في إطار تقليد رمزي خلال الثاني من أكتوبر من كل سنة، وبنوع من الإجلال والإكبار يتم الاحتفال بذكرى انطلاق عمليات جيش التحرير بالمغرب، وبشمال تازة تحديداً حيث مثلث الموت الشهير. مناسبة بقدر ما هي عليه من تكريم لأرواح شهداء ملحمة الاستقلال، بقدر خلفيتها في علاقتها بتاريخ بلاد وذاكرة وطن وناشئة يؤمل أن تكون بصلة ووعي وإدراك وشعور واطلاع على ما أسهم به السلف من أجل ما هو عليه الخلف الآن. ولعل موعد تازة الرمزي الذي يتم إحياؤه مع بداية هذا الشهر سنوياً، يتقاسمه برنامج خاص بنوع من الانسجام والتعبير والتعظيم والاحتفاء بالحدث، يجمع بين ما هو رمزي وطني واجتماعي خدماتي بنوع من الالتفات والانصات لأسرة المقاومة وجيش التحرير، فضلاً عما هناك من أبعاد تربوية لفائدة النشء خدمة لِما هو تلاقح قيمي ومشترك جمعي وجداني وتقوية لروحِ مواطنةٍ وتعميق وتعزيز لروح انتماء. وإقليمتازة في علاقته بملحمة الكفاح المسلح من أجل الاستقلال، وبأرشيف سنوات حرجة من خمسينات القرن الماضي وما أنجز حولها من دراسات، فضلاً عما هناك من ذاكرة ميدان ومعارك وغيرها، هو مساحة معبرة بأحداث كبرى تجمع بين تفرد وعمق أثر وقوة دلالة رمزية تخص زمن بلادنا الراهن. وإذا كان الإقليم جبلاً وسهلاً وشجراً وحجراً قد أسهم بما أسهم وأبان عما أبان من كفاح مسلح بعد إقدام سلطاته على عزل سلطان البلاد الشرعي ونفيه، فإن ما عُرف بمثلت الموت ضمن مجاله شمالاً هناك في التماس مع ما كان يعرف بالمنطقة الخليفية، حيث أكنول وأجدير وتزي وسلي وبورد وحيث قبيلة اكًزناية إضافة لمنطقة تايناست وقبيلة البرانس، كان برمزية وموقع ونفوذ وصدى خاص خلال هذه الفترة الدقيقة من تاريخ مغرب السنوات الأخيرة لعهد الحماية. ومن علامات مكانة ودرجة حضور إقليمتازة وبواديه في ملحمة الكفاح المسلح من أجل الاستقلال، ترتيبه الأول وطنياً بحوالي ألفي مقاوم ومقاومة إلى عهد قريب، واحتواؤه على عدد من مقابر الشهداء تتقاسمها مناطق ونقاط كانت مشتعلة خلال فترة كفاح المغاربة المسلح ومواجهتهم للاستعمار رغم عدم تكافؤ القوة، تشهد على عظمة إنسان وقوة تشبث بكيان وتراث وامتداد وطن. وقد بات من الثابت على أساس ما تبين من أرشيف حول هذه الفترة، وما تم تقاسمه من معطيات تاريخية أجمعت عليها مذكرات مقاومين من قيادات وأعضاء في جيش التحرير، أن من مركز أكنول شمال تازة ومن قبيلة اكًزناية الشهيرة انطلقت عمليات جيش التحرير في ثاني أكتوبر 1955 كما كان مقرراً، ولعلها أول منطقة زارها السلطان محمد الخامس رحمه الله مباشرة بعد عودته من منفاه وإعلان استقلال البلاد. وقد جرى تقليد نبيل من قبل الجهات الوصية والسلطات والهيئات المحلية خلال بداية أكتوبر من كل سنة، رسخته منذ عقود المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، ترحما وتكريماً لأرواح شهداء ملحمة التحرير الذين كان لهم الفضل في استقلال البلاد وانعتاقها من نير الاستعمار بعد معارك مريرة في