من مظاهر الاستبداد وتجلياته : الفخفخة الفارغة، والغَطْرسة الطاووسية الزاعقة، و الخيلاء المريضة، والتسلط المتورم والاعتساف، وتصديق النفس الجوفاء بأهميتها، ودورها التاريخي، والوجودي، والكوني، وحتى الميتافيزيقي !!. من هنا، يصطنع المستبد الشخصية الكاريزمية، ويضع قناع الرهبة والترهيب، ويُشَيّدُ من حوله طوابق من الكَارْتُونْ، مَحُوطًا، محتاطا من انكشاف أمره، وَبُدُوّ سَوْءَتِه، وانفضاح سر مسرحيته الهزلية، وتمثيليته المقززة والمنفرة، فيُجَيِّشُ الأتباع : الأخماس والأرباع الذين يمجدونه، ويمتدحونه، ويدبجون فيه الكلام المنمق والمزوق لعله يرضى. فهؤلاء الأذناب الخَنُوعون، الخاضعون هم من يصنع المستبدين، ويُزَيّنُون لهم أوهامهم، ومن ثم، يرسون أسس وآفة الاستبداد. ومن المفارقات العجيبة – الغريبة، أن المستبدين الصغار هم أشرس من المستبدين الكبار لأن وَضَاعَتَهم، وقماءتهم النفسية والأخلاقية والأدبية، وقلة ذات أياديهم، وضآلة مخزونهم، وزادهم المعرفي والتربوي والسلوكي، يزري بهم فيحط من أقدارهم –إذا كانت لهم أقدار أصلا- ما يدفعهم إلى تدبر سبل الإعلاء من شأنهم، فيتدثرون بوشاح الرهبنة والترهيب، ويقطعون كلامهم –المحنط الجاهز والبائت، بأجزاء وقبسات من القرآن والحديث، والفرنسية أحيانا، دعامة ورافعة لهم في أعين من ينظر ويُنْصِتُ إليهم، مسلما بفيض إيمانهم وخشوعهم، وخوفهم من يوم القيامة، والنفس اللوامة، واحتسابهم، وَقُنُوتهم – وهم فُسَّاق- وتوجسهم من الدار الأخرى. فحالهم مضحك، ومثير للشفقة، ومقزز من جهة ثانية، وباعث على الضحك المبكي، والبكاء المضحك. فإذا باشر المستبد تدبير ملف إداري / مصيري، دبر ملف نفسه، وعشيرته، وصاحبته التي تأويه، وسلالته، وأقاربه، وأحبابه، وذويه. وإذ تنتفخ الأوداج، وَيَتَبَلْوَنُ (من البالون) الخَدّان، وتعرق الصلعة، وَتَزْرَقُّ العروق، ويتفصد الجبين، وتنحل رابطة العنق، كأن صاحبنا به مَسُّ، أو تَنَزَّلَ عليه وَحْي، أو طاف به طائف، أو ألهمته ربات عبقر إلهاما، بينما العمل المنجز المخطوط أو المقلوم (كُتْبَ بالقلم)، أو المرقون المسطور بين دفتي الملف هو من صنيع مرؤوسيه، ومبؤوسيه، ومريديه وأتباعه بالبعبعة، والشعشعة، والدندنة، والطنطنة. وهكذا، يبصم بالسبابة والوسطى –عَفْوًا- يُوقِّعُ على المنجز، على خلاصة جهد، ومهد وعهد، مبتسما بل مختتلا حذر التلبس بِزَعْنَنَتِه، ومخافة ارتسام البهجة والنُّصْرَة والنضرة على محياه، منحنحا –أَيْ نَعَمْ- لِيُذَكِّرَ- من كان في حاجة إلى مُذَكِّرٍ- بحضرته المهيبة، وحضوره المشع الطاغي والأخطبوطي، ووجوده الأساس والمركزي.. وجوده المرْنان والريّانْ، ثم، كالفجاءة، أو كمثل مطر الرعود –يَقُومُ فَتُقَفْقِفُ الفرائص، وترتعد الرُّكَبُ، وتَرْتَعِبُ المفاصل والثنيات، وتَجِلُ القلوب والأفئدة، وتتمتم الشفاه، وتصطك الأسنان، وترتسم على الوجوه ابتسامات بلهاء، وانحناءات إذلال وسقوط، كل ذلك –والمستبد الذي مَامْنْهُ بُدٌّ- مُنْتَشٍ يطاول السقف والحذف، تُسَامِتُهُ الغطرسة، وتنتفض في دخيلته المنخوبة – الخيلاء، فيتحرك ذيله المزركش- قصدت : ساقيه المُزَغَّبَيْنِ المحشورين في سروال داكن، جزء من بدلة أنيقة منتقاة، يعلوه إبزيم كالحيزوم في صورة نسر ناشر