صدر، مؤخراً، مؤلف جديد لعزيز مولاي إدريس، وهو باحث وممارس في ميدان الرقابة المالية، بعنوان "الشراكة بين الأجهزة العمومية والجمعيات.. من الدعم إلى تفويض المرفق العمومي" باللغة الفرنسية، رصد فيه سيرورة تطور العلاقات التعاقدية بين منظمات المجتمع المدني والأجهزة العمومية في المغرب والاختلالات التي تشوبها. وتضمّن الكتاب المقسم إلى ستة أبواب؛ منها الإطار القانوني للشراكة بين الدولة والمجتمع المدني، مروراً بالنماذج المعروفة عالمياً، إضافة إلى أشكال الدعم المالي الذي تستفيده من الجمعيات وأوجه القصور في هذا الصدد. وصاحِبُ الكتاب، الصادر عن دار السلام بالرباط في 218 صفحة، مراكمٌ لتجربة تبلغ 20 عاماً في ميدان مراقبة التسيير وتدقيق الحسابات وتقييم المشاريع والسياسات العمومية. وقد تابع إدريس، الباحث المتخصص في أنظمة شفافية ومساءلة المنظمات غير الحكومية، تكوينات أكاديمية عدة بفرنسا وبالولايات المتحدةالأمريكية بخصوص تدبير المنظمات غير الربحية، وأمضى تداريب مهنية داخل منظمات دولية معروفة. كما أن صاحب الكتاب حاصل على دبلوم التدقيق ومراقبة التسيير من ISCAE وعلى الإجازة في القانون الخاص من جامعة محمد الخامس بالرباط، وخريج معهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة، وخريج برنامج Humphery Fulbright الذي تنظمه وزارة الخارجية الأمريكية. في هذا الحوار، سنحاول التطرق لمضامين هذا المؤلف، وقراءة صاحبه لتطور النسيج الجمعوي في المغرب، وما يمثل ذلك من رأسمال بشري يساهم في تعزيز وتسهيل المشاركة الشعبية في تدبير الشأن العام. منذ بداية التسعينات صار للمجتمع المدني وزن مهم في المشهد المؤسساتي الوطني، كيف ترصدون تطوره؟ في بداية الجواب على سؤالكم، تجدر الإشارة إلى أن ما عرفه ويعرفه المجتمع المدني المغربي من تحولات ليس استثناء، ويأتي في سياق دولي يصفه بعض الباحثين الدوليين ب"الثورة الجمعوية الكونية" (global associational revolution) أمْلَتها التقاربات المتزايدة بين التشريعات الوطنية ومخرجات ترافعات الشبكات الجمعوية الدولية وتوصيات المنظمات الدولية الكبرى التي تدفع نحو ترسيخ الحريات العامة وتسهيل المشاركة الشعبية في تدبير الشأن العام كرافعتين للتقدم والنمو. وبالإضافة إلى هذا العامل الدولي، لا يمكن هنا إلا أن نسجل الأثر الحاسم لمسلسل الانتقال الديمقراطي في المغرب على تطور المجتمع المدني به، والذي ابتدأ مع حكومة التناوب واستمر طيلة العشريتين الأخيرتين؛ فتوسعت أدوار ومساحة اشتغال الجمعيات في المغرب مرآة للديناميات الداخلية المستمرة التي تعرفها الدولة وكذلك انعكاسا لإعادة توزيع مراكز السلط والسلط المضادة، وكذا إعادة تعريف مصادر الشرعية والتمثيلية ومحدداتها في مشهد سوسيو-سياسي متحول. وتبدو جلياً مظاهر التطور التي تطبع المجتمع المدني المغربي على عدة مستويات؛ أولها انتزاعه الاعتراف بشرعيته ومصداقيته واستطاعته الخروج تدريجياً من جلباب التنظيمات الحزبية الموازية إلى حلة المنظمات المستقلة المحترفة العصرية المستمدة مشروعيتها ليس فقط من الإيديولوجية ومن عدالة القضايا التي تدافع عنها، ولكن أيضا من قدراتها التنظيمية والإنتاجية والقيمة المضافة الحقيقية لعملها، سواء بشكل مستقل أو بشراكة مع القطاع