بسم الله الرحمن الرحيم في مساء يوم 23 يوليوز 2011 شهدت لقاء مفتوحا نظمه فرع الحزب الاشتراكي الموحد بتاهلة مع الأستاذ محمد الساسي وقد فصل الأستاذ في ذلك اللقاء القول حول الوضع السياسي لحركة "20 فبراير" آنذاك،وعند تشخيصه لدور الحركة الإسلامية – لاسيما "العدل والإحسان"- في الحراك الشعبي عالج المسألة بنبرة متعالية،وتنبأ بتراجع الحركة الإسلامية أمام تقدم "قوى الحداثة"،ولم ينس تقديم الشروط المعلومة:"الحريات الشخصية،والملكية البرلمانية،والدولة المدنية"،وعندما سألته عن السر في تحول "قوى الحداثة" تلك من اعتبار"إمارة المؤمنين" شكلا من أشكال الحكم الثيوقراطي الرجعي إلى المطالبة بجعلها من اختصاص الملك فقط،أجابني بجواب تسطيحي وتبسيطي مؤداه:أنه ليس من المعقول أن ننزع عن الملك كل الصلاحيات التنفيذية لذلك وجب تمتيعه بشيء يُسلِّيه ويكون له بمثابة "تعويض"؛ وليس ذلك الشيء إلا"إمارة المؤمنين"،ثم بعد ذلك بأشهر وفي حوار جمعه مع مُمثِّلين عن "العدل والإحسان"و"العدالة والتنمية" شرع في الحكم على مقالات الإسلاميين من خلال كتاب "معالم في الطريق" لسيد قطب- رحمه الله- وكأن العقل الإسلامي يجب عليه أن يقف عند ذلك الكتاب،وكأنه لم يحدث في حياة الناس تطور نوعي يقتضي اجتهادا جديدا، وكأن الأستاذ عبد السلام ياسين لم يكتب لا "الإسلام والحداثة" ولا "العدل:الإسلاميون والحكم" ولا"الإحسان" ولا"الشورى والديمقراطية" ولا"حوار مع الفضلاء الديمقراطيين"ولا..ولا..، فأيقنتُ أن ثمة من يصر على اتباع سياسة الهروب إلى الأمام واعتماد لغة الخشب وإغماض الأعين عن الحقائق الجديدة التي أفرزتها ثورات الربيع العربي: - حقيقة أن التصدي لمحاربة الفساد والاستبداد يتطلب عملا مشتركا وواضحا ومسؤولا،في إطار الاحترام المتبادل بين المتفقين والمختلفين - حقيقة مراعاة خصوصية البلد وانتمائه الحضاري وهويته - حقيقة الاحتكام إلى الإرادة الشعبية في الاختيارات الثقافية والسياسية والاقتصادية الكبرى للوطن - حقيقة عرض المحطات الاحتجاجية في كل مرة على معايير الجدوى والقصد والفاعلية - حقيقة التضحية بالنفس واسترخاص الأموال في سبيل تحقيق الأهداف المحددة في غير ضراء مُضِرة ولا فتنة مُضلَّة. وأحسِب أن"العدل والإحسان" كانت متوافقة مع مسارها الخاص وتصورها العام عندما أعلنت أول الأمر دعمها لحركة"20 فبراير"،كما كانت متوافقة مع المسار العام وسياق "الربيع العربي"،فلم يكن لقرارها علاقة بتطييب الخواطر ،ولا بالحرص على تلميع الصورة أو استعراض العضلات،ولقد كتبتُ يوما:تتملكني الحيرة وأنا أقرأ تقييم البعض لأداء"العدل والإحسان" السياسي والتربوي فهي إن نزلت إلى الشارع لنصرة الشعوب العربية والإسلامية أو لمؤازرة الشعب المغربي في مطالبته بالعيش الكريم والعدالة والحرية قالوا:استعراض للعضلات،وإن هي انْكَبَّت على تقوية صفِّها الداخلي وتمتين روابط الأخوة بين أعضائها وتَفقُّد مدى التزامهم الإيماني والأخلاقي قالوا:عزلة وانكماش، وكم هو قول محجوج ومنطق ممجوج منطق أولئك الذين كانوا يعيبون على"العدل والإحسان" المشاركة في الحراك بدعوى اشتماله على "وكالين رمضان" و"الملحدين" و"الشيوعيين"،وهاهو حزب"العدالة والتنمية" يدخل في تحالف حكومي مع أب التنظيمات اليسارية والشيوعية ومع ذلك يتعين عدم تسطيح الأمور بجعل ذلك التحالف سببا وحيدا لمعارضة "حكومة العدالة والتنمية". واليوم تذهب التحاليل يمينا وشمالا في تفسير قرار توقيف المشاركة في حركة "20 فبراير" بالرغم من أن بيان الدائرة السياسية جاء واضحا ورافعا لكل لبس،وهذه أمثلة لتلك التحاليل: - ففي رأي :"القرار يحسب لصالح جماعة عبد السلام ياسين التي أظهرت أنها "لم ترتهن لقرارات سابقة وأن لديها القابلية للتقييم وتقليب النظر" - وفي آخر"ينبغي أن يوضع هذا القرار في سياقه العام، لأن الجماعة عمليا أدت ثمنا كبيرا. أكيد