من عهْدٍ ملكي محكُومٍ بالمزاجية والإيمان الرّاسخِ بقُدْسية المواقف والآراء، إلى عهدٍ تعتمدُ دبلوماسيته على العقلانية والواقعية والسّرعة في اسْتغلال الأحداث والتّطورات الدّولية، انتقلَ العقلُ الدّبلوماسي للمملكة ليبْسط نفوذه أولاً في إفريقيا باخْتراقاتِه الإستراتجية وتمثيلياته الدّائمة في دوائر صُنعِ القرار الإفريقي، وبمحاولاتهِ الحثيثة ضمانِ أولوية الأجندة الدّاخلية، على حسابِ ما تُمليه توافقات "مصلحية" ظرفية مع حلفاء الرّباط، عبرَ جدارٍ "مخملي" يصعبُ تجاوزه. مُحاطاً بجيلٍ جديد من التّكنقراط، جسَّد الملك الشّاب محمد السادس، بُعيدَ اعتلائه العرش سنة 1999، أسلوبه الملكي المختلفِ عن والده الرّاحل الحسن الثاني في فهْمِ تعقيدات المحيط الإقليمي؛ فقد كانَ أوّل ما قام به الملك الشّاب آنذاك هو القطعُ مع مرحلة كان سمتها "الانْدفاعُ" العاطفي والانْفعالية في رُدود الفعل. وكانت للتّكنوقراطيين مكانة خاصة في النّظام الجديد، في أفق المُساهمة في ضمان الانتقال "من دّيمقراطية جزئية منقوصة إلى ديمقراطية حقيقية". واستطاعَ الملك طوال عشرين سنة من الحُكم أن يسجّل أهدافاً "حاسمة" في مرمى المواقف الدّولية باتّباع سياسة خارجية رادعة "هجومية"، تقوم على التّدافع بدلَ الانْزواء، والحضور الدّائم بدل الغياب "المُبرّر"، خاصة مع انْسحاب المملكة من ملفات الشّرق الأوسط وتناقضاتهِ، والعودة تدريجياً إلى إفريقيا، كبديل إستراتيجي للدبلوماسية المغربية، إذ سعت الرباط إلى لعب دور قيادي في المشهد الدبلوماسي الإفريقي، وأنْ تواصلَ انْجرافها الخارجي من بوابة إفريقيا. ويشيرُ المحلّل والأستاذ الباحث في العلاقات الدولية هشام معتضد إلى أنّ الدبلوماسية الملكية بالمغرب عرفت تطورا إيجابيا منذ اعتلاء الملك محمد السادس العرش؛ "فبعد مرحلة بناء دبلوماسية مؤسساتية في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، قام العاهل المغربي محمد السادس ببلورة رؤية واقعية وبراغماتية للدبلوماسية المغربية لتقوية الخريطة السياسية الخارجية للمغرب على المستوى الدولي". العرش..عمود السّياسة الخارجية يُشكّل العرش الملكي حجر أساس السّياسة الخارجية المغربية ومُنتج قراراتها السّيادية، فالملك، وفق تقاليد وطّقوس الحكم، يتمتّعُ بسلطة "حصرية" تخوّل له اتخاذ مواقف رسمية بشأن القضايا الدولية، وبهذا المعطى، يصبح أيّ قرار يتخذه ملزماً ويعبّر عن باقي مكونات الدّولة، سواء الدّستورية أو المؤسساتية. وهكذا رسم القصر خطوط عودة المغرب إلى إفريقيا بعد غياب دام أزيد من ثلاثة عقود. وكان خروج المغرب من الاتحاد الإفريقي، بسبب قبول هذا الأخير انضمام ما يُسمّى الجمهورية الصحراوية إليه كعضو، مثله مثل باقي الدول الإفريقية الأخرى. ويشرحُ الخبير في العنف السّياسي حليم المذكوري أنّ "القيادة الحالية للبلاد لاحظتْ أن مغادرة المغرب مرغمًا لحضنه الإفريقي لم يفد القضية الوطنية في شيء؛ بل فسحت المجال للخصم الشقيق الجزائر لتضييق مساحة تحرك المغرب أكثر وتوطيد عزلته داخل محيطه الإفريقي"، وزاد: "هذا بالإضافة إلى قناعة رئيس الدولة الحالي الملك محمد السادس بالدّور الأساسي الذي قد تلعبه علاقات جيدة مع الدول الإفريقية في نمو الاقتصاد المغربي وتقوية أحد أعمدة السياسة الخارجية، ألا وهو موقعه الجيوسياسي كجسر بين الشمال (أوروبا وأمريكا) والجنوب (دول إفريقيا التي تعرف حاليا نموا اقتصاديا مهما). العودة إلى إفريقيا بعد سنوات من القطيعة وانْتهاج