العام. وهذا لم يكن ممكناً لولا بروز نخب جديدة واستقطاب قوى جمعوية غير تقليدية. وعلى مستوى أدوار الجمعيات، نسجل أنه بالإضافة إلى تنوع مجالات اشتغالها التي ما فتئت تتوسع، أصبحت تتدخل في الشأن العام ليس فقط بالتعبير عن احتياجات اقتصادية واجتماعية وثقافية جديدة، ولكن بالمشاركة أيضاً في صياغة السياسات العمومية والاستجابة لها والمشاركة في تنزيلها وتقييمها (Associations initiatrices et réalisatrices). فالجمعيات لم تعد تكتفي بتلقي ما يُفوض لها من مهام أو ما "يُنقل" لها من صلاحيات، ولكن أصبحت مصدراً أساسياً لصنع قرار الفعل العمومي. وعلى صعيد التوزيع الجغرافي، يسجل أيضاً أن المجتمع المدني المغربي بدأ يتخلص تدريجياً من طابعه الحضري، حيث نلاحظ بداية تصحيح التوزيع الجغرافي اللاتعادلي للجمعيات على التراب الوطني، وهو ما يعني أن الحاجة للتنمية المحلية تجد صدى لها لدى النخب المحلية التي يبدو أنها تنخرط في العمل الجمعوي أكثر من انخراطها في العمل السياسي. في نفس السياق، ما السر في الازدياد اللافت لعدد الجمعيات؟ وهل هو ظاهرة صحية؟ يجمع الباحثون (بيير كالتنباخ على سبيل المثال) على أن هناك علاقة جدلية بين تطور النظم السياسية للدول وبنائها والتطور الديموغرافي ووظائف الجمعيات بها. فموجات تكوين الجمعيات في بلد ما مشروطة ومتأثرة وأحيانًا ناشئة عن سياسات الدولة؛ فعلى سبيل المثال، التزايد السكاني المفرط وفترات الانتقال الديمقراطي وتطور اللامركزية واللاتمركز والإصلاحات العميقة في السياسات الصحية والتعليمية والثقافية (فضلاً عن مشاريع التنمية الكبرى)، تؤثر بشكل كبير على القطاع التطوعي. فهي تؤدي إلى موجات من تأسيس الجمعيات وإلى تغييرات عميقة في الوسط الجمعوي، وإلى بروز علاقات جديدة له مع الإدارة. وفي هذا الصدد، يرجع التطور الملحوظ لعدد الجمعيات في المغرب إلى تحولات عميقة تعرفها الدولة المغربية وإلى السياسات العمومية في القطاعات الحيوية التي بدأت تترك هامشاً مهماً من المشاركة للمكونات المجتمعية غير السياسية. وهنا، لا يمكن إنكار الأثر الذي أحدثه إطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية (في نسختها الأولى خصوصاً)، كمشروع دولة، على وتيرة تأسيس الجمعيات بالمغرب بالنظر لتخصيص نموذج حكامة المبادرة لأدوار محورية للجمعيات وطنياً وجهوياً ومحلياً، سواء تعلق الأمر باختيار المشاريع المدعمة أو تنزيلها أو تقييمها. أما بخصوص الشق الثاني من سؤالكم (ظاهرة صحية أم لا؟)، يتوقف الجواب الدقيق عليه على بعض المعطيات المتعلقة بالبنية العامة للقطاع وبعدد الجمعيات النشيطة (نسبة إلى عددها الإجمالي)، وبمدى قربها عضوياً ومالياً من الأجهزة العمومية، وبماهية قدراتها التنظيمية والإنتاجية الحقيقية وقدرتها على تعبئة الموارد الخاصة والطاقات المجتمعية وبمنظومة حكامتها... إلخ. فصراحة، لا نملك من المؤشرات ما يكفي للجزم بأن الأجهزة العمومية قامت بتثمين الوظائف الإنتاجية والترافعية والتعبيرية للكم الهائل من الجمعيات التي تم تأسيسها في منظومة التدبير العمومي. لكن، دعني أقول إنه من الناحية المبدئية، فالتزايد الملحوظ في ديموغرافية الجمعيات لا يمكن إلا أن يكون صحياً على بناء الدولة العصرية، وذلك بالنظر إلى أن الروابط التشبيكية