تبعا للتوقعات السياسية التي سبقت التصويت، أكدت النتائج النهائية فوزا ساحقا للقوميين اليمينين في إيطاليا، حيث استطاع ماتيو سالفيني، وزير الداخلية وزعيم حزب "الرابطة"، من الحصول على أغلبية المقاعد بنسبة 34.4 بالمائة (9.655.298 صوتًا)، بينما حل الحزب الديمقراطي المؤيد للاتحاد الأوروبي ثانيا بنسبة 22 بالمائة. وقد اعتمد حزب "الرابطة" سياسة مناهضة المهاجرين واستراتيجية التخويف من الأجانب ودغدغة مشاعر المواطن العادي الذي عاد يشكو من تزايد عدد المهاجرين الوافدين غير الشرعيين، بعد أن شهدت إيطاليا موجة هجرة قوية لطالبي اللجوء واللاجئين. وفي غضون بضع سنوات، غيّر الوزير سالفيني جذريا حزبه، حيث تحول من حركة نضال من أجل استقلال المناطق الشمالية لما يسمى "بادانيا" إلى حزب وطني قوي، استطاع القفز من 4 بالمائة في عام 2013 إلى 34 بالمائة اليوم. وتؤكد البيانات هذه الطفرة، حيث تبين فوزه في شمال إيطاليا بأكثر من 40 بالمائة، وأكثر من 20 بالمائة في الجنوب والجزر، التي كانت تعتبر معقل حليفه حركة "خمس نجوم". من جهة أخرى، أصبح حزب "الرابطة"، اليوم، الأول في إيطاليا، وبفضل مقاعده ال 29 التي فاز بها في هذه الانتخابات، يؤكد أيضًا تفوقه داخل قبة البرلمان الأوروبي إلى جانب حزب ميركل الألماني. ماتيو سالفيني أصبح الزعيم بلا منازع في المشهد السياسي الإيطالي الحالي، هو الذي استطاع تحقيق أكبر عدد من التفضيلات: ما يعادل أكثر من مليوني شخص في جميع أنحاء إيطاليا. ما هو الوضع في إيطاليا بعد الانتخابات؟ اكتسحت "رابطة" ماتيو سالفيني، حليف مارين لوبان في أوروبا، 34.4 بالمائة، ما يعادل حوالي ضعف أصوات حليفه في الحكومة حركة "الخمس نجوم"، الخاسر الرئيسي في هذه الانتخابات، بينما احتل الحزب الديمقراطي الرتبة الثانية بحصوله على 22.7 بالمائة من الأصوات، وحصل حزب "فورزا إيطاليا" لسيلفيو برلسكوني على 8.8 بالمائة، بينما استطاع الحزب القومي واليمين المتطرف "إخوان إيطاليا" مضاعفة أصواته إلى7 بالمائة. وبفضل استراتيجيته، تمكن ماتيو سالفيني من استيعاب الأصوات من جميع الأحزاب الإيطالية الكبرى تقريبًا. فبالمقارنة مع الانتخابات السياسية لعام 2018، نجد أن أكبر تدفق للأصوات ذهب من حركة "خمس نجوم"، كما استطاع تجريد حزب "فورزا إيطاليا" لسيلفيو برلسكوني بشكل واسع من منتخبيه. بينما الحزب الوحيد الذي استطاع أن ينمو هو حزب "إخوان إيطاليا"، المعروف أيضا بعدائه الشديد للمهاجرين والإسلام على وجه الخصوص. أما بالنسبة للتيارات اليسارية المعتدلة، فالحزب الديمقراطي، الذي كان قد وصل إلى مستوى قياسي بنسبة 40 بالمائة في الانتخابات الأوروبية الأخيرة لعام 2014، حصل على نسبة تعادل 22 بالمائة واستطاع الظفر بالرتبة الأولى في بعض المدن الهامة مثل روما، ميلانو، تورينو وفلورنسا، وأصبح القوة السياسية الثانية في نابولي، مما يدل على انتعاشه بعد الانهيار خلال الانتخابات السياسية في عام 2018. بالرغم من ذاك لم يكتسح اليمين القومي البرلمان الأوروبي، ولم يتم القضاء على جميع الأحزاب الحاكمة التقليدية، كما تنبأ بذلك بعض المستشرفين. وفي أوروبا؟ أصبحت أوروبا مجزأة: لقد هَزت الانتخابات البرلمانية الأوروبية، التي انتهت يوم الأحد، النظام السياسي العام، وعلى الخصوص الأحزاب التقليدية التي سيطرت على الاتحاد الأوروبي على مدى العقود الستة إلى السبعة الماضية. مع ذلك، وعلى عكس ما كان من المنتظر، لم يكتسح اليمين القومي البرلمان الأوروبي، ولم تحدث "الموجة القومية" المزعومة، إذا نظرنا إلى البيانات الإجمالية للانتخابات في مختلف دول الاتحاد الأوروبي. بالتأكيد اكتسبوا مناصب، وسيكونون قادرين على وضع ثقلهم في خيارات الاتحاد الأوروبي وفي بعض القرارات المهمة. وفيما يتعلق بالمشاركة السياسية في الانتخابات بإيطاليا، فإن مشاركة المجتمعات ذات الأصل الأجنبي في حق التصويت لا تزال منخفضة للغاية، على الرغم من أن عدد أصحاب الحقوق السياسية يتجاوز مليونا ونصف المليون. هذا الرقم يعكس قلة الاهتمام، ولكن أيضًا الاهتمام والمشاركة الضئيلة للقوى السياسية. أرى أن جاليتنا المغربية في إيطاليا، الأولى بين الدول غير الأوروبية من حيث العدد، وذات قدرات واسعة على الانسجام في إيطاليا، يجب أن تكون على دراية بقوتها، وأن تعطي انطلاقة جديدة في مشروع بناء مسارات مشتركة واسعة النطاق وتتمتع برؤية طويلة الأجل. ما هي نقاط القوة في برنامج ماتيو سالفيني؟ المهاجرون: يقترح زعيم الرابطة إنشاء "الحواجز ومكافحة الهجرة من خلال حماية الحدود الخارجية وإعادة التوطين ومنع إعادة توزيع المهاجرين بين الدول الأوروبية". اما بالنسبة للمجال الاقتصادي فهو يروج لإعادة السيادة للدول والتغلب على التقشف الاقتصادي الذي يفرضه الاتفاق المالي الأوروبي، مع السماح بإدخال قدر أكبر من المرونة، التي كانت بالفعل محور صراع في الأشهر الماضية بين الحكومة الإيطالية وبروكسل، وعلى الخصوص ما تعلق بقانون الموازنة الأخير. قوة هيمنته المطلقة على شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، زيادة على شخصيته البارزة وانسجامه مع الناخبين وخبرته الطويلة في الميدان السياسي.. هي بعض البطاقات الرابحة التي لعبها زعيم الرابطة سالفيني، الذي تمكن من حصد والتقاط القلق والخوف الاجتماعي المتزايد بين الإيطاليين، نظرا لغياب الاستقرار الاقتصادي وتزايد البطالة خاصة في الضواحي. استندت حملة سالفيني على الدعاية لمساعدة الإيطاليين قبل الأجانب تحت شعار "الإيطاليون أولا". في هذ المجال، نذكر على سبيل المثال الضوابط الصارمة والضيقة التي فرضت على الأجانب المقيمين في إيطاليا للحصول على ما يسمى "دخل المواطنة"، الذي عرضته الحكومة لدعم الأسر التي تعيش أزمة اقتصادية. إذا كانت حركة "خمس نجوم" قد تميزت خلال السنوات الماضية بالتركيز على قضايا البيئة والطاقة المتجددة والاقتصاد المستدام ومكافحة الفساد، فإن الحزبين السياديين والقوميين الإيطاليين "الرابطة" و"فراتيلي ديتاليا" قد فرضا نفسيهما في الدفاع عن استقلال الاقتصاد الإيطالي، وخاصة منتجاته "المصنوعة في إيطاليا". ففي هذا المجال يعد فرض الضرائب على المنتجات الزراعية والغذائية المستوردة من بلدان شمال إفريقيا أحد مقترحاتهم التي يعتزمون إدخالها داخل البرلمان الأوروبي الجديد. والآن ماذا قد يحدث للحكومة الإيطالية؟ لفهم أفضل للسيناريو السياسي الحالي المعقد في إيطاليا، علينا أن نتذكر أن الحكومة الحالية تم تشكيلها من قبل حركة "خمس نجوم" و"الرابطة"، اللذين ينتميان إلى مسارين سياسيين مختلفين تمامًا، واللذين واجه كل منهما الآخر بمرارة خلال الحملة الانتخابية لعام 2018. فبعد سقوط أحزاب اليسار، التي شهدت سنوات من التناقضات والانقسامات الداخلية، نجحت حركة "خمس نجوم" في اعتراض خيبة أمل الناخبين واستيائهم المتزايد من الأحزاب السياسية، حيث قدمت نفسها كحركة معادية للنظام الذي حكم الدولة سنوات عديدة. وقد اجتاحت الانتخابات التي أجريت في 4 مارس 2018 بأغلبية 34 بالمائة تقريبًا، لكن النتيجة لم تكن كافية لتشكيل الحكومة بموجب القانون الإيطالي، مما أدى في غضون بضعة أشهر قليلة الى توقيع على ما يسمى "العقد الحكومي" مع حزب "الرابطة"، وانتخاب جوزيبي كونتي رئيسا للوزراء. ثلاث هي النقاط الرئيسية لحركة "خمس نجوم": دخل المواطنة، مكافحة الفساد وتعديل قانون التقاعد. أما بالنسبة إلى "الرابطة" فهي محاربة الهجرة السرية، وإيقاف الهجرة بإغلاق الموانئ، وإعادة المهاجرين غير الشرعيين إلى أوطانهم الأصلية، والدفاع عن الحدود الوطنية، والضرائب الثابتة بنسبة 15 بالمائة، والاستقلال الذاتي للمناطق الشمالية. وفي السنة الأولى للحكومة الإيطالية، تمكن ماتيو سالفيني من تحفيز كل الاهتمام حول شخصيته ومواقفه السياسية. وفيما يتعلق بمسألة الهجرة، التي أصبحت موضوعا رئيسيا وحساسا في النقاش السياسي الإيطالي، قدم سالفيني قانون المرسوم الأمني الذي فكك به مراكز ونظام استقبال طالبي اللجوء في إيطاليا، وإغلاق الموانئ، ومحاربة المنظمات غير الحكومية التي تتدخل لإنقاذ المهاجرين غير الشرعيين القادمين من السواحل الليبية من الغرق. وقد أصبح ذلك موضوع اشتباك يومي لسالفيني مع الكنيسة الكاثوليكية، والأحزاب اليسارية، وكذلك مع القضاء الإيطالي، وحتى مع الاتحاد الأوروبي الذي دعا في عدة مناسبات إلى احترام حقوق الإنسان، ولكن دون جدوى. وبالرغم من ذلك تمكن قائد "الرابطة" من تحويل هذه الانتقادات والاتهامات من خلال وضع استراتيجية إعلامية دقيقة وشرسة داخل الشبكات الاجتماعية والتلفزيونية تحت شعار "مصلحة الإيطاليين أولا وقبل كل شيء"، جذبت إليه انتباه وتضامن غالبية الإيطاليين. وهي استراتيجية سياسية كافأته فعلاً في هذه الانتخابات الأوروبية. من ناحية أخرى، فإن حليفه الحكومي حركة "خمس نجوم"، الذي دخل أزمة عميقة بعدما أضعفته هذه الحملة الانتخابية الأوروبية بشكل كبير، سيواجه ضغوط الأجندة السياسية لحزب سالفيني على المستوى الحكومي. وتشير الأرقام إلى أن الوضع انعكس تماما مقارنة بالانتخابات السياسية الأخيرة في 4 مارس. هذه البيانات تشهد على ما ظهر في استطلاعات الرأي في السنوات الأخيرة، التي أثبتت أن المستفيد الأساسي من هذا التحالف الحكومي هو حزب سالفيني، وأنها كانت سلبية للغاية بالنسبة إلى حركة "خمس نجوم". وعلى الرغم من أن ماتيو سالفيني سارع فور انتهاء الانتخابات الأوروبية لصالحه للتأكيد على