كان ذلك في منتصف شهر دجنبر 2017. كانت مدينة الثلج والبرد القارس في أزهى حلتها، بيضاء وناعمة كبشرة الأمل. لم يكن مضى على انطلاقة الحركة سوى عام واحد، لكن صورتها وهويتها الحسية كانت شديدة الصفاء، بعدما عانق ميلادها مئات الزوار والنشطاء والغيورين من كل ربوع الوطن ومن خارجه. مؤتمر هادئ انطلق على أهازيج جبالة والأطلس المتوسط في تناغم عظيم عمه الحس الوطني، جمع فاعلين من مصادر ومراجع ذات صلة قوية بالحداثة والديمقراطية بعيدا عن الدغمائية القاتلة ومحنطات التحقيبات والشرعيات. إنه نموذج متميز، منفتح على الثقافة والتاريخ، أطل على الحضور، من نوافذ متعددة، بابتسامة مشوبة بمرارة اليأس والممانعة. لم نستعن بأحد حفاظا على استقلاليتنا وحريتنا، بعيدا عن الرقابة الذاتية والرسمية، وبعيدا عن الصراعات العنيفة بين الفاعلين المركزيين، دعاة الشيوعية والاشتراكية واليسراوية والراديكالية والتقدمية. وهكذا تحولت "المدينةالبيضاء" على مدار يومين إلى ملتقى مواطن للتفكير في التغيير الاجتماعي، في تأمل هادئ، أعطى الحركة لحمة الحياة بينها وبين مكوناتها، في نسيج من العنفوان، والقرب، والتواصل، والصفاء. كان عسيرا علينا أن نصدق ما عشناه من تعب وعنف ومحن وكذب وخداع، بل عبرنا جميعا عن رغباتنا وطموحاتنا دون ركام التراث، ومن دون قيد أو شرط. لهذا كنا كما نحن من حيث التربية والوعي بتحديات عصر المغرب الجديد. ولهذا كذلك، كنا على مسافة بعيدة من الحياة السياسية المريضة والنظم الحزبية المهترئة، والمركزية المدنية المخادعة، والنقابوية المتشرذمة، وبعيدين عن أساليب وأشكال التعددية المهينة. كانت مناسبة ذكرنا فيها أنفسنا بالسلوك الأخلاقي، وبقواعد القيم التي لم تترسخ بعد، ولم تصمد أمام قيادات مركزية وهمية وحقودة، لا تؤمن بالديمقراطية الداخلية، ولا تحترم حرية الاختلاف والحوار البناء، لا مسؤولة أمام الشعب والتاريخ. كان المؤتمر التأسيسي إحدى أهم قسمات حركة "قادمون وقادرون – مغرب المستقبل"، التي ميزت انطلاقتنا عن غيرها من التجارب، والتي أفسحت مجالا واسعا للتلاقي، وفتحت فضاءها للترافع عن الآلام الاجتماعية التي اكتوى بنيرانها آهالي المغرب القروي وسكان الجبل والواحات والسهوب. لقد انطلقنا تحت نير الخوف على مغرب المستقبل لمقاومة الطغيان السياسي، والاستبداد الحزبي، واليأس الاجتماعي، والانحطاط الثقافي. وكل أملنا، كان وما زال، في رد الاعتبار لمغاربة الهامش وإشاعة الوعي العام. وفي حلم التغيير هذا، رافقتنا ناشطات ونشطاء الوعي المواطن من أجل الفكر والعقل والوجدان، صنعت معنا ولنا طريقا أضاء حقول الظلام. كان النقاش حامي الوطيس مع "مناضلي السوسيال" و"بتاع حقوق الإنسان" و"المحافظين على الشرف اليسراوي والشرعية التاريخية"، حول من نحن وماذا نريد، وكأننا متهمون نقف أمام قاضي التحقيق من درجة "خبير في الأيديولوجيا"! كما واجهنا سيلا من السب والشتم، وتعليقات سخيفة ومعادية مجانية لنا ولمغرب المستقبل من طرف الجالسين على المقاهي والحانات. وفي سبيل مغرب المستقبل انهمرت دموع كثيرة ثقيلة فوق الخدود، وانهارت من أجله قامات وفي قلبها قلق غريب مظلم، راح يعظم وينمو باستمرار، وما بدلنا تبديلا. لم يكن لدينا من نستشير حول مواضيع تهم التحولات الناجمة عن الاقتصاد الجديد وشركات الإنترنيت، وعن الثورة الرقمية واستثمار الأموال في شراكات حسابات جديدة، وفي خطوط الاتصالات والتكنولوجيا. فكلما كنا نبحث عن تفسيرات واجتهادات وشروحات تخص هذه التحولات، كنا نعثر على أقوال وتعليقات تمتلئ سخرية وتسفيها وسبا وقذفا، و"مواقف" جاهزة وجاهلة، خارج السياق والتاريخ. أضف إلى هذا أننا وجدنا ما تبقى من "نخب المركز" في قاعة الانتظار، تنتظر من يموت لتخلفه على رأس الأجهزة الحزبية، النقابية والثقافية، المهترئة منذ عقود. وما كان هناك أحد يشك في هذا الواقع المزري، وما كان هناك من فكر في احتضاننا ومسح دموعنا. نعم، هذا كله من الأمور التي زادتنا تشبثا بالأمل، فانطلقنا كالقطار نصول ونجول من دون راحة ولا سكون. لقد عاش المغرب منذ ميلاد العهد الجديد نشوة جماعية. لكن قادة الإنصاف والمصالحة، وقادة التوافق، وقادة الانتقال الديمقراطي، وقادة العدالة الانتقالية، وقادة باقي الأوراش النسائية والأمازيغية والثقافية، والمناضلين المركزيين، لم يدر في خلدهم أن ديمومة هذا الازدهار تتوقف على مدى قدرة الازدهار نفسه على تغذية نفسه بنفسه، وأن شرط هذه التغذية هو ميلاد جيل جديد من القادة والأطر والكفاءات والنخب. وهو ما لم يتحقق، للأسف، والبيانات التي انطلقنا منها تؤكد بالملموس من استفاد من هذا الازدهار، ومن وظفه لصالحه، ومن تاجر فيه تحت يافطة "أنصار العهد الجديد"، وخطاب العرش بمناسبة الذكرى العشرين يشير بالواضح إلى هذا الوضع الخطير! إن العودة اليوم إلى الدين، والأيديولوجيا الماضوية، واليسراوية المريضة، واليمين المتطرف، فشل ذريع وكارثة جديدة تنتظرنا، إذا لم نتعبأ جميعا ضد قطيع العميان الذين يفتشون في الفراغ عن البطولة، وكل السماسرة المتاجرين بالمشتقات. وكل هذه دفوع قوية، ومحل جدل بيننا وبينهم، لأن اهتمامنا تركز حول الحق في الثروة الوطنية لكل المغربيات والمغاربة، والحق في العدالة المجالية بين كل جهات المملكة، والحق في البنيات الأساسية للجميع (التعليم، الصحة، السكن والشغل)، في أفق بناء الدولة الاجتماعية. كانت هذه منطلقاتنا قبل ومنذ ولادة حركتنا، حركة "قادمون وقادرون – مغرب المستقبل". واهتمامنا هذا لا ينصب على إحكام صياغة رؤيتنا أو على الدفاع عنها، بقدر ما ينصب على لفت الانتباه، وعلى الإشارة إلى الأسباب والدوافع التي جعلتها موضع شك بين نخب المركز والمثقفين الاشتراكيين ودعاة اليسار والتقدمية. وهو ما جعل التطبيع مع واقع المغرب القروي وسكان الجبل والواحات والسهوب مثل التطبيع بين الشيخ والمريد. وهكذا، سرنا على الدرب منذ دجنبر 2017 نراكم تجربتنا على ضوء زياراتنا ونزوحنا من المركز إلى الهامش، مدججين ومسلحين بروايات وقصص وحكايات ومعاناة ووقائع وأحداث وهموم وآلام البسطاء من المغاربة المهمشين والمنسيين بين الجبال والواحات والسهوب، رغم اختلافات أخرى أكثر إدهاشا. إن المغرب بلد شاب متعدد ومتنوع، وأمامه مستقبل واعد، علينا أن نضيئ طريقه نحو الديمقراطية، التي لن يتحقق انتصارها إلا بترابطها مع التنمية لأن التنمية تضعف الجشع والريع والمحسوبية والزبونية واستبداد ملاكي الأراضي الكبار الذين يستعبدون العمالة الزراعية الرخيصة في القرى والبوادي، وفي ضيعات المعمرين الجدد الواقعة في ضواحي العواصم والمدن الكبرى. هذا التفسير لواقعنا الملموس، خلال مجالسنا الوطنية الثلاثة، ساعدنا على استخلاص شيء من المعنى من التقويمات المتناقضة ببلادنا: مؤسسات ديمقراطية ناقصة وعيا وفكرا وحبا للوطن، يقودها ملاكو المقالع وأراضي كبار ومزارعون وأرباب الشركات، واستثناء إقليمي عابر. لكن، في غضون تجربتنا الجديدة وتخلصنا من بائعي الأوهام و"الكذابين"، تأكدنا من هزيمة ثقافة الظلال المحشوة بالحداثة والديمقراطية والماركسية المشوهة، وعبرنا بالملموس، وفي أكثر