أي جدلٍ كائنٍ وممكن بين مركزٍ وجهاتٍ في الدراما المغربية، وأي قرب وتقارب بين فعل هذه الأخيرة ومجال تفاعلاتها حيث غنى التباين من إنسان وطبيعة وتعبير وشواهد وموارد وتجارب ومواهب... وهل في أرشيف هذه الدراما ما يحيل على درجة انفتاحها على زمن المغرب ومجاله، بما يسمح برأيٍ وتقييمٍ ومقارنةٍ وتثمينٍ واستشراف. وهل مركزية فعل الدراما هي بعلاقات محددة مع المحلي بقوة واقع ما، من تصوير واخراج ونصوص وقرب فاعلين ونوعية مهارات وقدرات وتواصل وتعاقد..،وأية حدودِ تناولٍ لِما هو قصير وطويل وكم ونوع وهواية واحتراف في عمل الدراما، ضمن تفاعل والتفاتة لمِا هو رافع محلي جهوي من موارد وانسان وتراث... بل وأية تجاربٍ تُسجيل لفائدة ريبرتوار الدراما المغربية وتاريخها في هذا الاطار، وأي راهنٍ وتأسيسٍ وإغناءٍ وتعميقٍ وتقاسم..للكائن الدرامي جَدلاً، لجعل دراما المغاربة بما ينبغي مما هو شافٍ من امتدادٍ وتكامل وانفتاح وتأمل واستثمارٍ واستشراف، في أفق تناغم تفاعلها مع رهانات البلاد وتطلعاتها، تماشياً مع رهانات مناظرة الرباط الوطنية اكتوبر 2012، والتي بقدر تأكيدها على قيمة وأهمية تعدد ملتقيات البلاد السينمائية هنا وهناك من المدن، وما باتت عليه من جذب ثقافي وصدى اقليمي ووطني ودولي، بقدر ما يفرضه واقع حالها من مواكبة وتنمية ضماناً لاستمراريتها وتجويداً لأدائها، ومن أهمية انتقال الى النوع وتثمين هوية الوطن مع انفتاح على ثقافاتٍ وقيمِ انسانية. اشارات وغيرها تروم ما تزخر به البلاد من موارد وقدرات وتجارب درامية، وما ينبغي الالتفات اليه في زمن تدفق قيم ورقميات وعولمة، ولِما ينبغي الانصات اليه من كائن درامي مغربي محلي رافع لتجويد هذا المجال وتطويره ومهننته. وحول هذا المحلي في الدراما المغربية مع ما للأمر من مرتكز وآليات تجمع بين سلطة تقنيات وموارد اشتغال هنا وهناك، وعلى أساس طبيعة تراكمات البلاد منذ ستينات القرن الماضي تحديداً، وفضلاً عما هو تيمة واتجاه وقيمة وابداع واشعاع...على امتداد حوالي نصف قرن. يحق السؤال حول نماذج الاشتغال الدرامي، التي استثمرت بما هو شافٍ رافعٍ ومجودٍ لِما هو محلي من قدرات وتجارب وتراث وموارد طبيعة بمثابة استوديوهات مفتوحة بتركيب رفيع. ويحق السؤال أيضاً حول نماذج فعل الدراما المغربية التي قد تكون تأسست على المحلي من تجارب ونصوص وموارد وغيرها، بل ويحق سؤال المهتم والمتتبع والفاعل الدرامي، حول العلاقة بين المسرحي والسينمائي المحلي في هذه النماذج، ودرجة قدرة تعبيرها على نقل أحلامها وتيمتها وشخوصها وإخراجها ونصوصها وحكاياتها وايقاعها وأدائها وذوقها، أيضاً هويتها وإرثها وبنية وتميز وتفرد مشاهد مجالها وفرجتها السينمائية الى ما هو وطني ودولي. وبقدر ما هناك من صعوبة في تحديد بداية حقيقية للدراما المغربية منهجياً ومفاهيمياً،- ولعل الأمر يهم مسارها وتحولاتها ومكانتها وإسهامها أيضاً- . بقدر ما يُطرح حول طبيعة تحليل وتفكيك الخطاب الدرامي المغربي من قِبل النقاد، وحول غياب تناول ما يسمح بعبور هذا الخطاب الى المتلقي من آليات، كذا ما يتعلق بأشكال مقاربة لنقاط قوة وضعف ونموذج الخطاب الدرامي وليس خطاب ابداع، سواء كان شأن الدراما وطنياً أو محلياً. ولا شك أن التراثي بجميع تجلياته ومعه رمزية تحولات وتفاعلات المجتمع المغربي...