، بل هي سخرية خفيفة مرحة عابرة". "السخرية عند محمد زفزاف" السخرية كمظهر من مظاهر عدم التوافق بين الذات ومحيطها تشكل إحدى العلامات البارزة عند محمد زفزاف؛ وتتجلى هذه السخرية سواء في تصريحاته الشفوية أو تصرفاته الشخصية، ناهيك عن كتاباته القصصية والروائية وحواراته الصحافية. بصم زفزاف بشخصيته المتميزة وإبداعاته العميقة المشهد الثقافي المغربي والعربي. إن محمد زفزاف يملك القدرة على تحويل اللحظات الفارقة إلى مواقف ساخرة. شخصية زفزاف تحمل وعيا شقيا يجعل من السخرية وسيلة لانتقاد الانكسارات والتعثرات الشخصية والاجتماعية. وكان الراحل يعبر عن سخطه عن تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ويأمل في تجاوزها إلى الأحسن. الطرح نفسه ذهبت إليه زينب الهنتاتي التي وصفت سخرية زفزاف بكونها سخرية مستفزة تسلط الضوء على المواقف قبل كل شيء . كان مَلْمَح السخرية بارزا في كل الأعمال الأدبية، مرورا من محمد شكري ومحمد زفزاف ومبارك ربيع وعبد الكريم غلاب (أهمها رواية "شرقية في باريس" للكاتب عبد الكريم غلاب أو رواية "غيلة" لعبد الله العروي، روايتا "الفصل الأخير" و"عام الفيل" لليلى أبو زيد. رواية "المخدوعون" لأحمد المديني. "محاولة عيش" لمحمد زفزاف، رواية "خميل المضاجع" للميلودي شغموم، و"الساحة الشرفية" لعبد القادر الشاوي، ورواية "العريس" لصلاح الوديع وكذا رواية "خطاطيف باب منصور" لعبد السلام الحيمر). شهدت هذه المرحلة السخرية السياسية في المغرب (أي حقبة السبعينيات) بزعامة الساخر أحمد السنوسي (بزيز). فمن المعروف أن الثنائي بزيز وباز قد ظهر في الساحة الفنية في منتصف السبعينيات ضمن الثنائيات الفكاهية التي تكونت ضمن هذه الفترة، كالثنائي عاقل ومعقول والزعري والداسوكين وغيرهم. لكن بمجرد تحول بزيز، بعد افتراقه عن الحسين بنياز –باز-، إلى تناول قضايا تنتقد بعض الأوضاع السياسية بالمغرب، بدأت السلطة تعمد إلى التضييق على العروض الساخرة لهذا الفكاهي. وقد ظهر ذلك واضحا من خلال قيامها بمصادرة الأسبوعية الساخرة "الهدهد" التي أصدرها بزيز سنة 1983. ومن جهة أخرى، اتخذ فن الكاريكاتير خلال مساره في المغرب تمظهرات مختلفة، إذ ركز رساموه في البداية على البعد الجمالي، ليصير في ما بعد سلاحا سياسيا، قبل أن ينصب الاشتغال على الكاريكاتير كرمز. ووجد الكاريكاتير فضاءه الرحب في الصحف، فانتعش بأصنافه المتعددة: الكاريكاتير السياسي والاجتماعي والكاريكاتير الصحافي، وارتقى إلى أن وصل إلى إحداث جائزة خاصة ب"صحافة الرسم الكاريكاتيري" ضمن "الجائزة الوطنية للصحافة"؛ وذلك من منطلق أن هذا الإبداع لم يعد ترفاً فنياً، بل صار مكوناً أساسياً من مكونات أي مطبوع ورقي أو إلكتروني، ويحظى بمتابعة واسعة من قبل القراء والمتلقين. تميزت صحافة الكاريكاتير في المغرب بالصحف الساخرة الرائدة ك: "أخبار الدنيا، الكواليس، أخبار السوق، التقشاب، الأسبوع الضاحك، أخبار الفن.."، أو الصحف الساخرة الجديدة (جريدة "بابوبي"، ملاحق ساخرة في صحف يومية). الحضور المتزايد لفن الكاريكاتير في المغرب لم يأتِ من فراغ، بل جاء نتيجة تراكم تضحيات كتيبة من الفنانين، خاصة منهم أولئك الرواد الذين وضعوا بصماتهم على أسس البدايات، وكانوا بمثابة علامات مضيئة على الطريق، بعد أن نال كل واحد منهم نصيبه من المعاناة والإقصاء والتهميش، في لحظات مفصلية من تاريخ المغرب السياسي، وخاصة خلال سنوات الرصاص، من بينها اعتقال إبراهيم لمهادي عن صحيفة "المحرر"، والبوهالي حميد عن "التقشاب" ومضايقة محمد الفيلالي عن “لوبنيون”، ومنع السلطة للعربي الصبان في “العلم” من النشر لدواع سياسية، وتعويض ركنه ب"فصاحة البياض"، ومحاكمة خالد