"إننا قلب تونس، بعد أن تمكننا من طرد بن علي بضربة حجر ! ولا شخص، يتأسف على هذا اللص ! ظل وعائلته، في اغتناء دائم ونحن لا نزداد إلا عوزا !". الكلام لرجل كهل، اسمه "أمين"، تلفه شاشية، ويجلس مع أصدقائه على دكّة متواجدة بالشارع الكبير، المسمى بورقيبة. بالطبع، نحن في أقصى نقطة مركزية بسيدي بوزيد، مدينة صغيرة تبعد ب 260 كلم عن تونس العاصمة ويقطنها ما بين 40 إلى 50 ألف نسمة. هنا، على أرض منبسطة وشاسعة وجافة، اندلعت يوم 17 دجنبر 2010، أول ثورة ديمقراطية في العالم العربي. على يسار "أمين"، تبدو الولاية، بناية رائعة منخفضة وردية وبيضاء، لكنها حاليا مغلقة. على بعد منها، تقوم ثكنة الحرس الوطني، زرقاء وبيضاء، ثم مسجد الرحمة بطهر صومعته، بمثابة الصرح الوحيد المرتفع في المدينة. أمامه، نجد المديرية الجهوية للتنمية. أما، على يمين دكّة أمين، فتنتصب معلمة عبارة عن تمثال علوه خمسة أمتار، جد قبيح وذهبي اللون مثل سنبلة قمح، يخلد ل "7نونبر" أي يوم وصول بن علي إلى السلطة سنة 1987. لكن الطوطم، ملطخ بسطول من الصباغة الحمراء، ترميزا لدم محمد البوعزيزي، الذي ألصقت صورة كبيرة له، على الأثر التذكاري. محمد، شاب جميل، بوجه وقور. ملصقات تغطي النّصب، كتب عليها باللغة العربية : ((هنا، ساحة محمد البوعزيزي !))، ((اتركوا الشعب، لا تسرقوه !))، ((ساكنة سيدي بوزيد، مثل لكمة جامدة في وجه الحكومة القديمة !)). أمر مثير . قيل : بأنها شعارات ستنمحي وتندثر مع أولى قطرات المطر، أو أقل عاصفة رملية، لكنها بقيت. هنا، أحرق محمد البوعزيزي نفسه بالنار يوم 17 دجنبر، أمام باب مقر الولاية، ومنذئذ فإن غضبه اليائس ضد سلطة غير مكترثة بآلام الضعفاء، غير العالم العربي. عشرات الشباب، قلدوه في الجزائر ومصر وموريطانيا، أرادوا التضحية بأنفسهم حتى يؤكدوا يأسهم المطلق من أن يكونوا شبابا في بلدان تنغل بشباب، بدون مستقبل. تضحيات جسيمة، ارتعش لها القذافي ومبارك ومسؤولي الجزائر واليمن والسودان، لكنهم يحاولون إظهار بأنهم في منأى عن ذلك، ينعمون بالهناء وراء درع قوات بوليسهم. أطلق محمد البوعزيزي، شرارة، حركة اجتماعية هزمت في أربعة أسابيع قوة بن علي. مع تجربته العسكرية والبوليسية، بدا الرئيس كأنه صعب المنال : صوره العملاقة، تملأ كل الأبنية العمومية في تونس، يستحيل أن تجد دكانا بغير صورة لبن علي، لكن ما إن فر خارج بلده، حتى أسرع 10,5 مليون تونسي إلى اقتلاعها والدوس عليها. اليوم، محمد البوعزيزي بائع الفواكه والخضر، يقض مضجع المسؤولين العرب، تظهر عليهم ملامح الغضب داخل قصورهم وعلى عروشهم. منزله، في حي مدينة النور، عبارة عن كوخ نظيف. هذا، ما تقدر على بنائه حينما تتوفر فقط على الشيء القليل كي تسدد ثمن قرميد، قطعة بعد الأخرى. على امتداد الزقاق، بيوت صغيرة، غير مكتملة البناء، مساحتها 60 متر مربع بما في ذلك رقعة الفناء . تتوفر على الماء والكهرباء، إضافة إلى صحون البارابول. في البيوت الأكثر