منذ عام 1997 حمَلَ متحف التراث الثقافي اليهودي على عاتقه مسؤولية الحفاظ على ذاكرة الرافد اليهودي في الشخصية الثقافية التاريخية للمملكة، بعدما أسّسه سيرج بيرديغو، أمين عام مجلس الطوائف اليهودية المغربية، والراحلون شمعون ليفي وبوريس طوليدانو وجاك طوليدانو. وساهم المتحف اليهودي ومؤسسة التراث الثقافي اليهودي في التعريف بمجموعة من الأعياد اليهودية المغربية، وعلى رأسها عيد "الميمونة" الذي جمع المسلمين واليهود بالمغرب، على وجه الخصوص، منذ قرون، قبل أن ينتقل لمختلف بقاع العالم التي حطّ بها الرِّحَال مغاربة ذوو إرث عبري. جريدة هسبريس الإلكترونية التقت بزهور رحيحيل، محافظة متحف التراث الثقافي اليهودي، وطرحت عليها أسئلة حول مقاصد إنشاء المتحف اليهودي بالدارالبيضاء، وأدواره، ومساهمته في التعريف بالتراث اليهودي المغربي. ما مقصد إنشاء متحف التراث الثقافي اليهودي؟ إحداث المتحف اليهودي جاء في سياق تاريخي هو أواخر التسعينيات، حيث بدأت عملية إنشاء مجموعة من المتاحف التي تهتمّ بالإرث والتراث والثقافة اليهودية في العالم بأسره، فعرفت أوروبا افتتاح مجموعة من المتاحف اليهودية مثل متحف التاريخ والفن اليهودي بباريس الذي فُتِحَ بفرنسا في سنة 1997، بمعنى أنه رأى النور في نفس سنة افتتاح متحف التراث الثقافي اليهودي المغربي بالدارالبيضاء. وجاء هذا المتحف في إطار اهتمام عالمي بالإرث اليهودي، و- بالنسبة - للمغاربة اليهود في ذلك الوقت، أخذ أربعة من مسؤولي الجماعة اليهودية المغربية، أو ما يسمّى مجلس الجماعات اليهودية المغربية، وهم المرحوم شمعون ليفي وسيرج بيرديغو وجاك طوليدانو وبوريس طوليدانو، بادرة ليكون عندنا متحف خاص بالثقافة والتراث اليهودي المغربي. وجاءت هذه البادرة حتى لا ينسى المغرب يهودَه، وحتى يتذكّر المغاربة المسلمون دائما أن للمغرب مكوِّنا ورافدا عبريا يهوديا هو من المكوِّنات الأساسية في الحضارة والثقافة المتعدِّدَة للبلاد. ونعرف أن تصدير دستور المملكة المغربية الفريد من نوعه ليس فقط في العالم العربي والإسلامي في 2011 يذكِّر بهذا الأمر، وهو ما يشتغل عليه اليوم العراقيون والتونسيون محاولة منهم أن يكون نموذجا لهم يأخذون منه بعض الأشياء. هذا الدستور يذكّرنا بأن الأغلبية مسلمة في البلاد، ولكننا لا يجب أن ننسى أن هويتنا الثقافية كمغاربة هي هوية متعدّدة الروافد؛ فنحن أمازيغ، وعربٌ، ومسلمون، ويهود، وأفارقة، ولنا تراثٌ صحراوي حسّاني، وتراث أندلسي، ومتوسطي، وهو ما يعطينا غنى كبيرا، ونوعا من الافتخار بهويتنا التي لها مجموعة من الخصوصيات، وتجعل لنا كمغاربة نوعا من الخصوصية. ما آثار تأسيس المتحف في مرحلة ما قبل 2011؟ قبل عام 1997، لم يكن هناك نقاش -عام-، وكان هناك فقط نقاش بين باحثين ومؤرّخين قلائل تطرّقوا لما يسمّى بالمسألة اليهودية؛ ولكن مع إحداث متحف التراث الثقافي اليهودي المغربي بوصفه المؤسّسة التي أرست أُسُسَ النقاش في المغرب، وأعطتِ الناس اهتماما بالموروث الثقافي اليهودي؛ لأننا أحدثنا لجميع الطلبة والباحثين سواء في المغرب وخارجه، مؤسّسة تعتَبَر مكانا خاصا للتراث اليهودي، وكلّ من يبحث فيه أصبح يتّجه إلى المتحف. هذا المتحف فضاء فيه لقاءات بين الباحثين، وبين الطلبة المغاربة، وبين الطلبة الأجانب، وجميع المهتمّين بالمسألة اليهودية المغربية؛ فأوّل مؤسّسة فتحت الباب للنقاش في ما يخصّ "التراث اليهودي" أو "الموروث اليهودي" أو "الموروث العبري المغربي" أو "المسألة اليهودية" هو متحف التراث الثقافي اليهودي المغربي، لأنه قبل 1997 لم تكن هناك.. كانت هناك حتى صعوبة في البحث بالنسبة للمغاربة داخل بلدهم. كان من الصعب أن تقوم بدراسة ميدانية إثنوغرافية، وهو ما عانيته عندما كنت طالبة أعِدُّ بحثي حول اليهودية المغربية وبدأته في السنوات المتراوحة بين 1991 و1995، وكانت هناك صعوبة.. ولكن بإحداث المتحف أصبح هو المؤسّسة التي تستقبل كل من يريد أن يعدّ بحثا ما حول المسألة اليهودية، فنسهّل اتّصالات الطلبة والباحثين والمهتمّين. وأصبح هناك اهتمام كبير، كما لاحظتَ، من طرف الناس، ومن طرف وسائل الإعلام، ومن طرف الجامعات والكليات، والمجتمع المدني، والجمعيات.. والكل.. وأقول إن الفضل يعود في هذا إلى مؤسّسة التراث الثقافي اليهودي المغربي، لأننا منذ 1997 إلى اليوم نظّمنا مجموعة من اللقاءات، وكانت هناك نقاشات حول كتب تتطرّق للمسألة اليهودية المغربية، وعرضنا مجموعة من الأفلام الوثائقية حول تاريخ اليهود المغاربة.. ما أنشطة المتحف التي تعرّف بالرافد اليهودي في الهوية المغربية؟ من بين الأنشطة التي نظّمناها وأضحت تقليدا منذ السنة الأولى لتأسيس المتحف، الاحتفال ب"الميمونة"، لأننا أردنا التذكير بأن هناك مجموعة من الأشياء في عاداتنا وتقاليدنا، بين المغاربة جميعهم، تربط المسلمين واليهود، فهناك أشياء تجمعنا، وهناك أشياء متشابهة. مثلا، الميمونة احتفال فريد من نوعه في العالم، وهو عيد يهودي مغربي، أو يمكن أن أقول إنه عيد يهودي إسلامي مغربي يشتَرك فيه اليهود والمسلمون، وهو اليوم الأخير من عيد الفصح، ومنذ قرون في عادات وتقاليد المغاربة في الليلة الأخيرة من ذلك العيد اليهودي، يرحّب اليهودُ بأصحابِهم وجيرانهم المسلمين، فتكون مناسبة ليأتي المسلم ويشارك جاره أو صديقه اليهودي عيدا يهوديا، ولهذا العيد مجموعة من الطقوس، والأجيال السابقة التي هي أجيال أجدادنا وآبائنا تعرف ما هي "الميمونة"، بينما ليس للأجيال الصاعدة اليوم دراية به. إذن، للمتحف دور بيداغوجي، ودور تذكيري. هل يمكن تقديم نماذج عن عمل المتحف اليهودي بالدارالبيضاء داخل المغرب وخارجه؟ هناك الاحتفالات بأعياد مثل "بوريم"، و"حانوكا" التي عندما يحين وقتها ننظّم نشاطا تعريفيا بها داخل المتحف، وتأتي الأسر والعائلات اليهودية المغربية، ونستَدعي مغاربة مسلمين من أصدقاء المتحف، ونستدعي المدارس أيضا. في السنوات الأخيرة، تربط مجموعة من الإعداديات والثانويات والمدارس في الدارالبيضاء الاتصال بالمتحف من أجل إقامة معارض حول التراث اليهودي خارج المتحف، وهي عملية نقوم بها، بمعنى أن هناك معارضَ متنقّلة حول التراث اليهودي المغربي، تتنقّل بين المدارس والإعداديّات والثانويات، وقمنا بها في السنوات الماضية أيضا بين الكليات والجامعات المغربية. هذا يعني أن المتحف يخرج من جدرانه، ولسنا حبيسيه، وكل من يريد التعرف على الثقافة اليهودية للمغرب يأتي عندنا ونرحِّبُ به، وندخل في شراكات مع جميع المؤسّسات وجميع مكوِّنات المجتمع المدني في المغرب؛ بل أكثر من هذا، ننظّم متاحف حول التراث اليهودي، في مجموعة من الدول خارج المغرب. وتكون فرصة لربط اللقاء بجميع المغاربة سواء كانوا يهودا أو مسلمين في أوروبا، أو في العالم بأسره. في السنوات الأخيرة، يلاحِظ المتخصّصون زيادة في الاهتمام بالموروث الثقافي اليهودي المغربي، كيف تفسّرين ذلك؟ لأنه توجد وسائل للتعريف به، فتعرَّف الناس على هذا التراث لأن مؤسساتٍ ووسائلَ للتعريف قد أُحدِثَت، وهو ما يجب أن نشتغل عليه حتى نُعرِّفَ المغاربة كلَّهم بثقافتهم ومكوِّناتها، وليس فقط المكوِّن اليهودي، فبالنسبة لي على كل مغربي مسؤولية أخذ مبادرة للتعريف بتاريخ وثقافة بلده. للمتحَف دور بيداغوجي للتعريف بالتاريخ والثقافة.. وهو وسيلة تكمّل العمل البيداغوجي للمدرسة. كما لا يجب أن ننسى أن وسائل الإعلام المغربية لعبت دورا كبيرا في التعريف بالمكوِّن الثقافي، سواء التلفزة المغربية أو الراديو؛ فالتلفزة المغربية منذ التسعينيات كان تسجّل الموسم اليهودي أو ما يسمّى ب"الهيلولة"، وتعدّ روبورتاجات حوله، وكذلك تتنقّل التلفزة المغربية إلى البَيْعَة في عيد "كيبور" من أجل نقل مراسيم هذا الاحتفال. وفي إذاعة "ميد راديو" مثلا يوجد برنامج "ناس الملّاح" وهو موعد أسبوعي، وهو أول برنامج مخصّص للتعريف بالذاكرة اليهودية، والثقافة اليهودية، ونستضيف فيه مغاربة يهودا لنقول إن المغاربة اليهودَ لا يزالون يعيشون هنا، ولا تزال لهم أنشطتهم المهنية، ولا يزالون يحيون أعيادهم، ويمارسون دينهم، وهي تعدّدية يجب أن نبقى مؤمنين بها دائما كمغاربة، حتى نقول لبعضنا إن عندنا دائما تعدّدية في ثقافتنا وممارستنا الثقافية، وهذا غنى بالنسبة لنا، فإن تقبل الآخر أمر رائع ونوع من الانفتاح، ونوع من الاحترام له. وعندما نتكلّم عن اليهود في المجتمع المغربي فهم جزء منه، ومثلَهم مثل المغربي المسلم؛ لأنهم مغاربة، ولأن عمر اليهودية المغربية 3000 عام، فهي من أقدم الثقافات التي دعّمت الإرث الثقافي المغربي بصفة عامة، والحضارة المغربية.