كدار عن "أخبار اليوم"، والتوقيف المفاجئ للحسن بختي من العمل في “الاتحاد الاشتراكي” دون مبرر قانوني. ومع مرور السنين، برز جيل جديد من الإصدارات الصحافية المهتمة بالسخرية والكاريكاتير لاستكمال المشوار، بعضها توقف، إما لإكراهات مادية، أو لظروف سياسية مختلفة، من بينها على سبيل المثال لا الحصر "الهُدهد" لأحمد السنوسي (بزيز)، و”أخبار السوق” لمحمد الفيلالي، و”التقشاب” لحميد البوهالي، و”المقلاع” للعربي الصبان، و”أبيض وأسود” لعبد اللطيف كلزيم، و”دومان” و”دومان ماغازين” لعلي المرابط، الذي كان قد حكم عليه بالمنع من الكتابة لمدة عشر سنوات، و”بابوبي” لخالد كدار التي تحولت إلى موقع إلكتروني. هناك إصدارات أخرى ذات طبيعة صحافية عامة وإخبارية شاملة تواصل المسار، تضع الكاريكاتير ضمن مكوناتها، وأجناسها الصحافية، وأحيانا يتصدر صفحاتها الأولى. نشر الإعلامي والشاعر عبد الرفيع الجواهري نوافذه منذ عقد من الزمان بداية الثمانينيات من القرن الماضي في جريدة الاتحاد الاشتراكي على شكل أعمدة ساخرة مزعجة منفلتة من قيود المتابعة بحكم رمزيتها، حتى إنه تحدث عن التحقيق معه لست ساعات متواصلة من طرف وكيل الملك بسبب نافذة عنونها ب"شكل ثاني حبك انت".. وحين سأله وكيل الملك عما يقصده من وراء عنوان نافذته "رد عليه: اسأل صاحب الأغنية. يوم 18 نونبر 1995، توفي الأديب المغربي الفرنكوفوني محمد خير الدين، وبذلك فقد المشهد الثقافي المغربي والعالمي أديبا استثنائيا كان يلقب باسم الطائر الأزرق.. رحل بعد صراع مرير مع المرض اللعين الذي قاومه بالروح نفسها التي قاوم بها قرار المنع الذي مورس على أعماله الأدبية داخل المغرب. يروي الكاتب رشيد نجيب عنه قائلا في مقالة نشرها موقع "الحوار المتمدن": "اختار خير الدين الكتابة في زمن حالك ومرير بالنظر إلى الوضع العام بالمغرب في فترة الستينيات، خصوصا وأن اختياره في الكتابة ترافق مع اختياره التموقع إلى جانب قضايا وانشغالات شعبه، واختياره الالتزام أدبيا وإيديولوجيا، بما يعنيه ذلك من رفض للاضطهاد والاستبداد". في هذه الفترة الحرجة من تاريخ المغرب، كان هذا الأخير يغلي غليانا شديدا: انتفاضات واضطرابات، حالة الاستثناء، رقابة…فترة اختار فيها خير الدين الانضمام إلى جبهة الرفض من المثقفين الذين أسسوا مجلة souffles أنفاس، التي كان ضمن هيئة تحريرها، إلى جانب مصطفى النسابوري وعبد اللطيف اللعبي. كل هؤلاء كانوا ممنوعين في زمن الرقابة والرصاص، في حين أسس رفقة الفنان الساخر أحمد السنوسي جريدة ساخرة اسمها “الهدهد”، التي أشرف على تحريرها طيلة شهري يونيو ويوليوز 1983 قبل أن تصادرها سلطات الرقابة بسبب خطها التحريري القوي والملتزم في تلك الفترة الحساسة جدا من تاريخ المغرب. من أهم النظريات المسرحية التي عرفها المغرب منذ السبعينيات من القرن العشرين الميلادي، والتي كانت بحق أداة لتأسيس الخطاب المسرحي، ووسيلة ناجعة لتفعيله حركيا، وآلية فنية وجمالية قادرة على تأصيله ذهنيا وعمليا وتقنيا، نظرية الكوميديا السوداء (L'humour noir)، أو ما يسمى كذلك بالكوميك الصادم، أو التراجيكوميدي. ويمكن اعتبار هذه النظرية الدرامية في الوقت نفسه نظرية مسرحية، وأداة درامية في الكتابة والإخراج. ويجمع هذا النوع من المسرح بين الطابعين: التراجيدي والكوميدي، ويهدف إلى تعرية المجتمع القائم، ورصد نمط الوعي لدى الجمهور الحاضر، إن كان وعيا كائنا، أو وعيا مغلوطا زائفا، أو وعيا ممكنا يستشرف المستقبل. ويسعى هذا المسرح جادا، عبر آلياته الفنية والجمالية، إلى نقد الواقع المرصود والمشخص والمعروض، عن طريق السخرية، والهزل، والهجاء، والمفارقة، والضحك، والبكاء… يعد لحسن قناني من