فقرا، التونسيون مرتبطون بقناة الجزيرة، وموصولون بباقي العالم، لأنهم يريدون الحقيقة. ينقسم منزل محمد، إلى ثلاث غرف ويعيش داخله تسعة أشخاص. الأم، مانوبيا، تبلغ من العمر 49 سنة، لكنها تبدو في السبعين، ترتدي غندورة حمراء، تقول عن ابنها البوعزيزي : ((لقد كان هادئا ورصينا وشجاعا، يوفر لنا لقمة العيش بعربته، ليلا ونهارا. يتوجه إلى سوق الجملة المتواجد بجانبنا ويتسوق فاكهة، بعد ذلك يدفع عربته وجهة المدينة على مسافة أربع كيلومترات. ثم يذهب إلى المدرسة، حين يمكنه الأمر. ظل على هذه الوتيرة، حتى وصل إلى مستوى الباكلوريا. لكنه توقف عن الدراسة من أجل إعالة الأسرة)). اشتغل جهاز التلفاز على قناة الجزيرة. ضوضاء غريبة تسود المكان، تلعثمت منوبيا شيئا ما في كلامها، أولادها الستة يحيطون بها (ثلاث بنات وثلاث أولاد) أضحت غرفة استقبالنا ممتلئة بالفضوليين والجيران، صرخ أحدهم في وجهنا، هائجا : ((هيا، وسائل إعلام أخرى، تنتظر !)). جماعة من الأطفال، يحيطون بصحافيي قناة الجزيرة. لم يعيشوا أبدا، واقعا كهذا في سيدي بوزيد. ليلى،24 سنة، تتكلم عن أخيها محمد : ((كان عمره 26 سنة. انقضى اليوم على وفاة والدنا 12 سنة . منذ تلك اللحظة، يوفر محمد أسبوعيا، 50 دينارا (35 أورو) وأكد لنا، دائما : ((سأعمل، بينما ينبغي عليكم مواصلة الدراسة !)) لكن، كما ترى، أنا حاصلة على ديبلوم من التعليم العالي في مراقبة جودة صناعة الألبسة، ومع ذلك، لم أستطع الحصول على عمل، بالتالي فأحمد من تحمل المصاريف المنزلية)). هكذا، إذن عاش حياة كلب، عوض التمتع بشبابه، كي يتمكن أهله من البقاء. في ركن من ساحة المنزل، ينتصب هيكل لعربة بؤس محمد. في الخارج، مساحات شاسعة مغطاة بالأزبال والأكياس البلاستيكية، شوارع محفرة وكثيرة الرمل، نخيل أعجف، أحجار كبيرة تحده، عجلات محترقة، أعمدة كهربائية مقتلعة، إطارات شاحنات قديمة. على بعد من ذلك، وسط المدينة وأمام الحرس الوطني، وكذا محطة التاكسي، تقف عربتان للخضر، هنا كان يشتغل محمد. حسناء، بائعة الفواكه، تحكي لنا بدورها، ما وقع : ((نفس الشرطية المسماة "فايدة هاني"، تأتي لاحتجاز ميزان محمد. إنها المرة الخامسة، التي تقوم بذلك ! أتدري، لو كانت أمامي حاليا، لشربت من دمها ! لقد دافع محمد عن نفسه، ثم أمسك به شرطيان ثانيان وسرقا منه 250 دينار كانت في جيبه، وصفعته الشرطية ثم أمرته بضرورة المجيء إلى مفوضية الشرطة، من أجل تأدية غرامة بنفس المبلغ المأخوذ منه. حاول محمد، التقدم بشكواه إلى مسؤولي الولاية، المتواجدة في عين المكان ، لكن حارسا منعه من الدخول. هكذا، اشترى بنزينا، وبعد أن أفرغ وسط الشارع عربته من كل فواكهها وخضرها، سكب على جسده الوقود واحترق بشدة، لم تكن لدينا أداة لإطفاء الحريق. اندلعت التظاهرات ليلتي 18 و 19 دجنبر، مع إلقاء وابل من الحجر على البوليس !)). %90 من سكان سيدي بوزيد، يمارسون الفلاحة. في الريف المجاور، نقف على 12000 بئر لسقي الحقول، الناس يقولون