أنها استفادت من خلال مشاركتها في حركة 20 فبراير، لكن هذا لا ينفي أنها أدت ثمنا، فالجهد الأكبر كان موكولا للجماعة، في حين أن القوى اليسارية التي لم تتحمل جهدا كبيرا، كانت تضايق الجماعة وتشترط عليها شعارات محددة، لقد تحملت الجماعة كل ما له علاقة بالجانب اللوجيستيكي، فيما لم تبدل الجماعات اليسارية جهدا كبيرا. كان يمكن للجماعة أن تستمر في الحركة لو ظلت مكوناتها متماسكة". - وبحسب رأي آخر"يمكن تفسيره في إطار تراكم الخلافات بين مكونات الحركة. حيث إن الجماعة كانت منذ البداية تسعى للعمل إلى جانب مكونات سياسية أخرى، متجاوزة ما يسمى الاصطفاف الايديولوجي أو السياسي. لكن يبدو أن جماعة العدل والإحسان شعرت في آخر المطاف أنها تعرَّضت لنوع من الابتزاز السياسي، إن صح التعبير" - وبحسب رأي آخر فالقرار"يحمل العديد من القراءات أكثرها قربا للواقع هو أن الجماعة تبحث عن فضاء جديد من أجل رفع حرارة الحراك الاجتماعي". - ورأي آخر لا يرى في الموقف "سوى انسحاب مبكر من حركة يعتقد الكثيرون أنها بدأت تفقد الكثير من وهجها، وحكم عليها البعض الآخر بالموت البطيء، وارتأت الجماعة، بحسها البراغماتي، الانسحاب المُبكِّر منها حتى لا تظهر بمظهر الضعف الذي قد تجد فيه الحركة نفسها إذا ما استمرت وتيرة تآكلها" - وبحسب رأي"فانسحاب العدل والاحسان من 20 فبراير سَيحْرِم حزب العدالة والتنمية من مصدر قوة ومن مصدر ضغط وقد يُضعفه في المدى القريب". - وبحسب رأي فالموقف"إعلان عن فشل استراتيجية الجماعة في احتواء الحركة وتحويلها إلى درع اجتماعي لها وفشلها في الرهان على الوقت من أجل تغيير سقفها السياسي". - تفسير آخر يعتقد أن الجماعة ارتأت" أن من غير مصلحتها الدخول في مواجهة مع حزب العدالة والتنمية الذي تتقاسم معه المرجعية نفسها". ونُعقِّب على هذه الآراء بالقول:إن هناك أنواعا من التأويل والتفسير تتولَّد من نمط التفكير الإسلامي الذي يراعي النص والواقع،ويراعي الله تعالى والدار الآخرة في الصغيرة والكبيرة،ويراعى الولاية الجامعة بين العاملين للإسلام، ويراعي فقه الموازنات ،وينظر إلى المآلات، ولا تتولد من نمط التفكير الدنيوي الذي يلتصق أصحابه باللحظة وهواجس المنافسة على المواقع وعلى قيادة الجماهير ،ولا يجدون غضاضة في خلق الأجنحة والتحالفات داخل التنظيم الواحد ،وودوا – إمعانا في التحريش- لو أعلنت "العدل والإحسان" الحرب على "العدالة والتنمية"،ولو انحرفت عن الاشتغال بمشروعها إلى الانشغال بخطابات التهويل وتسقُّط العثرات، وبدون الوعي بحضور الدعوي في السياسي سيتعسَّر على الكثيرين فهم قرار توقيف المشاركة: - فالواجبات الدعوية والحكمة السياسية تقتضي عدم التحول " من فاعل محرِّك إلى مطية للأهواء والطموحات الشخصية عند أولئك الذين ينتظرون من يشق لهم الطريق ليتربعوا على كراسي الدولة. وعندئذ فسلام على الدعوة وأهدافها النبيلة. عندئذ تعود دورة الفساد دورانها، وينفر الشعب من مفسدي اليوم كما نفر من مفسدي الأمس الذين عارضناهم فكانت معارضتنا إياهم هي الرصيد المعنوي الذي رفعنا إلى ثقة الشعب"[1]. - ويقتضي الخط السياسي الواضح طول النفس وبعد النظر وعدم الاستسلام لكيد الاحتواء المُنظَّم. - وتقتضي الدمقراطية الإنصات لآراء القواعد بناء على ما تَحصَّل لديها من ملاحظات في ساحات التحرك الميداني . - ويقتضي التقييم الموضوعي المنصف القول:إن ما تحقق من وعي شعبي في أقل من عام يوازي أو يفوق ما تحقق في خمسين سنة منذ استقلال المغرب. - ويقتضي التخطيط للمستقبل الاستفادة مما تحقق من العمل الجدي المشترك،والمأمول أن يحسن الساعون لفرض أيديولوجياتهم تدبير الاختلاف بوسائل سلمية وديمقراطية حقا. وبعد توقيف "العدل والإحسان" لمشاركتها في "20 فبراير" تنفع الأفعال في تبيين ملامح التدبير السياسي للمرحلة أكثر من الأقوال. الهوامش [1] عبد السلام ياسين،العدل