جبهات غير متكافئة القوة، فضلا عما لهذا التقليد السنوي بهذه المنطقة من إلتفات لذاكرة موطن ووطن معاً، وكذا من تعميق لقيم اعترافٍ بجميل من ضحوا بأرواحهم وصنعوا تاريخاً ومجداً وطنياً يستحق أن يظل عابراً للزمن والأجيال وعبرة ومشتركاً رمزياً وذاكرة، بقدر رهان الجهات الوصية على حمايتها وصيانتها وإبراز معالمها من خلال تحفيز عمل الباحثين والدارسين حولها، بقدر حرصها سنوياً لعقود على تنظيم زيارة ميدانية عبر مدار خاص برمزية مجالية وتاريخية ووطنية، تشمل نقاط مثلت الموت الشهير بتازة بحضور المندوب السامي لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير وسلطات الإقليم وأطر المندوبية الإقليمية وأسرة المقاومة وجيش التحرير، إضافة لعدد من مكونات المجتمع المدني المحلي. والمهم والأهم خلال هذه السنة بالإضافة إلى رمزية الاحتفاء بالذكرى المجيدة والترحم على الشهداء، هناك وقوف على ما شهده فضاء متحف إقليمتازة للمقاومة وجيش التحرير من ترميم وتهيئة وتجهيز، لدرجة تسمح بالحديث عن حلة جديدة يوجد عليها هذا المرفق الرمزي التاريخي، على إثر ما شهده مؤخراً من عناية وتأهيل ورد للإعتبار وعياً بما يمكن أن يسهم به لفائدة البلاد والعباد، من تعريف وتحسيس وتواصل وتنشيط وإشعاع وتنمية محلية وغيرها، من خلال ذاكرة وطنية تجمع بين الغنى والإثارة والسؤال، فضلاً عما هناك من تحف وأثاث رمزي بعلاقته مع مكان وزمان وإنسان. يبقى أنه كم هو جميل ومؤثر أن نقف على عظمة تاريخ بلادنا الوطني وتباين إسهامات جهاته فيه، وكم هو وجيه الآن وغداً تنظيم احتفاء سنوي هنا وهناك تكريماً لشهداء ملحمة المقاومة والكفاح من أجل الاستقلال. إنما الأجمل والمنتظر والمؤمل أيضاً أن نشهد تناغماً وتثميناً وتكملة وإغناء لِما هناك من جهود وما تحقق من تراكم، في أفق ما هو ثقافي وحاجيات ناشئة في زمن رقمي تحكمه تدفقات قيم وسلطة صورة وتعدد آليات تواصل وتأثير وتأثر، ومن أجل ذاكرة وتراث لا مادي فاعل في التنمية وحوار الإنسان والثقافات، ولتحقيق توثيق وأرشفة بلغة أكثر امتداداً وتوزعاً وتأثيراً وانسجاماً مع ما هي عليه ذاكرتنا الوطنية من غنى ورمزية تاريخية وتميز. من المفيد فضلاً عما هناك من أوراش بحث ودراسة وباحثين ودارسين ومهتمين وغيرهم، الانفتاح على ما لا يزال بحاجة لذلك لجعل الفني التقني في خدمة ما هو تاريخي حضاري وتراث رمزي وطني، كما بالنسبة لملحمة انطلاق عمليات جيش التحرير بربوع وجبال وغابات ومسالك قبيلة اكًزناية شمال تازة، ومعها منطقة تايناست وما كانت عليه من تماس وتفاعل زمن كفاح المغاربة المسلح من أجل استقلال البلاد قبل حوالي ستة عقود. أو كما بالنسبة لملحمة دينا الباخرة حيث البحر والمغامرة والأسرار والمفاجأة وتموين جيش التحرير بالسلاح، فضلاً عشرات فصول ذاكرتنا الوطنية التي بقدر ما هي عليه من غنى ووقائع وتفاعلات وإثارة وعِبَر وأمجاد، بقدر ما يمكن أن ينسج حولها من عمل فني على درجة عالية