علامات الإجهاد من العمل تبدو على تلك العرافة المقيمة بمدينة لوس إنجليس الأمريكية؛ فقد تجاوزت الساعة الثانية بعد الظهر، ولكنها لم تجد فسحة من الوقت لتعد وجبة الغداء، ولا حتى لأن تمسح الرماد المتناثر المتبقي من احتراق الشموع على المذبح الخاص بها، فقد غادر للتو أحد زبائنها منزلها ذي الطابق الواحد المشيد من الأخشاب الذي تتخذه مكانا للعمل، وذلك بعد جلسة اطلع خلالها على ما ينتظره في المستقبل من وقائع باستخدام أوراق اللعب، وهو منزل تميزه رائحة البخور التي ما تزال تملأ أرجاءه، ثم إن عليها أن تستقبل بعد ساعة زبونا آخرا يبذل جهدا خارقا لكي يستكمل أبحاثه لنيل درجة الدكتوراه. وفي الوقت نفسه يتعين عليها أن تكرس وقتا لكي تعد رسالتها الأسبوعية التي تنشرها على شبكة الإنترنت، ثم تمارس طقوسا للتطهير استعدادا لنشاط جديد لها، وبعد ذلك تجمل أظافرها استعدادا للظهور في برنامج لتليفزيون الواقع، على أن تقضي أية فترة متبقية من وقتها في الكتابة، حيث عليها أن تسلم المسودة الثانية من مذكراتها إلى الناشر في غضون أسبوع. وهذه العرافة التي تعرف باسم أماندا ييتس غارسيا كانت تعمل سابقا معلمة للفنون بعد أن حصلت على درجة أكاديمية عليا في فنون الكتابة والأفلام والنقد الأدبي من معهد كاليفورنيا للفنون، وظلت تتعيش خلال الأعوام الثمانية الماضية من العمل كساحرة محترفة، ويتمثل عملها في "العلاج بالطاقة"، وتنظيم "جلسات لتقوية خاصية الحدس"، مع جلسات من آن إلى آخر لطرد الأرواح الشريرة، كما تقوم بتدريس فنون السحر في ورش عمل على موقع إلكتروني وأيضا في منزلها. وتعي هذه العرافة قيمة التسويق جيدا، ولذلك فهي تكرس عدة ساعات كل أسبوع للوصول إلى زبائن جدد، حيث تدون رسائل إخبارية وتحدث موقعها الإلكتروني، وترسل نصائح على مواقع التواصل الاجتماعي حول موضوعات مثل كيفية وقف تأثير اللعنة التي تصيب شخصا ما باستخدام "الطاقة السلبية المنبعثة من خسوف القمر". وتقول أماندا غارسيا: "إذا كنت تعتقد أن عمل الساحرة يتمثل في مجرد الجلوس وعمل تعاويذ وتمائم طوال الوقت، فقد جانبك الصواب، فنصف عملي ينشر على موقع إنستغرام". ولكن ماذا يدور بخلدك عندما تسمع كلمة "ساحرة"؟ هل تتخيل قبعة سوداء مدببة؟ أم تسترجع "محاكمات سالم" للأشخاص المتهمين بممارسة السحر في ماساتشوستس عام 1692، التي أسفرت عن إعدام 20 شخصا معظمهم من النساء؟ أم أعضاء الديانة الوثنية الممزوجة بالسحر التي يطلق عليها ويكا؟ ليست تلك على الإطلاق هي صور ساحرات اليوم اللواتي تتزايد شهرتهن بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، واللواتي يعتبرن أنفسهن عاملات في مجال العلاج، فهن يساعدن الزبائن الذين يناضلون من أجل التغلب على عقبات الحياة ومصاعبها ومشاعر الإحباط العاطفي أو التقدم في العمر أو كراهية النساء، أو على ما يتعرضون له من ضغوط العمل، أو الذين يجدون أن العلاجات الأخرى الشائعة من الناحية الثقافية مثل جلسات التأمل والتأهيل والدعم النفسي ليست كافية. وتسعى الساحرات الجدد إلى مساعدتك على أن تكون في أفضل صورة ممكنة لك، أو كما تقول غارسيا: "إن إسهاماتي تتمثل في زراعة الجمال والحب في قلوب زبائني ومساعدتهم على النجاح في الحياة". ولا توجد قائمة رسمية تحدد وظائف الساحرات، كما أنهن لا يملكن تصاريح رسمية بمزاولة العمل تشير إلى المتطلبات التعليمية والتدريبية لمزاولتهن المهنة (مما يعني أن الزبائن الذين يذهبون إليهن يتحملون المسؤولية)، وتتنوع الخدمات المقدمة ما بين عقد جلسات للعلاج بالأعشاب، وتقديم تمائم تجلب الحب، والاتصال بعالم الأرواح للحصول على الإرشادات. وتتقاضى بعض الساحرات مبلغ 200 دولار عن كل جلسة تستغرق ساعة واحدة. وتصف الممثلة الكوميدية والكاتبة ساره بنينكاسا، بعد أن بدأت في حضور جلسات العرافة غارسيا في غشت من العام الماضي، هذه الجلسات بأنها تبدو "في بعض أجزائها مثل الدعم النفسي، وفي البعض الآخر مثل الطقوس الدينية". وتضيف: "أعتقد أنها تمارس نوعا من التدريب والتأهيل