الجمعوية تشكل أهم روافد الرأسمال اللامادي. كما أنه، بغض النظر عن إسهامها المباشر في تسيير الشأن العام، يبقى للجمعيات أدوار غير مباشرة لا تقل أهمية، من قبيل تكوين المواطنين وتشجيعهم على المرور من الالتزام المدني إلى الانخراط السياسي وعلى الاندماج في الأوجه الأخرى للحياة العامة والمساهمة في تطعيم النقاش السياسي بالأفكار والمشاريع. عرف الإطار القانوني للشراكة بين الدولة والجمعيات تطوراً على مر السنين، البعض يقول إنه بحاجة إلى التحيين اليوم، هل توافقون هذا الرأي؟ من نافل القول (وهذا صحيح إلى أبعد حد) إن القطاع الجمعوي المغربي يستفيد حالياً من مناخ سياسي عام ومن منظومة قانونية تمكنه من المشاركة الواسعة في الحياة العامة. فالدستور (الفصول 6 و12 و26 و29 و33) يضمن حرية تأسيس الجمعيات ومشاركة المواطنين في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية. وفي إطار الديمقراطية التشاركية، يضمن القانون الأسمى للجمعيات المهتمة بالشأن العام إمكانية المشاركة في صياغة وتنزيل وتقييم القرار العمومي ومشاريع المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية. كما أن القوانين التنظيمية للجماعات الترابية وظهير 1958 المنظم لحق تأسيس الجمعيات ومجموعة من النصوص الأخرى تضمن للجمعيات حق الحصول على الدعم العمومي والاستفادة من عقود الطلبيات العمومية وعقود التدبير المفوض وعقود الشراكة عام/خاص. ويمكن الجزم بأن المنظومة الحالية لا تشكل البتة عائقاً أمام الاستفادة من المجتمع المدني في تطوير أداء القطاع العام. بطبيعة الحال، يجب تحيين بعض المقتضيات القانونية وتدارك بعض النواقص في التشريع الوطني المؤطر لعلاقة الأجهزة العمومية بالجمعيات، على الأقل تنزيلاً لما جاء من توصيات في مخرجات الحوار الوطني حول المجتمع المدني من قبيل: اعتماد النصوص المحدثة لسجل وطني للجمعيات (اقتداء بالعديد من الدول المتقدمة والنامية على حد سواء). رفع اللبس القانوني عن مفهوم الدعم العمومي. تعميم إلزامية التعاقد عند منح الدعم المالي للجمعيات والرقي بها من مستوى دورية للوزير الأول (دورية سنة 2003) إلى المستوى التشريعي (كما هو الشأن في فرنسا وإسبانيا مثلا). إصدار قرار الوزير المكلف بالمالية المنظم لكيفيات إدلاء الجمعيات الممنوحة بحسابات استعمال الأموال العمومية للمحاكم المالية. تحيين النص المنظم للالتزامات المحاسبية للجمعيات الممنوحة (قرار وزير المالية لسنة 1959). في نظركم، لماذا يلجأ المدبرون العموميون إلى عقد شراكات مع الجمعيات؟ يفترض في أي جهاز عمومي يفكر في عقد شراكة مع جمعية ما أن يضع نصب عينيه الاستفادة من واحدة من الوظائف التي تنهض بها الجمعيات لتحقيق مكاسب على مستوى "أدائه" في إطار السعي لإحداث أثر محدد مسبقًا ومتفق عليه. وهنا يجب أن تتوفر لدى المُدبر العمومي كافة المعلومات عن قدرات الشريك الجمعوي على أداء وظيفته التي تكون وجوباً إما: وظيفة تعزيز المشاركة المدنية والسياسية. وظيفة إنتاجية (تلبية حاجيات المواطنين التي لا تقوم الدولة ولا السوق بتلبيتها أو تفعل ذلك ولكن بشكل غير كاف). وظيفة تعبيرية أو ترافعية. وظيفة تنمية المبادرة والمقاولة الاجتماعية (Social entrepreneurship). وبهذا المعنى، يمكن للجمعيات أن