شهد المغرب، في السنوات الماضية، إطلاق مشاريع تنموية كبيرة ذات أثر بالغ وبتكلفة مالية تقدر بملايير الدراهم، تعاضدت فيه مساهمات الدولة ودول وشركاء أجانب، وتنوعت مجالاتها ما بين البنية التحتية الطرقية والطاقة الشمسية وتقوية بنيات التصدير والأعمال. من بين هذه المشاريع نجد مشروع "نور" للطاقة الشمسية بورزازات، وهو أكبر مركب للطاقة الشمسية في العالم، ثم "قطار البراق" السريع الذي يربط بين طنجة والدار البيضاء، إضافة إلى "بُرج محمد السادس"، وصولاً إلى ميناء "طنجة المتوسط"، أكبر ميناء تصديري في البلاد. في هذا المقال، سنتطرق لميناء طنجة المتوسط الذي افتتح سنة 2007، وأصبح في يومنا أبرز ممرات التجارة العالمية، وبوابة المغرب البحرية تجاه دول العالم، وهو اليوم أول منصة للاستيراد والتصدير في البلاد. جاء الإعلان عن هذا المشروع غير المسبوق في المغرب في ذكرى عيد العرش سنة 2002، أعلن فيه الملك محمد السادس قرار إنجاز أضخم مركب مينائي وتجاري وصناعي على ضفاف البوغاز شرق طنجة، وكان الأمر يتخطى مجرد إنجاز بنية تحتية مينائية إلى بناء وتدبير مشروع متكامل ذو أبعاد متعددة اقتصادية وإقليمية. كان ميناء طنجة المتوسط من ضمن المشاريع الاقتصادية العملاقة التي أشرف على إطلاقها الملك محمد السادس في بداياته توليه العرش، حيث أعطى سنة 2003 انطلاق أشغال أشغاله وقال في خطاب آنذاك: "ها نحن نقدم، اليوم، بعون الله وتوفيقه، على إعطاء الانطلاقة لمشروع من أضخم المشاريع الاقتصادية في تاريخ بلادنا. إنه الميناء الجديد لطنجة المتوسط، الذي نعتبره حجر الزاوية لمركب ضخم مينائي ولوجيستي صناعي وتجاري وسياحي". وأضاف الملك أن هذا "المشروع يعمق جذور انتماء المغرب إلى الفضاء الأورو متوسطي وإلى امحيطه المغاربي والعربي، ويعزز هويته المتميزة كقطب للتبادل بين أوروبا وإفريقيا وبين البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، ويدعم دوره المحوري كفاعل وشريك في المبادلات الدولية موطداً اندماجه في الاقتصاد العالي". ونظراً لتموقع الميناء ضمن حركة التبادلات التجارية العالمية، فإن نجاحه كان مرهوناً منذ تصوره بالقدرة على تنفيذ مشروع يرتقي إلى المعايير التي يتوفر عليها منافسوه وكبرى المنصات المينائية والصناعية واللوجستيكية العالمية. ولمواجهة كل هذه التحديات وتحقيق الالتزامات في الآجال المسطرة وضرورة التحكم في تكلفة المشروع وآثاره على الشأن المحلي، ارتأت الدولة المغربية آنذاك أن تعمل وفق منهاج حكامة مبتكر من خلال إنشاء كيان خاص سنة 2003 يتمثل في الوكالة الخاصة طنجة المتوسط. أُسست هذه الوكالة عبارة شركة مساهمة ذات مجلس إدارة جماعية ومجلس رقابة يتكون أعضاؤها من وزراء ومسؤولين تابعين للمؤسسات العمومية المعنية، وقد خولت لها صلاحيات عمومية تشمل مهمات السلطة المينائية والمناطق الحرة. في 27 يوليوز من سنة 2007، أشرف الملك على تدشين الرصيف الأول للحاويات بطنجة المتوسط، وعُهد تدبيره إلى الرائد الدولي Maersk APM Terminals ؛ وهو ما مكن المغرب من تموقع جديد على خريطة التجارة الدولية. وبعد عقد من الزمن، توج ميناء طنجة المتوسط برصيفيه للحاويات ومينائه للمسافرين والبضائع بالنجاح، حيث ارتقى إلى مركز لوجستيكي رائد بالبحر الأبيض المتوسط وإفريقيا. وبفضله صُنف المغرب من طرف مؤتمر الأممالمتحدة للتجارة والتنمية في المرتبة ال16 سنة 2017 في مؤشر الربط البحري، مقابل المرتبة ال86 قبل عشر سنوات من ذلك. يشمل المركب المينائي طنجة المتوسط على ميناء طنجة المتوسط 1 الذي يضم محطتين للحاويات ومحطة للسكك الحديدية ومحطة