سياسة "الكرسي الفارغ"، عاد المغرب إلى حُضنه الإفريقي بطموحِ اقتصادي "جارفٍ" ورغبة سياسية في امتلاكِ مفاتيح صناعة القرار، وهي عودة وإنْ كان يحكمها منطق كانت لها مبرراتها ومهندسُوها الذين لم يخرجوا من حدودِ الدائرة الملكية الضّيقة؛ "فقبل تقديم طلب الانضمام من جديد إلى الاتحاد الإفريقي، قام الملك محمد السادس بحملته الإفريقية الواسعة التي لم يسبق لها نظير في تاريخ المغرب الحديث"، يضيفُ المذكوري. وقد حرص رئيس الدولة على أن يصحب معه في كل زيارة وفودا وازنة من الفاعلين الاقتصاديين. وهكذا تم التوقيع على ما يقارب مائتي اتفاقية اقتصادية ليصبح المغرب بذلك البلد الإفريقي الثاني بعد جمهورية جنوب إفريقيا من حيث حجم المعاملات الاقتصادية في إفريقيا جنوب الصحراء. ويرى مراقبون أنّ هذه العودة الإفريقية ساهمت في دعم الاقتصاد المغربي وتقويته، ما يرشح المغرب للعب دور القوة الاقتصادية الأكثر تأثيرا في القارة السمراء؛ كما ساهمت في كسب الدعم لمجهودات المملكة من أجل إغلاق ملف الصحراء بإرساء الحكم الذاتي في الأقاليم المغربية الجنوبية. ولتحقيق هذه الأهداف الإستراتيجية كانَ لا بدّ من بناء علاقات جيدة مع دول جنوب الصحراء، مبنية على المصالح المشتركة. وفي هذا المنحى، يشدّد الخبير في الشّؤون الإفريقية نوفل البعمري على أنّ "المغرب أعاد تصحيح أخطاء الماضي، خاصة في علاقته بإفريقيا والاتحاد الإفريقي، إذ شكلت عودته مناسبة ليسترجع عمقه الإفريقي ويكسب حلفاء أفارقة جددا"، وزاد: "برز ذلك في رد الفعل الإيجابي تجاه الرسالة الملكية التي تلاها الملك بنفسه في القمة الإفريقية التي أعلن فيها المغرب رسميا استرجاع مقعده في الاتحاد الإفريقي". دبلوماسية "القوة المخملية" في أوْج الصّدام الدّبلوماسي بين المغرب والجزائر، الذي يكون باعثهُ الأول مرتبطا بقضية الصحراء، فاجأ الملك محمد السادس قادة الجارة الشرقية بدعوة صريحة إلى "حوارٍ مباشر وصريح" للتغلب على الخلافات من خلالِ إنشاء آلية سياسية مشتركة للحوار والتشاور. ومعروف أنّ عودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي كان باعثهُا الأوّل مواجهة امتداد الجزائر في عدد من الدّول الإفريقية، خاصة أن الجار الشّرقي كان يحاولُ بمعيّة جنوب إفريقيا تشكيل بعثة إفريقية "لمعالجة" ملف الصحراء، وهو ما تعارضه الرباط. "وقد شكل قبول عضوية المغرب المبدئي ضربة أخرى للخصم الجزائر بعد فشل هذا الأخير في منع المغرب من الانضمام مجددا إلى حضنه الإفريقي"، يصرّح المذكوري. ويضيفُ الباحث ذاته أنّ "يقظة المغرب حالت دون تحقيق المخطط الجزائري الذي كان من شأنه تقويض كل ما حققته المملكة بدبلوماسية "القوة المخملية/الناعمة"". وتعتمد هذه القوة على العضلات الذهنية أكثر من أي نوع آخر من العضلات. ويشدّد المذكوري على أنّ "الخصم مازال سجين التفكير العضلاتي دون الانتباه إلى ترهل عضلاته على مستويات مختلفة من جسمه". ويتجلى ارتياح الدول الغربية للمقاربة المغربية في إشارات مختلفة، "ليس آخرها بداية تحول واضح طرأ على مواقفها من قضية الصحراء، وعقد أو تجديد اتفاقيات شراكة على عدة مستويات، وغض الطرف عن الملفات الداخلية التي مازالت تشكل تحديا عويصا". ومن بين أدوات دبلوماسية "القوة المخملية"، التي اعتمدتها دبلوماسية الرباط، يستعرضُ المذكوري الثالوث الناجع والناجح: "أولاً الدين، متمثلا في تسويق ما أصبح يعرف بنموذج التدين المغربي، شكلا ومضمونا، ثم الهجرة غير المنظمة، التي تقض مضاجع