من "الإنسان" الذي له حلم وغاية، يضحَك ويُضحِكُ خلق الله، ولا يَخُون ولا يُخَوِّن، ويحمل أمل الغد، الذي غنّى له حمزة نمرة في عام "الأمل الديمقراطي" 2011، إلى "الإنسان" الذي يغنّي، بعد ذلك بسبع سنوات، عن إحساسه الذي يقلّ يوما بعد يوم، والحلم الذي يودَّع كلّ يوم، والملل من كثرَة الإحباط.. يحكي حمزة نمرة بلهجة مصريّة وأنغام ملؤها الشّجن قصّة وأد حلم شبابٍ في ربوع العالم العربيّ والمغاربيّ. وفضلا عن موهبته البيّنة، يقدّم المغنّي المصري حمزة نمرة صورة فعليّة ل"الفنّان" الذي لا يكون إبداعه فقط متعةً سمعيّة، بل يجسّ فعليّا نبض مجاله التداولي، وجيله، والهموم والآمال التي يحملها.. دون أن "يُضَيِّقَ واسعا" بحصر الإبداع في النّقد السياسي والتّضامن الاجتماعي المحض. تعرَّفَ الجمهور المغربي، بشكل أوسع، على حمزة نمرة بعد تجديده إيقاع رائعة الراحل محمد رويشة "إيناس إيناس" مع تأدية كلماتها باللغة الأمازيغية، وهو ما كان فرصة لتعريف الجمهور العربي بالمكنونات الثقافية والإبداعية لشمال غرب إفريقيا، عن طريق برنامج "ريمكس"، الذي من المنتظَر أن يعود قريبا في جزئه الثالث، حاملا معه إبداعات شعبيَّةً معاداً توزيعُها من مختلف أقطار الوطن العربي. جريدة هسبريس الإلكترونية التقتِ الفنّانَ حمزة نمرة، وسألته حول مواضيع إبداعاته الفنّيّة، وعواقبها، وقصّة "إيناس إيناس"، وتجربته مع اللغة الأمازيغية، كما استقت تصوّرَه لدور الفنّ والإبداع في بناء الإنسان وترسيخ واجب احترامه.. هل يمكن أن نعتبر الفنّ مقاومة عند حمزة نمرة، باستحضار أغان مثل "بصّ بصّ"، التي تنتقد واقع الفساد المستشري والمطبَّع معه؟ الفن الذي أقدّمه تعبير عن أفكار خاصّة بي، وأعتقد أنّها تعبّر عن أفكار كثير من أبناء جيلي. و"بصّ بصّ" أغنية يمكن أن تؤخَذَ بكذا.. وليست محدّدَة بطابَع سياسي أو اجتماعي، فلها معنى أوسع هو فكرة الشّخص "الحلنجي"، الذي يبيع ويلعب، كما يسمّى في مصر، ب"البيضة والحجر"، وهو بيّاع "حِرفي" يمكن أن يبيع حتى الهواء. ويُمكِن أن تُسقطَه على بيتك، وفي الشّارع، وفي حياتك الاجتماعية، وتقول: هذا يذكّرني بفلان الذي التقيتُه من قبل، والجمهور هو الذي يستطيع أن يحكُم ويشكِّل الأغنية حَسَب ما استوعبه منها. ودوري أنّني قدّمت الفنّ بشكله، وإطاره العام، وفكرته العامّة، وأحبّ القيام بهذا حتّى تعيش الأغاني، لأني أريد أن تعيش أغانِيَّ خمسين سنة ومائة سنة. في الأخير بعد مائة سنة سيبقى هذا الشّخص الذي "يلعَب بالبيضة والحَجَر" ويبيع الهواء موجودا في المجتمع، لذا لا أريد قولَبَة أغانِيَّ في عصر معيَّن أو قالب معيَّن. يلاحظ المتابعون تغيّرا في موسيقاك بعد فترة الربيع الديمقراطي، يعكس بشكل من الأشكال تحوّلات هذه المرحلة، وهو ما يظهر في الانتقال من أغان مفعمة بالأمل والدعوة إلى العمَل المشترك مثل "إنسان" إلى "داري يا قلبي" التي مِلؤها الرّثاء والحزن. أنا ابنٌ من أبناء هذا الجيل، وما يحصل له يحصل لي، فأنا أمرُّ بفترات إيجابية يكون فيها حلمٌ وتفاؤل، وبفترات فيها إحباط، وأحسُّ بهذا، وأُتَرجِمُه في أغانيَّ، أو يعبَّر عنه دون وعي منّي. هذا هو الفنّ الذي أعرفه في الأخير، هو تعبير عن نفسك، وعن أبناء جيلك، وألا تكون منفصلا عن الواقع. فمن الطبيعي أن تحلم، في فترة من الفترات، مثل كلّ أبناء جيلِك، وبعد ذلك تعيش فترةً فيها صعوبات، وبعد ذلك تعود إلى الحلُم والتفاؤل، وأنا أسير مع أبناء جيلي. هل قادتك اختياراتك الفنّية، كما حدث لكثيرين قبلك، إلى الاستقرار الآن في منفى اختياري خارج بلدك؟ والله أنا لا أريد تكبير الموضوع كثيرا، فأنا لما اشتغلْت في "ريمكس" كان من الضّروري أنْ أسافر، وأستطيع التحرّك بسهولة؛ فرأيت أنّ أحسن شيء هو أن أكون في لندن، وهو ما سهّل حركَتي صراحة داخل الوطن العربي وفي أوروبا وإنجلترا لأننا غالبا ما نصَوِّرُ فيها. لا أريد تضخيم المواضيع لأن هذا كان محرِّكي الرئيسي، فخطواتي بناء على وضعي الفنّي، وما يقتضيه المشروع الفنّي الذي أنا فيه، ولا أعتقد أنّ الخطّ الذي أسير فيه سيجعلني في أزمة نفي أو أزمة سياسية أو شيء من هذا القبيل، لأنه في آخر المطاف أنا أقدّم فنّا ويُفترَض ألا يكون هناك صدامٌ بين الفنّ وبين أيّ سلطة، لأنه كلامٌ وغناء ومجرّد تعبير، سواءٌ اتّفقت أو اختلَفت معه. كان برنامج "ريمكس" تجربة فريدة لم تجدّد فقط إيقاعات أغان بدوارج عربيّة، بل جدّدت إيقاع أغان بلغات أخرى من المنطقة مثل الأمازيغية. كيف اخترت تأدية أغنية "إيناس إيناس" للرّاحل محمد رويشة؟ وكيف تمكّنتَ من الغناء بالأمازيغية؟ طبعا كانت مصادفة، فعندما كنّا بصدد البحث عن الأغاني التي يمكن أن نشتغل عليها، جاءت أغنية "إيناس إيناس" على "اليوتوب" وشاهدتُها، واستمعت إليها، وأعجبَني كثيرا مزيجُه مع الفنانة خديجة أطلس، وهذا "المكس"، ولا أدري بالضبط، ربما طريقته في الغناء.. أنا لا أعرف طبعا الأمازيغية، ففهمت الترجمة. ولمّا سمعت الأغنية قلت إنني أحبّ أن أغنيها، دون أن أعرف كيف سأعدّلها، ومع الوقت تطوَّرَت الرؤية، فقلنا إنّنا سنغنّيها بأسلوب "الريغي"؛ لأن فيها هذه اللمسة الرائقة، وهو الإيحاء الذي يقدّمه لنا "الرّيغي"، لكنّي لم أتوقّع أن تنجح بشكل كبير. أعرف أن إيقاع "الريغي" إيقاع هادئ، بينما المغرب يتميّز بالإيقاعات الصّاخبة، والشّعب المغربي يحبّ النّشاط والحركَة، بينما هذه الأغنية تعتَبَر هادئة، لكن، الحمد لله، كان ردّ الفعل كبيرا جدا، وأشكر الجمهور المغربي على تشجيعي في هذه الأغنية. ما دور الفنّ في التّوعية بالأوضاع القائمة، والمساهمة في تغييرها إلى واقع يحترم المواطن والتعدّد؟ في رأيي، دورُ الفنِّ الرئيسيُّ هو أن يكون تعبيرا ومرآة تعكس مشاعر وأفكار وعواطف وهموم المجتمع، والجيل الراهن، والطبقات الشّعبيّة، وهذا دوره الرئيسي. لا أحبّ فكرة أن يكون الفنُّ أداة وعظيّة أو أداة تثقيفية، رغم وجود أنواع من الفنون تقوم بهذا. ولكن بوجه عام مجرَّد التعبير فقط عن إحساس ما، سواء كان عاطفيا أو مشكلة أو همّا أو إحساسا اجتماعيا أو سياسيّا، هذا أسمى دور للفنّ، وأظنّ أن ربّنا خلق الفنّ من أجل هذا؛ لأن الشّخص عندما لا يعرف كيف يعبِّرُ بالكلام أو عبر الحوار بينه وبين شخص آخر يتَّجِهُ إلى الفنّ والموسيقى والشّعر والأغنية، ويعبِّرُ فيها عن نفسِه. مجرّد تعبيره عن هذا الإحساس على ورقٍ أو على شريط أو عبر أغنية أو على عود يحدث.. لا أعرف كيف أسمّيه، وأعبّر عنه ب"ارتياح". وهذا هو الدّور الرئيسي للفنّ بغضّ النّظر عمّا هو أبعد من ذلك. وأرى أنّ هذا أهمّ شيء، وهذا ما ينقل المجتمعات، وما يجعلها أكثر تفتُّحا، وأكثر استماعا لبعضها البعض.