هو مجال رافع لعمل الدراما من خلال محاكاةٍ وسؤالٍ وبحث... في اطار علاقة زمن بواقع وانسان. وبقدر أهمية جدل الدراما والواقع بقدر ما هي مدعوة للاجابة عن سؤال خدمتها وكيفية خدمتها لهذا الواقع باستمرار، مع ما يتقاسمه من ظواهر انسانية واجتماعية وثقافية. ونعتقد أن ما هو تراث في نص الدراما المغربية هو بقضايا عدة ومتداخلة، مساحة هامة منها لا تزال خارج ضوء الفاعلين في حقل النقد السينمائي الى حدما. وعلى أساس ما يزخر به من مكامن للتراث المغربي قوة وسلطة في عمل الدراما بشكل يجعلها أكثر امتداداً وتعبيراً وإحالة على تحولات ومتغيرات برمزية عالية. ولعل الارث المادي واللامادي في الدراما المغربية هو بتجليات فيها زمن وانسان ومكان..، ما ينبغي موضعته ابداعياً حتى تكون الدراما المغربية بإنتاج واقبال واعتبار وفكر وهوية. وما أحوجنا لتحصين إرثنا من خلال ثقافة صورة ودراما لمزيد من هويةٍ وتماسكٍ وتناغمٍ محلي وكوني، وعياً بما بات لتراث الشعوب من رمزية حضارية بالغة في زمن عولمة تقنية وفكرية، ويبدو أنه مقابل سعة مخزوننا التراثي الوطني، هناك محدودية آلياتِ ابداعٍ من شأنها جعل تراثنا وظيفياً بأدوار اجتماعية وانمائية واقتصادية... والدراما المغربية هي بموارد قادرة على إغناء حياة انسان بتجارب انسان وتجارب مجتمع بتجارب مجتمع، وعياً بما لها من تواصل وقيم وتفاعلات ومعاني وبما للصورة من حركية أكثر تأثيراً على الأفكار، وبما يحتويه تراثنا من ذخيرة خصبة للدراما من شأن رمزيته إغناء تمثلات إخراجٍ ومعالمَ أفلامٍ بقيمة فكرٍ وفرجةٍ معاً. كل هذا وذاك من الاشارة حول الدراما المغربية تيمةً وانفتاحاً على المجال والهوية والتراث والنماذج، كان مدخلاً ارتأيناه أساسياً لتسليط بعض الضوء على تجربة درامية، تقاسماً لرأي وهاجس تفاعل وتنوير وانصافاً لمبادرة وجهدٍ وفسيفساءِ تاريخٍ فني وخبرة وإرادة. ولعله سياق نستحضر فيه ما تساءل عنه يوماً الناقد الملم ذ.أحمد سيجلماسي في احدى المواعد ذات الصلة، عندما عَرَّج عن غياب إلتفاتِ المخرجين لطاقات ومواهب ما وراء المركز الابداعية الدرامية، مؤكداً على ما يميز ويطبع أعمال الدراما بعدد من الجهات من قدرات تشخيص كما في "الهايم" لمخرجه نور الدين بن كيران، ولذي يملك طاقة فعلٍ وتفاعلٍ درامي قوي ظهر جلياً فيما أسند له من أدوار في أعمال تلفزيونية وسينمائية عدة، لعلها الأدوار التي جعلته بتجارب ومسار وخبرة وموقع فني رفيع وكاريزما. و"الهايم" The Roamer هذا العمل الدرامي الذي أخرجه الفنان نور الين بنكيران مؤخراً، هو نص بكل معاني ما دار في قلعة بجزيرة في عالم نسيان ومقبرة غرباء، حيث موت انسانية انسان واحتضار ضمير تاركاً خيط دخان لا غير، هناك حيث طفولة في بحث عن ذاكرة فقدها هائم في متاهات دمار وخراب، في زمن تُنوسِي فيه نور وحق وعدل وسلام. وهذا الهائم الغريب اختار اللاعودةٍ لرذيلة وخطيئة لترعرع في زمن ومكان يدرك معنى أمل الانسان وحبه وسكينته. ومن هنا أشباح بلا رحمة طاردته وعذبته ودفنته فقتلت فيه طفولة