دول الشمال، متمثلة في تقوية قوانين المغرب المتعلقة بالهجرة وعقد اتفاقيات في الشأن ذاته للتقليل من ضغوط جحافل المهاجرين الأفارقة على مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين. وأخيرا وليس آخرا محاربة الإرهاب الدولي التي أظهر فيها المغرب نجاحا كبيرا، إذ استطاعت أجهزته الأمنية تفكيك عشرات الخلايا الإرهابية، النشيطة منها والنائمة في انتظار الأوامر". استقلالية القرار السّيادي يشير البعمري في هذا الإطار إلى أنّ "المغرب استطاع أن يحقق تطورا كميا نوعيا في المجال الدبلوماسي، برز من خلال الاتجاه نحو تنويع الشراكات الدبلوماسية التي اتخذت أبعادا متعددة ثقافية واقتصادية ثم سياسية، وهو ما أعطى المغرب مساحة كبيرة للعمل الدبلوماسي، لينعكس ذلك على القضية الوطنية". ويضيفُ الباحث ذاته أنّ "المغرب استطاع بذلك أن يكسب حلفاء وشركاء جددا، ليس فقط في أوروبا، بل في أمريكا اللاتينية التي أعلنت عدة دول منها سحب اعترافها بالكيان الوهمي وإعادة علاقتها الدبلوماسية مع المغرب في تصحيح لأخطائها التاريخية". وأوضح المحامي والحقوقي المغربي أنّ "الملك أعطى روحا جديدة للعمل الدبلوماسي المغربي من حيث جعل قراره الدبلوماسي مستقلا، غير خاضع لأجندات خاصة لبعض الدول، مؤكدا أن قراره الدبلوماسي ملك له ومستقل، وأن المغرب لا يمكن أن يكون تابعا لأي طرف، بل له سياسته الخارجية المستقلة". صوت القدس في العالم ويشدّد البعمري على أنّ "الملك أعلن بشكلٍ واضح رفضهِ صفقة القرن ومحاولة ضم القدس للكيان الصهيوني، إذ تحمل مسؤوليته كرئيس للجنة القدس وقام بكل الخطوات الدبلوماسية اللازمة تجاه الإدارة الأمريكية ودول الخليج، ما مكنه ليكون صوت القدس في العالم، مدافعا عنها وعن المقدسات الدينية الإسلامية والمسيحية كأمير للمؤمنين وكرئيس للجنة القدس". الإصلاح المؤسساتي ويبرز الباحث المقيم في كندا هشام معتضد أنّ "الدبلوماسية الملكية في شقها التقني للتدبير المؤسساتي منذ اعتلاء الملك محمد السادس العرش حددت ثلاثة أوراش كبرى للإصلاح على المستوى الدبلوماسي المغربي؛ وذلك لإعادة هيكلة هذه المؤسسة وتقويتها لممارسة مهامها ومواجهة التحديات الإقليمية والدولية". "يتعلق الأمر بتأهيل الموارد البشرية، تقوية الترسانة القانونية في الروابط الدبلوماسية للمغرب على المستوى الخارجي، بالإضافة إلى ضبط الاختيارات الإستراتيجية على مستوى السياسة الدبلوماسية للمغرب في ما يخص المصالح الجيوستراتيجية"، يورد الباحث ذاته. أما في ما يتعلق بسياسة الدبلوماسية الملكية، يقول معتضد إنه "منذ تسلم الملك محمد السادس مقاليد الحكم فقد حظيت كل من الجزائر، إسبانيا وموريتانيا، باهتمام إستراتجي داخل منظور الدبلوماسية الملكية، التي عملت بكل واقعية في تدبيرها للعلاقات الدبلوماسية للمغرب مع دول الجوار". "وإذا كان الملك الراحل الحسن الثاني كان يعتمد على البعد السسيوثقافي والسياسي في تدبيره للدبلوماسية الملكية، وذلك نظرا للظرفية والتحديات التي ميزت مرحلته، فإن الملك محمد السادس حافظ على الثوابت في تأطيره للدبلوماسية الملكية، ولكن بأسلوب ونهج مختلفين يأخذان بعين الاعتبار التحديات الراهنة والمصالح الإستراتجية للمغرب"، يقول معتضد. وختم الأستاذ الباحث تصريحه بالقول إن "الملك محمدا السادس قاد منذ السنوات الأولى للحكم الدبلوماسية الملكية بثقافة تؤمن بالدفع بعجلة التنمية الاقتصادية والتكامل التجاري، من أجل تحسين المستوى الاجتماعي للفضاء المشترك".