تكون امتداداً عضوياً (افتراضيا) للسلطة العمومية في إطار نظرية الوكالة (théorie d'agence)، حيث يكون الجهاز العمومي هو الفاعل الرئيس (le principal) الذي يرسم حدود الفعل العمومي والجمعية هي العميل (l'agent) الذي ينفذه تحت رقابة ومسؤولية الفاعل العمومي. هذا من الناحية النظرية، أما من الناحية العملية، في نظري، يلجأ غالباً المدبر العمومي المغربي (كما في دول أخرى) للجمعيات لأسباب تدبيرية محضة تتمثل في البحث عن مرونة التدبير شبه العمومي (gestion para-administrative)، حيث يشكل اللجوء إلى الجمعيات الطريق السهل لتفادي الإطار المعقد أحياناً لتنفيذ النفقات العمومية (نظام المحاسبة العمومية، مرسوم الصفقات العمومية، الوظيفة العمومية، نظام المسؤولية والمحاسبة المفروض من خلال صناديق الاقتراع...إلخ). دون أن ننسى أن الاهتمام المتنامي لدى المدبرين العموميين للشراكات مع الجمعيات يأتي في سياق عام يتسم باهتمام الإدارة المتزايد بالنجاعة الاقتصادية لأنشطتها، لا سيما من خلال تنويع الأدوات التعاقدية لتحقيق "ربح أفضل". فيلجأ مُدبر الشأن العام للشريك الجمعوي متى كان ذلك ضامناً للمردودية وحسن الأداء والفعالية الاقتصادية، خصوصاً إذا تعلق الأمر بشراكة موضوعها تدبير مرفق عمومي أو منشأة أو طلبية عمومية. في ظل الإطار القانوني الذي تفضلتم برسم حدوده، وبالنظر إلى أسباب لجوء المدبرين العموميين لعقد شراكات مع الجمعيات، ما هي الأشكال والوسائل القانونية لتدخل الجمعيات في التدبير العمومي؟ رغم أن الحصول على تمويل عمومي (في إطار منحة مالية عمومية) بموجب اتفاق شراكة يظل الشكل التعاقدي السائد بين الأجهزة العمومية والجمعيات، إلا أنه يلاحظ تطور مضطرد لمشاركة الجمعيات في تسيير المرافق العمومية (توزيع الماء الصالح للشرب، تسيير مؤسسات التكوين، تسيير مراكز تصفية الكلى، تسيير المرافق والمنشآت الرياضية... إلخ) في إطار عقود أخرى. فعموماً، ينبغي التمييز بين ثلاثة أشكال لتدخل الجمعيات في تدبير الشأن العام: - التدخل في صياغة القرار (وبالتالي الفعل) العمومي بالوسائل التشاركية والترافعية، وهنا في الغالب الأعم لا تكون العلاقة تعاقدية. - التدخل غير المباشر عند الاستفادة من الدعم العمومي (منحة مالية أو مساعدة عينية أو وضع رهن الإشارة...إلخ) تمويلا لعمل أو نشاط يكتسي طابع المنفعة العامة ويشكل تحقيقه تقاطعا مع مهام الجهاز العمومي المانح وأهدافه المُؤسِسة وامتدادا طبيعيا للفعل العمومي. وينتج عن ذلك التعبير عن التزامات تعاقدية في اتفاقية شراكة أو تعاون. - التدخل المباشر (العلاقة التعاقدية المباشرة) عبر المشاركة الفعلية في تسيير مرفق عمومي أو منشأة مرتبطة بسير مرفق عمومي أو تمويل مشروع عمومي أو الاستجابة لطلبية عمومية. ويترجم هذا النوع من العلاقات في شكل عقد تدبير مفوض أو صفقة عمومية أو عقد شراكة عام/خاص. ما هي أبرز النماذج في العالم للشراكة بين الدولة والجمعيات؟ وهل يمكن الحديث عن نموذج مغربي في هذا الشأن؟ طبيعة الشراكة بين الدولة (في مفهومها الواسع) والجمعيات ومحدداتها ما هي إلا محصلة ونتيجة لعاملين: أولاً، التطور السياسي للبلد وتجذر الحركات الاجتماعية فيه وعلاقتها بالسلطة المركزية (حيث تشكل الجمعيات الامتداد العصري للحركات الاجتماعية التقليدية)، وثانياً التصور العام للمرفق العمومي وللخدمات الاجتماعية ومستوى النفقات العمومية المتعلقة بها من المنتوج الداخلي الخام التي تعطي فكرة عن حجم المال العام المحتمل تحويله بشكل مباشر أو غير مباشر للقطاع الجمعوي. فبالنظر إلى هذين العاملين، تبرز مجموعة من النماذج على الصعيد الدولي: - النموذج الأمريكي: يجد هذا النموذج جذوره التاريخية في نشأة الدولة الأمريكية وفي التقاليد "البوريتانية" المتميزة بسمو استقلالية الفرد (Self help)، فهو النموذج الذي يتميز بأكبر استقلالية للجمعيات عن الدولة وبضعف التمويل العمومي مقارنة مع تبرعات الخواص ومع ما تقدمه المؤسسات الكبرى من قبيل "Gates" و"Ford" و"Getty". - النموذج الأنكلوساكسوني الأوروبي (إنكلترا وإيرلندا): يشبه هذا النموذج إلى حد ما النموذج الأمريكي لكنه تمايز عنه في العشريتين الأخيرتين، خصوصا مع اعتماد سياسة "Big society" التي جاء بها جيمس كامرون، والتي رفعت من حجم الشراكات مع الجمعيات ومن تمويلها العمومي الذي يبقى دائما تعاقديا وفي إطار طلبات عروض تنافسية. - النموذج القاري (ألمانياهولندا وبلجيكا): في هذا النموذج، الشراكة بين الدولة والجمعيات قديمة ومستدامة وتجد أصلها في المقاربة الاجتماعية البيسماركية للدولة القوية. وهو يندرج في إطار تنظيم سياسي وإداري غير ممركز لا تتدخل فيه الدولة في سير مرفق عمومي تربوي أو ثقافي أو اجتماعي متى كانت هناك مؤسسة قرب قد تقوم بتسييره. في هذا النموذج، التمويل العمومي القادم من الدولة ومن الجهات ومن مؤسسات الائتمان الاجتماعي هو الأكبر على الاطلاق، حيث لا تنتج الدولة وباقي الأجهزة العمومية الخدمات ولكن تمولها بشكل شبه كلي. - النموذج السوسيو-ديموقراطي الاسكندنافي (السويد والنرويج والدانمارك وفنلندا): يعتبر هذا النموذج الأقل تطورا بالنظر إلى كون الدولة تبقى المتدخل الأول والأخير في الخدمات التربوية والتعليمية والصحية والاجتماعية. التمويل العمومي للجمعيات في الدول الاسكندنافية ضئيل وتعتمد الجمعيات القليلة الرياضية والثقافية حصريا على مساهمات منخرطيها. - النموذج المتوسطي (إسبانيا إيطاليا والبرتغال): يرتبط القطاع الجمعوي في ظل هذا النموذج بالعلاقة التقليدية التاريخية مع الكنيسة الكاثوليكية، حيث ما زالت العديد من الجمعيات الفاعلة والمؤثرة التي تنشط في تدبير المستشفيات والمدارس والمؤسسات الخيرية مرتبطة بالكنيسة. - النموذج الشرقي (هنغاريا ورومانيا والتشيك): يتميز هذا النموذج بضعف الانخراط المدني التطوعي للمواطنين وضآلة التمويل العمومي للجمعيات، وذلك راجع للتضييق على الحريات الذي مورس في المعسكر الشرقي خلال فترة طويلة من القرن الماضي. أما بخصوص الحالة المغربية، أعتقد أنه لا يمكن الحديث عن نموذج مغربي قائم الذات، ولكن يمكن أن نعتبر علاقة الجمعيات بالقطاع العمومي مزيجاً من النموذجين الشرقي والقاري (البيسماركي)، وذلك لعدة اعتبارات منها: الارتباط العضوي الظاهر للجمعيات بالأجهزة العمومية. تأثر القطاع الجمعوي بالسياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المعتمدة من قبل الدولة. اعتماد الجمعيات شبه الكلي على التمويل العمومي (على ضعفه). توقف تطور النسيج الجمعوي نفسه على القدرات التمويلية العمومية الوطنية والمحلية. سيادة التمويل العمومي التقليدي على شكل منح مالية وغياب طلبات العروض وسندات شراء الخدمات من الجمعيات (Vouchers). ما هي الاختلالات التي رصدتموها في علاقة الأجهزة العمومية مع الجمعيات؟ في رأيي، إن ما يشوب علاقة الأجهزة العمومية بالجمعيات من نواقص مرده إلى التحولات السريعة التي عرفها المغرب، والتي لم تترك الوقت الكافي للقطاع العام لتطوير تقاليد مؤسسية لإدماج الجمعيات في تسيير الشأن العام. فكما لم تفتر المحاكم المالية عن تسجيل ذلك في تقاريرها السنوية منذ سنة 2005، وما جاء من تشخيص في أوراق الحوار الوطني حول المجتمع المدني، ما زالت علاقات الأجهزة العمومية بالجمعيات مطبوعة بمجموعة من الاختلالات التي لا يستقيم المقام للتفصيل فيها ولكن نجملها في: عدم توفر أغلب الأجهزة العمومية على رؤية للتعامل مع الجمعيات. اعتبار الشراكة مع الجمعيات هدفاً في حد ذاته عوض أن تكون رافعة لبلوغ أهداف الأجهزة المانحة. عدم التحكم في مسلسل إعطاء الدعم عبر مساطر واضحة وتنافسية. عدم إضفاء الطابع التعاقدي الصارم على علاقة الأجهزة العمومية مع الجمعيات وعدم اعتماد دفاتر تحملات ملزمة للشركاء الجمعويين. عدم الفصل (أحيانا) بين الأشخاص المعنويين العموميين والجمعيات، وتداخل المهام بينهما. الغياب المزمن والمقلق لمراقبة المانحين العموميين البعدية لاستخدام المال العمومي من قبل الجمعيات، وذلك إعمالا إما للمقتضيات القانونية الواردة في ظهير 1958 أو في الاتفاقيات المبرمة مع الجمعيات أو لتوصيات تقارير المحاكم المالية. الصعوبات في ترجمة الشراكات على أرض الواقع وتحقيق أهدافها المعلنة، خصوصاً حين يتعلق الأمر بتمويل وتسيير مشروع أو مرفق أو منشأة، وذلك بسبب نقص القدرات المهنية لدى بعض الشركاء الجمعويين. ما هي خلاصات دراستكم للعلاقات التعاقدية بين الإدارة العمومية والمنظمات الجمعوية؟ لقد تناولنا بالدرس العلاقات التعاقدية بين الشخصيات الاعتبارية العامة والجمعيات، طبيعتها وميادينها ووسائلها القانونية وظروف تنزيلها على أرض الواقع على ضوء ما ينشره المجلس الأعلى للحسابات من تقارير، وقد خلصنا إلى ما يلي: يجب التأكيد، قبل كل شيء، على وجود هوامش مهمة جداً من التقدم والتطور في بناء شراكات قطاعية بين الإدارة العمومية والجمعيات لتنزيل المقتضيات الدستورية وروحها في ما يخص المشاركة الشعبية في التشريع وفي صياغة وتنزيل السياسات العمومية وتقييمها، وكذا للاستفادة من الإمكانيات الإنتاجية والوظائف التعبيرية والترافعية التي يوفرها القطاع الجمعوي. كما ينبغي العمل بشكل أفقي على التحكم الاستراتيجي في طبيعة وحجم التمويل العمومي للجمعيات وعدم جعله هدفاً في حد ذاته ولكن وسيلة لتحسين أداء الأجهزة العمومية اقتصادياً، وتحقيق أهدافها، وتجويد تدبير المرفق العام، وهو ما لن يتأتى إلا بربط الشراكات إلزاماً بالتقاطع في المهام والرؤى والمصالح بين الشركاء العموميين والجمعويين. وأخيرا، تبرز جلياً الحاجة المستعجلة إلى الصرامة في تطبيق المقتضيات القانونية المنظمة لاستفادة الجمعيات من التمويل العمومي، خصوصاً ما تعلق منها بضمان استقلالية الجمعيات عن الأجهزة العمومية وشفافية مساطر تمويلها ونجاعة وفعالية مراقبة استخدامها للأموال العمومية.