يذكر السادة علماء القرآن الكريم أن أول ما أنزل الله بالمدينة هو سورة المطففين التي مطلعها {ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون، ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين). أتذكر هذه الآيات الكريمة كلما رأيت وسمعت ما أصبح يعرف اليوم بسياسة الكيل بمكيالين، وأتعجب كيف أن أول خطوة تشريعية في مجال العلاقات والمعاملات وضعها الإسلام لمجتمعه في المدينةالمنورة، هي إبطال الكيل بمكيالين والوزن بميزانين، أو الكيل والوزن بطريقتين مختلفتين، كما كان يفعل بعض التجار يومئذ.. كانوا إذا اشتروا لأنفسهم من غيرهم وفَّوْا وألحُّوا في توفية المكيال والميزان، فإذا كالوا أو وزنوا لغيرهم أخسروا وطففوا وبخسوا. هذا الأسلوب الأناني الدنيء حرمه الإسلام وحذر من تبعاته الوخيمة يوم الوقوف بين يدي الله عز وجل، وكان القرآن المكي أيضا قد سبق إلى النهي العام عن هذا السلوك الفاسد حين قال تعالى في سورة الرحمن {وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان). اليوم أصبح الكيل بمكيالين أو بكيلين مختلفين سمة بارزة لدى كثير من الدول والحكومات، ولدى كثير من السياسيين وغير السياسيين، بل أصبح سياسة قارة مطردة بلا خوف ولا حياء، لا من العباد ولا من رب العباد. هناك مواثيق وقوانين وقرارات تتم إماتتها ودفنها لمجرد أنها في صالح المستضعفين من المسلمين وغير المسلمين. وأخرى يتم إبرازها وتفعيلها وإحاطتها بالنفاذ المعجل والمضخم، لمجرد أنها ضد المستضعفين وفي خدمة الأقوياء المستكبرين. وكل الناس هنا يعرفون النماذج البارزة المتعلقة بالسياسات الدولية عامة، والمواقف الأمريكية والصهيونية خاصة. من المضحكات المبكيات هذه الأيام أن أمريكا ومعها إسرائيل أو العكس تطالب سوريا بالانسحاب من لبنان وعدم التدخل في شؤونه، بينما لا وجه للمقارنة بتاتا بين الوجود السوري بلبنان، والكل يعرف حدوده وسياقه ومشروعيته وفائدته، وبين الوجود العدواني والاحتلال القهري والبقاء المدمر، للجيوش الأمريكية وتوابعها في العراق، ومع ذلك، فأمريكا تطالب غيرها بالانسحاب وعدم التدخل..!! ويطالبون سوريا بالامتثال لقرار مجلس الأمن، وبجانبها من يتحدون جميع قرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة منذ أكثر من نصف قرن! من الأمثلة الأخرى المضحكة المبكية أيضا أن تجد بعض الحكام الانقلابيين يدينون المحاولات الانقلابية الفاشلة أو المفترضة أو المختلقة، وهم بالانقلاب قد وصلوا إلى ما وصلوا إليه. فالانقلابي الذي سطا على الحكم وتمكن منه، يصبح بطلا ورئيسا وقائدا، ولكن غيره إذا حاول ذلك صدقا أو كذبا يكون مجرما مدانا مصيره الإعدام، بينما القاعدة الكونية تقول: >كما تدين تدان<، فمن جاز له الانقلاب على غيره جاز لغيره الانقلاب عليه جزاءاً وفاقا. فهل بقي من منطق مشترك أو ميزان موحد يحتكم الناس إليه؟