الروحي، ويمكنك أن تتوجه إليها بالطريقة نفسها التي تتوجه بها إلى رجل دين". وتسارع غارسيا إلى التنبيه إلى أنه "لا يجب على الناس أن يستخدموا السحر كطريقة للهروب من مشاكلهم، وأحيانا يكون تلقي المساعدة من طبيب أو من معالج نفسي أو إخصائي اجتماعي أو مستشار في الشؤون المالية هو ما يحتاجون إليه بالفعل". وليس كل هذا الحديث عن عمل الساحرات من الأمور الثانوية أو التافهة كما قد يعتقد البعض. فقد أشار استطلاع للرأي العام أجراه عام 2017 مركز "بيو" للأبحاث حول مدى انتشار معتقدات حركة "العصر الجديد" الروحية في الولاياتالمتحدة، إلى أن ما نسبته 40% من الذين أجابوا على أسئلة الاستطلاع قالوا إنهم يؤمنون بقدرات الوسيط الروحاني، كما تؤمن نسبة مماثلة بأن الأشياء الجامدة مثل الجبال والأشجار لديها قدرات روحية. كما أشار الاستطلاع إلى أن ما نسبته 33% من الأمريكيين يعتقدون بوجود تناسخ الأرواح، ويؤمن ما نسبته 29% بالتنجيم، بينما يقول 60% إنهم يؤمنون بمعتقد واحد على الأقل من معتقدات حركة "العصر الجديد". ويبدو أن الدلائل المرصودة تشير إلى تزايد عدد الأشخاص الذين يطلقون على أنفسهم وصف "ساحر". وتقول هيلين بيرجر، أستاذة بجامعة برانديس الأمريكية تدرس ظاهرة الساحرات وعبدة الأوثان طوال 30 عاما، إن "الاهتمام بالسحر يتزايد وينحسر من آن إلى آخر، غير أن مده بدأ يعلو مرة أخرى، خاصة بين الفتيات". وتم إصدار ستة كتب على الأقل عن فنون السحر خلال الأشهر الستة الماضية وحدها، كما دعت مجموعة من المتاحف ساحرات لإلقاء محاضرات وتنظيم ورش عمل في مقارها. وتزايد عدد الأماكن التي تباع فيها الكرات البلورية والشموع والبخور وغيرها من الأدوات المستخدمة في الأعمال المتعلقة بالسحر، وتطرح هذه الأدوات للبيع سواء في المتاجر أو على شبكة الإنترنت. كما ساعد موقع "إنستغرام" على نشر أعمال الساحرات. وتوضح سابينا ماجليوكو، متخصصة في أصل المجتمعات بجامعة "بريتش كولومبيا" في فانكوفر، أن تزايد الاهتمام بأعمال السحر والشعوذة ومعرفة الطالع، يعد استجابة طبيعية للتطورات الثقافية الحالية التي يشعر كثير من الناس في ظلها بالتهميش وبحرمانهم من التعبير عن آرائهم. كما توضح أن فقدان الإيمان بالمؤسسات، خاصة بالحكومة وبالديانة المنظمة، أدى إلى شعور شرائح واسعة من المجتمع بعدم التيقن وبأن العالم لم يعد له معنى. وتقول ماجليوكو إن "الدراسات بينت أن الأشخاص يتجهون إلى السحر والطقوس في المواقف التي يتعرضون فيها لضغوط عالية، وهذا يفسر العالم بالنسبة لكثير من الناس، كما أنهم يشعرون بالغضب إزاء أحوالهم ويفقدون السيطرة على أنفسهم". وظل "السحر" خلال فترات طويلة من التاريخ مرتبطا بالشر، خاصة بالنساء الشريرات، كما أدان العهد القديم الساحرات، وحظرت القوانين النرويجية والرومانية القديمة ممارسة السحر لتنفيذ أغراض شريرة. ومع ظهور الديانة المسيحية تم بقوة حظر ممارسة السحر، ويقدر المؤرخون أنه تمت محاكمة 50 ألف شخص على الأقل، سجن بعضهم وأعدم البعض الآخر، بتهمة ممارسة السحر في أوروبا الغربية في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وتبلغ نسبة النساء منهم 80%. بل إن الساحرات ما يزلن حتى اليوم يثرن الخوف والغضب. وترى الأستاذة بيرجر أن "إمكانية أن تتمتع الساحرات بقدرات ما تثير التوتر البالغ لدى الناس، حيث يعتقدون بأنه إذا كانت الساحرة لديها القدرة على العلاج، فإنها قد تمتلك أيضا القدرة على إلحاق الضرر". وتحب غارسيا عرافة لوس إنجليس أن تقول إن السحر لا يتعارض مع قوانين الفيزياء. وهي تقول لزبائنها إن السحر ما هو إلا أخذ الأفكار التي تدور في الأذهان بحيث نراها كحقيقة على أرض الواقع ونتعامل معها. وهي عادة ما تعطي زبائنها "واجبات" تتوقع أن يؤدوها بأنفسهم بعد ذلك. وتقول: "إذا أردت أن تبني بداخلك مزيدا من الثقة، فعليك أن تؤدي مهاما مثل الحصول على دورة دراسية في كيفية التحدث أمام الجمهور". وهي ترى أن "السحر والطقوس طريقة لتركيز الطاقة لدى الأفراد". *د.ب.أ