استقرار الحكومة وعدم الرغبة في طلب إجراء أي تعديل حكومي لصالح حزبه، فقد أشار في المقابل إلى حليفه على ضرورة موافقته على مختلف القضايا العالقة. فعلى وجه الخصوص، طلب الزعيم سالفيني إجراء تصويت إيجابي للسماح بإنجاز الأعمال المتعلقة ب TAV (النقل السريع للبضائع بين إيطاليا وفرنسا )، الحكم الذاتي، الضريبة الثابتة ومرسوم الأمن الثاني (الذي يشمل دفع غرامة تتراوح بين 10 و50.000 يورو للمنظمات غير الحكومية التي تحمل المهاجرين إلى الموانئ الإيطالية ومصادرة السفينة، بالإضافة إلى اتهام المسوولين بمساعدة الهجرة غير الشرعية). وفي واقع الأمر يرى المراقبون والمحللون أن زعيم حزب "الرابطة" يعتزم إرسال رسالة تحدٍ واضحة لحليفه في الحكومة، حيث إن هذه المقترحات تعد خطاً أحمر لحركة "خمس نجوم"، التي تتعارض مع مواقفه في هذه القضايا. من ناحية أخرى، يسلط سالفيني الضوء على قيادته للحكومة من أجل تنفيذ أجندته السياسية. فمع ضعف لويجي دي مايو زعيم حركة "خمس نجوم"، وهو كذلك نائب رئيس الحكومة ووزير التنمية الاقتصادية، بسبب هذه الانتخابات ، يرى المراقبون احتمالا كبيراً في زيادة حدة النزاعات بين الحليفين في الأشهر المقبلة، والتي من المفترض أن تؤدي إلى أزمة الحكومة. ووفقًا للعديد من المحللين، فإن فتح الأزمة الحكومية، مع التصويت المسبق، قد لا يستمد كثيرًا من مطالبة حزب سالفيني بالاستفادة من هذا الدعم الانتخابي الاستثنائي، ولكن من صعوبة حركة "خمس نجوم" مواصلة هذه المغامرة الحكومية في ظل حكم "الرابطة"، حيث يتضح أن أغلب ناخبي ومساندي حركة "خمس نجوم" لم يرضوا بهذا التحالف الحكومي مع سالفيني. ومن المتوقع، حسب العديدين، أن يحدث الاصطدام الأخير بين الحلفاء في الحكومة في الأشهر المقبلة، حيث يتعين على السلطة التنفيذية مواجهة أصعب اختبار، وهو البحث وضمانة المليارات اللازمة لتحقيق مناورة اقتصادية، مناورة يمكن أن تنزل بثقلها على كاهل الديون الإيطالية، وبشكل مباشر على جيوب الإيطاليين. ويبدو أن ناقوس خطر عدم الاستقرار السياسي صار قاب قوسين أو أدنى. إذ أصبحت الدراما الرئيسية تتعلق بالمواطنين، حيث إن البيانات الإحصائية أكدت تزايد الامتناع عن التصويت، وهي علامة واضحة على الرفض والسخط على رجال السياسة غير القادرين على ضمان الاستقرار السياسي. ففي الفترة بين 2013 و2018 تشكلت ثلاث حكومات مختلفة. والسؤال الذي يطرحه الكثيرون هو: من سيتخلى أولاً عن التحالف الحكومي القائم؟ وبأية استراتيجية أو مبرر أمام الناخبين؟ ومن سيرغب في تجنب مواجهة مناورة مالية محتملة تجبر على زيادة الضرائب لتغطية الدين العام؟ فخلال هذه الأيام راسلت المفوضية الأوروبية الحكومة الإيطالية طالبة إياها تبرير عدم إحراز تقدم إيجابي من أجل الامتثال لقاعدة الديون في عام 2018. وباختصار شديد سيتعين على الحكومة اتخاذ إجراءات في غضون حوالي خمسة أسابيع لتصحيح الوضع من خلال تنفيذ مناورة إضافية وفورية قادرة على تخفيف العجز والديون، وبالتزامات محددة (أي تصحيح ما يعادل 23 مليارا حسب المحللين) لعام 2020. *باحث وخبير في التواصل والإعلام بروما - إيطاليا