جناحيه، يعلوه قميص حرير أبيض من غير سوء، تعلوه رقبة / عنق مدسوس مدكوك، مختصر كتلاوة القرآن على المقابر، وفي المآتم، يستوي فوقه رأس كصحن مُدَوَّر – مُكَوَّر، يَنْضَحُ أوامر، ويَرْشَحُ توجيهات ومواعظ، في وسط الرأس، عينان نَضَّاحِتان حمراوان من فرط الشد و الجذب والبصبصة، ترميان بشرر كأنه جمرات العدم؛ فإذا القوم وُقُوفٌ وَوُجُومٌ، وهمس وطمس، وهز وفز، وبسملة وحمدلة، وتهنئة، وتغذية راجعة، واصطفاف على جنبات المكتب، وإذا الزعيم المستبد يخطو نحو الباب حيث البواب، وحيث سيارة الدولة تَسْعَى، منتظرة تحت فيء شجرة، أو في حمى ظل سائل من أسقف وحيطان، سيارة رباعية الدفع، وقد تكون خماسية، فَقُصُوري، وقلة علمي فاقعان في هذا الميدان – تنتظر سعادته الفارع الفارغ كالقصب الخاوي، أو القصير الحسير كالنذير الساري، تتلمظ شوقا إلى معانقة عجيزته التي تشيع وتنشر في أنحاء وأصداء الرباعية الرونق والغرنق، ثم الضَّرْطَ، الضَّرْطَ حتى يكتمل البهاء.. وتتعطر الأبهاء. هي ذي –أكرمكم الله- بعض طبائع المستبد الذي يحيا بيننا –وقد نحيا بينه- والملاحظ أنه يتفوق على طبائع المستبد الذي عاش في عهد عبد الرحمن الكواكبي طيب الله ثراه. لَكِنْ كيف يتصرف المستبد الصغير القميء أو الوسيم بإزاء المستبد الكبير: المستبد الأعظم؟ وكيف يرى إليه هذا الأخير بحسبانه سيده، وولي نعمته، والمغدق عليه الأفضال والفضلات والأنفال؟ ألا يراه جرذا كأيتها جرذان، وحق التأليف والإبداع محفوظ لكبير الفلاسفة المشعككين : (من الشعكوكة)، والمتأملين الغوفاليين : (من الغوفالة) الزعيم المخلد في سلة الزبالة والنسيان المدعو معمر القذافي. أنا رأيت بأم عيني وأبيها، نماذج كذلك، وَخَبَرْتُ عَيّنَاتٍ هنا وهناك، تُسَبِّحُ بحمد المستبد الأكبر لأن حياتها من حياته، ووجودها بعضا من وجوده، واستمرارها من استمراره، وَقُوتَها من قُوتِه، عَنَيْتُ : سرقاتها من سرقاته، ونعمتها من نعمه، وفضلها من أفضاله، وذريتها الزرقاء من ذريته (أحيل هنا إلى الدم الأزرق، الدم النادر الموقوف على شريحة- أقلية مكنتها السماء من رقابنا وراثيا وسلاليا، فعلينا أن نُمَكّنَها مِنَّا إلى أبد الآبدين). لذلك، إذا تثاءب جفلوا، وانخلعوا، وإذا تَمَخَّطَ انكمشوا ومشوا وانقمعوا، وإذا هش انبطحوا وسارعوا، وإذا أومأ تشفعوا وتضلعوا، وإذا فرك اليدين بعبعوا، يحسبون كل صيحة عليهم وما أخطأوا، فإذا تناهت إليهم –ولو على بعد- نقضوا الوضوء وضرطوا. فسبحان الله، كيف يصير الآدمي مهملا كالدال، أي غُفْلاَ من النقطة والفطنة والكرامة، والكبرياء. وسبحانه، إذ سخر- منذ أشهر- ريحا عاتية لا تبقي ولا تذر أمثال هؤلاء الذين عطلوا التقدم والحركة والبركة، وسدوا الطريق في أوجه القامات، والطاقات، والمؤهلات، والإبداع والابتكار، ريحا تتمثل في جيش حي من الشباب مليء بالوعود والتباشير، والأمل الوضيء بغد سَانِحٍ، سَابِحٍ في الديمقراطية، والحرية والكرامة والعدل، ريحا لا أحسبها إلا ذات عنفوان.. لاقحة، مخصبة ومنتجة، وذات توهج مشتعل، وذات شعار واحد، وموحد، يروم –في الواقع- درء الفساد، وقطع دابره، بكل تمظهراته وتجلياته، وإحداها المستبدون كبارا كانوا أو صغارا، هؤلاء الذين أتيت على بعض طبائعهم، وخبائثهم، وَمَا وَفَيْتُ.