وجسداً مكبلا بأغلال، دهست قبره وهي ترقص من شدة بهجتها باغتيال ذاكرة وسط زحام. لكن تناست أشباح زمن أن الهائم حالم عائد لا محالة لعالم كله حب وسلام، عائد لإحياء ضمير واعطاء الإنسانية معناها الحقيقي التي من أجلها ولد وكان الإنسان انساناً. ونص"الهايم" الدرامي في فلسفة حياةٍ نوع من تيهٍ ذاتي في دروب خوف وعنف.. برغبة في تضحية بثوابت تنشئة، فكان هائم وتهديد عيش بارتماء في حضن أشرار طالما تلذذوا بتعذيب ضعفاء بإبعادهم وقتل إنسانية الإنسان فيهم. انما لما حرك ضمير الهايم وجدانه قرر النأي عن الخطيئة والرذيلة، ليغتسل بماء شلال اعلانا عن ابتعاد كلي عن الشر. وليرحل عن أهل وديار في عشق لنور وعدل وخير وسلام، تائهاً في بحث عن كائن وممكن وإنسانية انسان، لكن رجال القلعة طاردوه عذبوه ففقد الهائم ذاكرته ماضيه. وعلى ايقاع رحلة عذابه كان الهايم بضمير يرفقه وذاكرة تنير طريقه الى حب وتعايش وجمال، وبعيداً في خلوته بكهف حين كان يحتضر نادى على من نادى ليفصح عما بداخله ويقول: أنه تذكر ضميره وأنه لم يمت بل لايزال حياً ببذور خير للإنسان ولعالم تتقاسمه قيم محبة ونور وعدل سلام... وقد توزع تصوير"الهايم" على مواقع عدة من جوار تازة حيث أدغال غابةٍ وعلو وشموخٍ أطلس وثلوج وشلالاتٍ وأودية، اضافة لمواقع بتميز عمراني تاريخي مغربي أصيل كما قصبة امسون الاسماعيلية غير بعيد عن تازة شرقاً. ويسجل ل"الهايم" تصويره بنقاط مجالية دقيقة الانتقاء وأكثر انسجاماً مع نص وتجاوب وأدوار، فضلاً عما طبع تشخيصه من حماس درامي ومجازفة كثيرة. مع أهمية الاشارة لذاتية انتاج في غياب دعم أية جهة للعمل، الذي هو بمساحتين زمنيتين في العرض الأولى طويلة بحوالي ساعة والثانية قصيرة بثلث ساعة. اللهم أعمال الدراما التي يوجد بصددها والتي ستكون مدعمة من قِبل المركز السينمائي المغربي. وتجربة "الهايم" الدرامية وما تحتويه من رمزية فنية دقيقة ثاقبة، أبانت عن كلفة جهد فني مادي ولا مادي وعن طاقات سينمائية شابة أكدت عن تميز مواهب وقدرة تشخيص واجراء عال تقاسمته فصول "الهايم"، ما جعل أدوار هؤلاء بأداء مدهش في عرض أول افتتاحي لدورة مهرجان سينما الهواء الطلق الأخيرة، المهرجان الذي ينظمه نادي المسرح والسينما ودأب عليه جمهور تازة خلال ربيع كل سنة. ودورة هذا المهرجان الأخيرة حضرتها أسماء سينمائية مغربية من عيار رفيع كفاءة وفكراً ووعياً ومهنية ومصداقية ابداعية، كما فاطمة بوبكًدي مخرجة سلسلة"رمانة وبرطال" المتميزة، والتي تمكنت من جعل تراث البلاد وجهة لفرجة جاذبة على نطاق واسع غير مسبوق بالمغرب والخارج، ناهيك عن نقاد سينمائيين ممن هم بتحكم في قراءة النصوص وتحليليها. فكان جَمْع وفُرجة وتأمل في سينما "الهائم" وكانت دهشة وشهادة واكتشاف واعتبار ما هي عليه المدينة من تجارب. مع أهمية الاشارة الى أن"الهايم" هذا العمل الدرامي بالعربية الفصحى والذي أثار ما أثار من رأي ونقاش وثناء وتقدير وجوائز هنا وهناك في ملتقيات ومهرجانات بعدد من المدن المغربية. تطلب حوالي السنتين من الاعداد والتفكير وعياً بحجم المسؤولية وسلطة متفرج ومتتبع ومتلقي ليس سهلا على المخرج بلوغ ثقته وتجاوبه. وفيلم"الهايم" هو