من الروعة والقيمة المضافة والتميز والتوثيق والاشعاع. ومن هنا ما يمكن أن يتحقق من أشرطة تاريخية وأفلام وثائقية، علماً أن ميادين الكفاح المسلح وجيش التحرير هي بمثابة استوديوهات مفتوحة متكاملة في الهواء الطلق، بحيث ما تزال معالم هذه الملحمة الوطنية قائمة منتصبة شاهدة في جميع جهات البلاد. وعلى مستوى مثلث الموت الشهير بتازة إلى جانب ما لا يزال عالقاً شاهداً في الطبيعة هنا وهناك من جسور ومغارات وبقايا أثاث من ثكنات ومعدات وبنايات وأبراج وبيوت ومقابر وغيرها، هناك ذاكرة حية ورواية شفوية وتقاليد وعادات وفاعلون كانوا في قلب الحدث ممن لا يزالون على قيد الحياة. فضلاً عما تراكم حول الكفاح المسلح بهذا المثلث الذي أرهب الفرنسيين وأذهبهم، من أبحاث ودراسات علمية رفيعة وتقارير ووثائق هامة توجد بحوزة المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير على مستوى خزاناتها التاريخية التي تتوزع على جميع تراب البلاد. مع أهمية الإشارة الى أنه من الأسف القول بأنه من العيب والعار أن لا نستثمر تاريخنا الوطنى فنياً وابداعياً، من خلال ثقافة صورة وسينما تجعلنا بوعاء سينمائي تاريخي وطني يليق بعظمة ذاكرتنا، وإسهام وتضحية سلفنا في ملاحم عدة مثلما حصل في ملحمة الكفاح من أجل الاستقلال وما طبعها من مجد وغيرة وحس وطني ومسؤولية. ومن العيب أيضاً أن يظل ويستمر مثلث الموت الشهير الذي زعزع كيان الاستعمار الفرنسي انطلاقاً من شمال تازة حيث أكنول وأجدير وتزي وسلي وبورد وتايناست...، بما هو عليه من إهمال ولا مبالاة كذاكرة ومشترك وهوية، ناهيك عما هناك من نزيف شفوي خاص بهذه الملحمة وفصولها ومكوناتها ومجالها، بسبب رحيل صناعها عن جيش التحرير باعتبارهم شهادات حية ذاتاً وموضوعاً، ما يعني فقدان ما هو بشأن نفيس في هذا المجال. فأية رؤية تجاه ذاكرتنا الوطنية من خلال سؤال الأرشفة الفنية والتقنية وسؤال الصورة والسينما المغربية؟ وأي تصور وقراءة وتمثل وتفاعل والتفات وتراكم للمؤسسات ذات الصلة كما بالنسبة للمركز السينمائي المغربي؟ وما قدر التاريخي الوطني الراهن في مساحة اهتمام واشتغال المعنيين والمهتمين من مخرجين وروائيين ومنتجين...؟ وما حصيلة خزانتا السينمائية في ضوء المنجز منذ الاستقلال الى الآن؟ وأية طروحات ورأي ومقترح ومخطط ونصوص وإمكانات وموارد وتشارك... من شأنها جعل بعض ملاحم ذاكرتنا تحت المجهر كفعل وتفاعل وإنجاز وسينما، على ايقاع ما تحقق بعدد من البلاد العربية من أعمال بهرمية وإثارة وتعبير وتوثيق واشعاع وإلتفات للذاكرة. وما ذلك على الله بعزيز فقط ما ينبغي من إرادة ونصوص علمية غير مدرسية، ومعها ملفات مكملة وهادفة مع وضع الإنسان المناسب في المهمة المناسبة، ولعل للمغرب كفاءات سينمائية عالية مبدعة نفتخر بها، إلى حين ما ينبغي من وعي سينمائي وسؤال حول الكائن والانتقال إلى المعين. *باحث بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين جهة فاس مكناس