أهم المنظرين المسرحيين العرب الذين نظروا للكوميديا السوداء في كتابه القيم (الكوميديا الصادمة) (2012م)، وإن كان كل من مصطفى رمضاني (1996م)، وناهد صليحة (1999م)، وجميل حمداوي (2007-2010م) … قد سبقوه إلى التعريف بهذه الكوميديا بنية، ودلالة، ووظيفة. لقد كانت أعمال الورشة المنظمة من قبل فريق البحث في الفكاهة والسخرية سنة 2007، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بأكادير، باكورة الأبحاث في الضحك والمُضحِك، والتأسيس لأرضية أكاديمية. ويرمي برنامج الفريق إلى تعميق البحث في مظاهر المضحك والساخر في الأدب والثقافة، وذلك من خلال ورشات وأيام دراسية وتدريبات تمتد طيلة أربع سنوات تهدف إلى إشراك طلبة مسلك الدراسات العربية وعموم الطلبة في هذا الموضوع الذي تتعدد جوانب البحث فيه: (الفكاهة والسخرية في الأنماط الحكائية، الكوميديا، النكتة، الكاريكاتور، الإشهار، التراث الشعبي، البيداغوجيا...). ولازالت أعمال الورشات مستمرة منذ 2007 إلى يومنا هذا برصيد مهم من الدراسات والأبحاث في الفكاهة والسخرية. صدر أخيرا (2015) كتاب نقدي لمحمد مفضل، أستاذ باحث بجامعة شعيب الدكالي، موسوم بعنوان "السخرية في الثقافة الرقمية"، عن دار أبي رقراق للطباعة والنشر، يتناول المؤلف فيه بروز السخرية الرقمية كآلية من آليات النقد السياسي والاجتماعي خلال وبعد الربيع العربي. ويعتبر هذا الكتاب تجربة جديدة في مجال الدراسات الثقافية للفضاء الافتراضي، ودراسة مؤسسة في هذا المجال لتوجه نقدي جديد في الثقافة العربية، حيث إن دراسة السخرية في الفضاء الافتراضي لفيسبوك تستدعي مقولات نقدية جديدة تتماشى والتطور الحاصل في التواصل داخل المجتمع الإنساني. كما أصدر القاص والناقد حميد ركاطة 'تجليات الملمح الساخر في كتابات مباشرة جدا' للكاتب جميل حمداوي/ ضمن منشورات جمعية جسور للثقافة بالناضور في مارس 2014. واكتسى الملمح الساخر في الأدب المغربي صبغة خاصة، ميزت تقريبا كل المبدعين، على عكس الأدب الساخر الذي أضحى شبه منعدم كبنية جمالية. مع بداية الألفية، بزغ صيت بعض الكتاب الساخرين يكتبون في إطار الأدب الساخر كأنور خليل والحسين قيسامي. صدر الكاتب أنور خليل كتابه الأول في إطار الأدب الساخر "في بيتنا ضيوف سنأكل اللحم" الصادر سنة 2011، قبل أن يصدر "يوميات بوجمعة "في طبعته الأولى، نونبر 2012، عن مطبعة دعاية بسلا، يقع في 174 صفحة من الحجم المتوسط، وغلافه من تصميم الفنان الناجي بناجي. وبالنسبة للحسين قيسامي فقد أسس في 2012 موقع الرابطة العربية للأدب الساخر، فضلا عن النسخة الفايسبوكية للموقع في نفس السنة. تُوج الأدب الساخر للحسين قيسامي بإصداره سنة 2018 للمجموعة القصصية الساخرة "مرآة تبحث عن هوية" عن دار غراب للنشر بالقاهرة. وبهذا يعتبر الحسين قيسامي مؤسس ورائد القصة القصيرة الساخرة في المغرب؛ وجاء هذا الامتياز بفضل تجربته كصحفي ساخر ناجح، سواء تعلق الأمر بجريدة ملوية بداية التسعينيات، أو بالجريدة الساخرة للعربي الصبان أواخر التسعينيات أو بجريدة لوريونطال المغربية بداية الألفية. من جهة أخرى أبدع الكاتب المغربي الساخر الحسين قيسامي مصطلحا جديدا سنة 2014 لتعزيز البحث في الأدب الساخر، ويتعلق الأمر بالسخرقراطية التي تعني قوة السخرية أو سلطة السخرية في زمن البيروقراطية والذلقراطية..السخرية بالنسبة إليه هي عمل من أعمال التفكيك. وتعد "سلطة السخرية" قدرة الكاتب على إحداث تغيير ملموس في تصورات المتلقي وآراءه، ومن ثم تبنيه لقناعات جديدة. وللكاتب الساخر سلطة كبيرة في بناء قناعة جديدة لدى المتلقي من خلال الإستراتيجية الحجاجية التي ينتهجها في سبك المقالات والنصوص. *ناقد وشاعر مغربي