للهيدروكربونيات ومحطة للبضائع المختلفة ومحطة للسيارات، إضافة إلى ميناء طنجة المتوسط 2 بمحطتين للحاويات. كما يشمل المركب ذاته ميناء طنجة المتوسط للرُكاب، الذي يضم مناطق الدخول ونقاط للتفتيش الحدودية وأرصفة صعود الركاب وصعود شاحنات النقل الدولي ومناطق الإجراءات والمرفأ البحري، ناهيك عن المنطقة الحرة اللوجيستية، ومركز الأعمال طنجة المتوسط، وهو مُخصص لاستقبال الشركات وتحديد أماكن الأنشطة الضمنية اللازمة لإدارة المركب المينائي طنجة المتوسط. حصيلة إيجابية يوفر ميناء طنجة المتوسط ربطاً دولياً يُغطي ما يقرب عن 186 ميناءً و77 دولةً في خمس قارات، فهو يوفر ربطاً على بعد 10 أيام من أمريكا و20 يومًا من الصين، وفي القارة الإفريقية يخدم الميناء 35 ميناءً و21 دولة في غرب إفريقيا عن طريق الرحلات الأسبوعية. ويعتبر طنجة المتوسط أكبر من مجرد ميناء كبير لنقل البضائع والركاب، فميناؤه المخصص للركاب والسيارات يتمتع بسعة كبيرة، فهو مزود بثمانية مواقف يمكن أن تستقبل ما يزيد عن 7 ملايين راكب و700,000 شاحنة للنقل الدولي؛ وهو ما يجعله جسراً بحرياً حقيقياً يربط بين أوروبا وإفريقيا، حيث يسمح بعبور السفن البحرية في المضيق في أقل من 45 دقيقة. بالإضافة إلى كونه ميناءً، فطنجة المتوسط عبارة عن منصة لوجستية وصناعية متكاملة، مُتصلة بشبكة نقل مُتعددة الوسائط، من خطوط سكك حديدية وطرق سريعة، من أجل نقل البضائع والركاب إلى كافة المناطق الاقتصادية بالمملكة. ويتم تشغيل المحطات وكذلك جميع أنشطة الميناء بموجب عقود الامتياز التي يتم إبرامها مع شركات معروفة على المستوى العالم. ويضم ميناء طنجة المتوسط في صفوفه أكبر الترسانات العالمية لتجهيز السفن (Maersk، وCMA CGM، وMSC …) بالإضافة إلى شركات رائدة في مجال الموانئ مثل APM TERMINALS و EUROGATE. بعد سنوات من التطوير والاستثمار، حقق ميناء طنجة المتوسط نتائج مبهرة، فأرقام سنة 2018 تؤكد مكانته كأول منصة مغربية للصادرات والواردات، حيث عالج ما مجموعه 317 مليار درهم. ساهم هذا الميناء في تصدير بضائع بقيمة تصل إلى 139 مليار درهم، أي ما يعادل 50,6 في المائة من مجموع الصادرات المغربية، حيث وصل الحجم الإجمالي للبضائع التي تمت معالجتها خلال السنة الماضية ما يناهز 52 مليونا و240 ألفًا و806 أطنان. أما الحاويات، فقد بلغ عددها خلال السنة الماضية 3 ملايين و472 ألفا و451 حاوية من حجم 20 قدماً، هذا بالإضافة إلى تسجيل حركة مرور بلغت مليونين و802 ألف و108 مسافرين. وحققت حركة شاحنات النقل الدولي نمواً بنسبة 14 في المائة مقارنة مع سنة 2017، وذلك راجع بالأساس لارتفاع صادرات البضائع الصناعية والغذائية، حيث سجلت حركة مرور 326 ألفًا و773 وحدة للنقل الدولي. وتفيد معطيات الميناء أن معالجة السيارات الجديدة عرف نمواً بنسبة 11 في المائة خلال السنة الماضية، حيث تمت معالجة 479 ألفًا و321 سيارة جديدة بالمحطتين المخصصتين للسيارات بميناء طنجة المتوسط. كل هذه الأرقام تؤكد أن ميناء طنجة المتوسط مفخرة كبيرة للمغرب والمغاربة، وهو فرصة تاريخية وجغرافية تتمناها كل دولة في العالم؛ فالربط بين قارتين، إفريقيا الغنية وأوروبا المتقدمة، هو حلم كل اقتصاد في عالمنا اليوم. مشروع كهذا يتوجب أن يواكبه اقتصاد قوي ومهيكل ومتنوع يستفيد من كل الفرص الاقتصادية التي يوفرها لجني ثمار هذا الاستثمار الضخم، لتحقيق أقصى مستويات النفع على منطقة الشمال والبلاد بصفة عامة. كما يتوجب أن يشجع هذا المشروع على بناء موانئ أخرى على طول الشريط المتوسط، لانتهاز كل فرصة ثمينة لدفع الاقتصاد الوطني.