ليس من الصعب على متتبع تغيّرات العلاقة بين الدين والفضاء العام في تركيبة المجتمع المغربي المعقد أن يلْحظ افتقاد المجال العمومي بالمملكة للمرجعيات المؤسسة للدولة، على اعتبار أن مواطنيها لم يعودوا يمتَحُون من المنطلقات الفكرية المؤسسة للقيم المدنية، مقابل هيمنة السلوكيات التي تستمد مشروعيتها من الأعراف، الأمر الذي يفسّر سيادة "قضاء الشارع" و"شرع اليد"، في غياب تام لفكرة الاحتكام إلى القوانين الوضعية. ولعّل تأمل البنية الثقافية والاجتماعية للمجتمع المغربي، لاسيما في المدن الكبرى، على غرار مدينة الدارالبيضاء، يكشف عن سيادة منطق الأعراف، حيث يعمد سكان المدينة إلى نهج سلوكيات متناقضة في حد ذاتها، تُساير التحديث التكنولوجي العالمي، إلا أنّ العقليات مازالت تعيش في زمن القرون الوسطى، من خلال الإيمان ببعض الأفكار المتجاوزة التي تناقض ماهية الدولة العصرية. هل يعيش المغاربة زمن "موت الدولة المدنية"؟ في إشارة واضحة إلى إعمال منطق الذات، سؤال طرحته هسبريس على محسن بنزاكور، الباحث في علم النفس الاجتماعي، فأجاب بكون "النظام القبلي، وإن كان قد تغيّر بشكل جذري في المدن، فإنه مازال قائم الذات حاليا، ما مرده إلى العقليات التي تشتغل بالأعراف فقط، بل أكثر من ذلك يتعلق الأمر بالأعراف المتناقضة في السلوكيات المدنية". وللتدليل على تلك السلوكيات المتناقضة، أشار بنزاكور إلى "مثال بسيط يتعلق بإقدام بعض الأشخاص على تربية الدجاج في البيت، رغم أنهم يقطنون داخل المدينة، والأمر نفسه ينطبق على الزواج وغيره من الحالات، ما يعني أن العلاقات المتشنّجة داخل المجتمع تثبت غياب القانون مقابل حضور الفكر القبلي". لكن معاينة ما يضجّ حولنا في المجتمع المغربي من سلوكيات تجعل الأفراد أسرى الأعراف "لا تنطبق على جميع المغاربة"، وفق الباحث في علم الاجتماع، مرجعا دوافع التناقض إلى "فقدان الثقة في التدخلات التي يُباشرها الأمن لتحقيق المصلحة العامة؛ ذلك أن الناس يؤمنون بأن الاستجوابات والمقابلات لن تسفر عن أي نتيجة، ما يؤشر على عدم الرضا في تلك التدخلات". وأبرز بنزاكور، في تصريح أدلى به لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن "المخيلة الشعبية تعتقد أن تلك الإجراءات تستغرق وقتا كبيرا"، ما يدفعها إلى الاستغناء عنها واعتماد الخطة الذاتية، إن صحّ التعبير"، مشددا على أن "رفض الثقة في الجهاز القضائي يكرس هذه الحقيقة، من خلال تفشي بعض السلوكيات مثل الرشوة، وهي مبررات تؤدي إلى عدم الانضباط والامتثال لمقررات الحياة العامة". وفي محاولة لتفسير أصل السلوكيات المتجذرة داخل المجتمع، أوضح عالم الاجتماع أن "الأمر يتعلق بخلل بنيوي"، نتيجة "القلق (stress) الذي يعانيه المغاربة، ما ينتج عنه عدة سلوكيات يمكن أن تتطور إلى قضاء الشارع، بفعل طبيعة الشخصية التي تفرز هذا النوع من السلوك تبعا للأحداث الكائنة"، مبرزا أن "القرية مازالت لا تؤمن بالدولة، نتيجة هيمنة نظام الأعراف، حيث لم تصل بعد إلى مفهوم الدولة وفصل السلط". ودعا الأستاذ الجامعي إلى "الرجوع إلى المؤسسات التي تمثل الدولة في علاقتها المباشرة بالمواطن، ما يستلزم العمل على استعادة الثقة من جديد لدى المنتخبين، لأن الأمر لا يتعلق بعزوف الشباب عن السياسة، وإنما عدم الثقة في الممثلين، إلى جانب ضرورة تحسين المنظومة الأمنية بكل أصنافها، لأن مخيلة المغاربة تقول إن من يتوفر على المال يستطيع ضمان حقوقه، بينما تغيب قيم العدل والإنصاف". ونبه المتحدث إلى كون "الأبعاد سالفة الذكر متداخلة فيما بينها، ولعل العلاقات المتشنجة داخل الأسرة تسهم في تفشي هذه السلوكيات، حيث تجعل الإنسان يؤمن بذلك، ما يستلزم زيادة الوعي عبر لبنة التحسيس"، مستدلا في حججه "ببعض الأشرطة التي انتشرت عقب اجتياز امتحانات البكالوريا، حيث قال بعض التلاميذ إنهم يغشون في الامتحان، بينما لم يحرك أحد ساكنا، أو يصرحون بأن الأستاذ سمح لهم بالغش، وهي شهادة حية على جرم وقع في حق المجتمع".