من مناسبة، عن صراعنا المفتوح مع دائرة نخب المركز، الصامتة والفاشلة منها، تلك النخب التي تنكرت لمسقط رأسها، ولفقر عائلاتها، في المغرب العميق والجبل والواحات والسهوب، وغيرت اسمها وباعت نسبها. نعم، إن ميلاد مغرب المستقبل قريب، لأن دينامية التغيير لم تعد حكرا على الفاعلين السياسيين والمدنيين المركزيين، الذين باعوا الوهم للمغاربة تحت يافطة الدفاع عن حقوق الإنسان وحرية التعبير، ومن خلال الاحتجاجات النخبوية في المراكز والساحات العمومية، وإصدار البيانات والبلاغات التضامنية مع الحركات الاجتماعية الأصيلة والمتجذرة في تربتها وثقافتها التطوعية والتضامنية، والتي لا تزال تناضل من أجل الكرامة والحق في الحياة، ضد الفقر والاستبعاد الاجتماعي والهشاشة والحرمان من الماء والتدفئة ومن التطبيب ومن التعليم والشغل. ويحظى هذا النموذج، أعني نموذج حركات أهالي مغرب القرى والجبل والواحات والسهوب، بقبول متزايد من طرف الشباب والنساء، ويتعرض لقمع مستمر، يذهب ضحيته شباب في مقتبل العمر ونخب محلية من نخب الهامش، بينما لا أحد يمس نخب المركز المحمية، التي تدرس أبناءها في أشهر وأكبر المدارس والمعاهد العليا في الداخل والخارج، وتستفيد من التغطية الصحية ومن كل أنواع وأشكال التأمين. إن رئيس الدولة بمفرده لن يستطيع استعادة الثقة لدى المغربيات والمغاربة الذين ضاقوا ذرعا من نموذج التنمية الذي استفاد منه قلة من الفاعلين المركزيين وعائلاتهم وخدمهم وحشمهم. فحقبة الريع والإسراف الأهوج، وسرقة الضرائب وقروض الأبناك، يجب أن يتبعها عهد المحاسبة والمساءلة وعدم الإفلات من العقاب، وحقبة الإنصاف والمصالحة مع أهالي مغرب القرى وسكان الجبل والواحات والسهوب مطلب مستعجل. فالتنمية والمشاريع المهيكلة ورؤساؤها يجب أن يتخلوا عن السرقة، وعن الربح الجنوني اللاقانوني، وأن يسترشدوا بواجباتهم الاجتماعية ومسؤولياتهم الأخلاقية، أي أن عليهم أن يكونوا جزءا من مغرب المستقبل الذي ستتم ولادته قريبا. في مناقشة هذا الجزء من رؤيتنا، تميل حركة "قادمون وقادرون – مغرب المستقبل" إلى اعتبار التعليم مدخلا جوهريا لأي تغيير مجتمعي، وضرورة تاريخية لبناء المجتمع الحداثي والديمقراطي، وشرطا أساسيا لتحقيق الدولة الاجتماعية. وميلاد مغرب المستقبل هدف منشود لإعادة النظر في هيمنة المركز على "المغاربة المحليين" غير المهيمنين في الجهات والأقاليم، رغم ما جاء به دستور 2011 من قوانين وتشريعات تهدف إلى الإنصاف المجالي. إن المغرب لم يعد عشيرة، وأهالي القرى والجبل والواحات والسهوب والصحراء لم يعودوا معزولين عن قضاياهم الكبرى، وأي إصلاح سياسي سيكون فاشلا إذا لم يكن مدخله الحق في الثروة الوطنية والعدالة المجالية والبنيات الأساسية، ولن ينفع من الآن فصاعدا اللغو اللغوي والشعبوية السياسية لإظهار الصفاء والنقاء. لقد آن الأوان أن تكشف الأحزاب السياسية عن مشروعها المجتمعي، كيفما كانت فلسفته، وإذا لم يكن لديها أي مشروع، فعليها أن تنسحب فورا. إن التاريخ لم يعد يرحم، وحياة المغاربة أجمل وأشرف من التنابز السياسي، ومن اللغط المدني، ومن المرض اليسراوي. فحوالي سنتين ونحن ننتظر ميلاد مغرب المستقبل، ونحلم بميلاد رؤية جديدة قائمة على "دينامية الديناميات"، في انتظار تعزيز صفوف حركتنا بقياديين شرفاء، سياسيين واقتصاديين ومدنيين ودينيين، كفاءات وأطر ومثقفين وشباب ونساء. بعبارات أخرى، مغرب المستقبل ليس مستحيل، إنه حقيقية، وستكون حركتنا سعيدة باحتضان ميلاده في بيتها. فمرحبا بالجميع، والميلاد ميعاد.