بأن بن علي، لم يفعل شيئا من أجلهم. تتوفر المدينة الصغيرة على مستشفى مجهز بآلة سكانير، ومحطة لتصفية الماء ومدارس وكذا مختلف مجالس البلديات التي نعثر عليها في البلدان النامية، فالرئيس المخلوع لم يترك مع ذلك بلدا مفلسا، كما الشأن مع الهايتي فرانسوا دوفاليي، الملقب ب "بابا دوك". مستويات النمو في تونس، تفوق كثيرا ما يعيشه جيرانها كالمغرب والجزائر وليبيا أو مصر. كان الاقتصاد في حالة جيدة، وأدير بمنطق السيد مع مستويات للدخل الفردي، لم تدركها إلا أقلية من البلدان العربية. لماذا، إذن شملت هذه الثورة كل البلد بسرعة نِثار بارود ؟ اجتاحت مثل صاعقة تونس، التي لم تعد تتحمل قط حماقة نظام أوتوقراطي كما يقول "حاسيم الشاذلي"، مصور بمدينة سيدي بوزيد، والذي أدخل إلى محله آلة طباعة إليكترونية حديثة جدا بقيمة 400000 دينار (أكثر من 200000 أورو). هذا التونسي العصري والظريف، غاضب على الرئيس السابق مثله، مثل باقي مكونات الشعب : ((لقد تعامل معنا بن علي، كأغبياء ؟ )). تتألف عائلته من زوجته دليلة (51 سنة) وبنتاه ريم (30 سنة) رنا (24 سنة) وابنه رامي (18 سنة)، جميعهم يتقاسمون معه غضبه لقد وصل الثلاثة إلى أسلاك التعليم العالي، وتتساءل الفتيات عن آفاق دراساتهن بفرنسا، إنهن مثقفات جدا. ستلتحق رانا السنة المقبلة، بخطيبها حيث يعمل في سويسرا مهندسا في صناعة الساعات، أما ريم فيتجه حلمها إلى الاشتغال في شركة "نستلي". الأب والأم والأبناء، يؤمنون بأن الديمقراطية حاجة طبيعية لتونس. تقول ريم : ((لاشيء يجمعنا مع ليبيا أو الجزائر، إنهما بلدان متخلفان ! أما نحن فأفقنا هو أوروبا)). محمد البوعزيزي وأخته ليلي ورانا وريم ورامي، ظلوا في مقدمة اهتمامات نظام بن علي، بحيث استثمرت الحكومة التونسية في قطاع التعليم، ميزانية سنوية تراوحت بين 7 و %8 . يذكرنا هذا الشباب التونسي، بعمال صناعة السفن البحرية GNDSK سنة 1989، الذين مثلوا آنذاك "بورجوازية" الطبقة العاملة البولونية والفئة الطليعية المطالبة بتطبيق الديمقراطية في بولونيا، لأن المستوى الثاني من هدف التنمية، لا يمكنه الانتقال إلى تحديث اجتماعي بدون نظام عادل، ذلك ما يؤكه الاقتصادي محمود بن رمضان : ((الآن، انخرطنا في مسار انتقالي جاد وسريع، سنتوفر على مسؤولين منتخبين ديمقراطيا. لقد تم الاستهزاء بخيال وإرادة التونسيين لفترة طويلة، ويمكنهما حاليا التبلور. عوض فساد النظام القديم، ستكون لنا مؤسسات محترمة ودولة القانون ثم شفافية عالم الأعمال، ويمكننا أن نجذب مستثمرين من الخارج وفق قواعد سليمة ! ولا أستبعد بأن نمو الاقتصاد التونسي سينتقل سنويا من 5 على 10% )). يشعر التونسيون في أحياء سيدي بوزيد بالفخر، صورة محمد البوعزيزي أزاحت صورة بن علي. في الحوارات يعودون قصدا إلى تاريخهم. وبحضور، الفرنسيين، يتحدثون عن الاستعمار دون ضغينة. يعلن الفوتوغرافي حاسم الشاذلي : ((لاحظوا الآن، متساويان !)). *بمناسبة الذكرى الأولى لرحيل البوعزيزي