من بطولة نور الدين بن كيران- سمية فائز- حسن فائز- خالد بقراوي- عبد الرحيم وهاب- عزيزة امزيان- ايمان القرموني- ايمن العلوي- جلال الدين مطالسي- رضا الغنامي- عبد اللطيف جزاري. تمثيل: كريم اليابوري- ليلى مزيان مطالسي- اسماعيل اليوسفي- عبد الرحمن زروال- بدر بن داود- ماجدولين كحيحلي- هند صبحي- بلال امزور- أمين جلولي- اطفال جمعية أزداد. وهو من قصة وسيناريو واخراج نور الدين بن كيران وتصوير عبد الرحيم وهاب ويونس رطيبي وديكور واكسسوار رشيد العليلي يذكر أن مخرج"الهايم" العضو في الفدرالية الدولية للممثلين والنقابة المغربية لمهني الفنون الدرامية، انفتح على عالم التمثيل مع بداية سبعينات القرن الماضي عبر عشرات الأعمال المسرحية والتلفزية والسينمائية مع عشرات كبار المخرجين مغاربة وأجانب، فضلا عن اسهاماته في مواعد دولية مسرحية وسينمائية بتونس والأردن ومصر والعراق وغيرها. وللاشارة فقد فاز فيلم الهايم بالجائزة الكبرى للملتقى الوطني السادس"أيام فاس للتواصل السينمائي" في دورته الأخيرة قبل بضعة شهور، ضمن غمار تنافسي شمل أفلام “مخاض” و”أحلام” للحمداوي(وجدة) و”فحم ودم”، و”ذاكرة النسيان” لأميمة حيدا(الرباط)، و”برقيمة مفهومة” لياسين سميح(آسفي) و”آخر صورة” لفيصل الحليمي(طنجة) و”ليس أبيض وليس أسود” لمنير علوان (العيون)، و”مساج” لمحمد الشباني(مراكش) و”افتحوا النوافذ” لنبيل جوهر (سطات) وغيرها. ونور الدين بن كيران مخرج "الهايم"، مقام رفيع وقامة، بدرجة سمو وتفرد وطاقة وكفاية درامية بكل المقاييس شكلا وتجربة على امتداد عقود من الزمن، وبمؤهلات ومستوى تشخيص رفيع مستفيداً من خبرة وجَمْعٍ بين تأليف مسرحي واخراج وكتابةِ قصةٍ وسناريو، كذا ما كان عليه من زخمٍ مسرحي ودرامي تقرب من نصف قرن، كل هذا وذاك من تاريخٍ وذاتٍ ورغبة ومبادرة وشجاعة أدبية كان وراء ورشته الدرامية خلال السنوات الأخيرة بعد عقود من العمل المسرحي، ورشة يُعد فيلم"الهايم" باكورة انتاجها نصاً وسيناريو واخراج. يبقى أن لموارد الجهات أو المحلي بشكل أدق، قدرات من شأنها اغناء وعاء الدراما المغربية على هذا المستوى أو ذاك وتقوية تنافسية تجويدٍ في المجال، بما يحتاجه الأمر من بحث وتنقيب ونصوص وابداع... في اطار ورش جهوية متقدمة واعدة رافعة لِما هو وطني فنياً وثقافياً. ونعتقد أنه ليس سهلا القول بكون دراما بلدنا هي بخير وعلى خير مادام هناك تقنيات وتقنيون وقدرة إدارة تقنيات، فقد يكون هذا وعي بفهمٍ غير مقنع ولا شافٍ، على أساس أن ما هو تقني كيفما كان حجم وشأن طاقته لا يمكن التعويل عليه لوحده، وأن السؤال الحقيقي والصعب هو أين هي خصوصية المغرب والمغاربة في الابداع والمبدع الدرامي المغربي؟ وأين هي قضايا المجتمع المغربي وهوية المغاربة؟ وأين هي البصمة المغربية بفهم ولغة الباحثين والدارسين والاقتصاديين الانمائيين؟ وحتى إذا افترضنا جدلاً أن تراث البلاد وتاريخها وسسيولوجيتها وانسانها، هو بنوع من الحضور في فعل الدراما المغربية وأسئلتها، فكيف يتم تقديم ذلك وبأية وظيفية ايجابية للبلاد والعباد؟. *باحث بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين _ فاس مكناس