ليس غريبا أن يبقى صوت المقاطعة والرفض للحكومة الجديدة وللمسلسل الديمقراطي برمته حاضرا في الشارع ،إذ ليس مطلوبا أن يكون الناس على قلب رجل واحد ، ولكن الغير مقبول هو أن يضع بعض أصحاب المقاطعة أنفسهم في موقع تقديم الدروس للآخرين وتحديد ما يجب أن يكون مما لا يجب، وهم الذين اختاروا أن يقاطعوا الدستور والانتخابات ، فلا يستقيم من الناحية الأخلاقية الكفر بالدستور وفي نفس الوقت الإيمان ببعض فصوله ،مما يؤكد أن بعض المقاطعين فوتوا على المغرب فرصة تاريخية كان بإمكانها الدفع في اتجاه تغيير أفضل أحسن مما كان، وكان سيكون لمواقفهم وقع لو دعموا تيار المشاركة من داخل المؤسسات في إطار تكامل الأدوار بدل الدفع بحركة الشارع في اتجاهات تصعيدية بلا سقف واضح مما جنى عليها وحد من شعبيتها ومن مشاركة بعض الأحزاب الوطنية التي راجعت مواقفها من الحراك الشعبي لعدم وضوح أفقه,والمقاطعون صنفان . الصنف الأول والذي كانت مواقفه مبنية على أسس متينة ومنطقية من خلال الحديث عن بعض التفاصيل وبعض الأمور التي كان يجب أن تزول بنزول الدستور الجديد إلا أنها مازالت مستمرة مما لا يفسح المجال إلى تنافس انتخابي حقيقي وهذا الصنف أميل إلى دعم الحكومة الجديدة ومساندتها من أجل التنزيل الجيد لبنود الدستور إيمانا منه بأن المغرب يتجه فعلا نحو التغيير بعد انتخابات نزيهة إلى درجة مقبولة لدى الجميع . وهناك الصنف العدمي الذي لا يرى في كل ما تم إلا مسرحية ، لا يرى في نسبة 45 في المائة من المشاركة إلا رقما اصطناعيا ، لا يرى في فوز العدالة والتنمية إلا تواطئا وصفقة مع المخزن.هذا النوع من التحاليل أو التحامل هو المعني في مقالنا هذا. مع الأسف الشديد هناك من يحاول النظر للمغرب بنظارات سوداء ولا يرى من الكأس إلا نصفها الفارغ وينسى أنه من السهل الانتقاد والاتهام والتخوين ، لكن ليس من السهل مجابهة الفساد جنب إلى جنب والدخول عليه من كل الأبواب ، فالانتقاد من بعيد لعمري أسهل الأمور وسبيل العاجزين . لقد كان على المبشرين ب" لا" المقاطعة والمكتسحة استفتائيا وانتخابيا معا أن ينتظروا ويتريثوا حتى يروا كيف ستدبر الحكومة الجديدة ورئيسها أشهرها الأولى من حكمها ، لكنهم فضلوا الحكم على كل شيء قبل ولادته من خلال سياسة الرجم بالغيب التي كذبتها الأرقام والصناديق ، و صار التعاطي مع السياسة عند هؤلاء من خلال عقل نمطي ترسخت في سلوكه مسلمات صارت يقينية وأهمها " ألا كل شيء خلانا باطل " بمعنى إما أن يكون لهؤلاء ما يريدون وتفصل الأمور على مقاسهم وإلا فكل ما نتج من مؤسسات وبرلمان باطل فاقد للشرعية .ومن غريب الأمور أن بعضهم جزم بأن نتائج الانتخابات ستكون كما أرادها المخزن لصالح الجي 8 أي التراكتور ومن معه ،لأن المخزن رتب كل شيء فهو لا يحب المفاجآت. وبعد أن فاز العدالة والتنمية تحول هؤلاء إلى مخرجي السيناريوهات وأصبح بعضهم يرسم معالم المرحلة المقبلة ويصنف الفاعلين السياسيين ويمنح شواهد حسن السيرة ويرسم الخطوط الملونة للحكومة وكيف ستتعامل مع القضايا الفلانية والعلانية ، أسلوب أقل ما يمكن القول عنه إنه الضلال السياسي بعينه. فبعد أن استبعد فوز حزب العدالة والتنمية وحكم عليه بالإفلاس السياسي بعد موقفه من 20 فبراير ، وموقفه من الدستور، وأقيمت المشانق لأمينه العام ، ونودي في أندية المقاطعة أن لا تخافوا ولا تحزنوا فأنتم الأعلون إن كنتم مقاطعون ، عاد هؤلاء ألان ليعطوا الدروس لرئيس الحكومة وما هو مطلوب منه ، وخير رد عليهم هو المثل المغربي "اللي طلقها ما يوريها دار أبوها ". لقد بعثر الشعب المغربي كل حسابات الحاسبين وغير موازين القوى ، وليس غريبا أن يمنح 83 في المائة من المغاربة ثقتهم لرئيس الحكومة الجديد ، نسبة لم تحددها وزارة الداخلية ولا رجم بها المنجمون ، ولا حلم بها النائمون , و قد لا تجد في المغرب من ليس متفائلا بهذا التعيين حتى أن من لم يصوت للعدالة والتنمية ومن قاطع تمنى لو صوت . إن المعركة مع الفساد وتفكيك دولة المخزن لا تتأتى بالكلام ، وإنما بالقول والفعل ، وما يقع ألآن في المغرب يسير في هذا الاتجاه .فأن تخرج هندسة الانتخابات، رغم كل الإحتياطات ،عن سيطرة الداخلية ليس أمرا هينا ، وقد سبق وان أشرنا في مقال سابق أن من بين الأسباب التي ساهمت في نجاح حزب العدالة والتنمية هو كسر هذه السيطرة. كما أن تفسير ما تم من تعيينات ملكية أخيرة بشكل سلبي أمر خاطئ ، بل يصب في اتجاه تقوية دور رئيس الحكومة المعين والذي إلى حد ألان ليست له أية سلطة، والغريب أن أحدهم كتب عن عدم استدعائه لقاعة العرش وفي مجلس الوزراء لتعيين السفراء ، تالله لأنه الغباء بعينه . فلازال عباس الفاسي رئيس حكومة تصريف الأعمال إلى حين أداء الحكومة الجديدة اليمين والحصول على ثقة البرلمان. وتعيين السفراء لا يتم بين عشية وضحاها بل بعد موافقة الدولة المستضيفة بمعنى أن إجراءات تعيين السفراء كانت ضمن الأجندة الملكية حتى قبل تعديل الدستور. أما ما يتعلق بقرارات الملك فهو حر فيها وهي تخصه في من يختاره لشغل منصب المستشار .فهل مطلوب من رئيس الحكومة الجديد إصدار بلاغ بعدم تقبله قرارا ملكيا صرفا يخصه ؟ وهل مجرد تهنئة شخص صارت أمرا يستحق التخوين والاتهام.إن الخلاف بين العدالة والتنمية وعالي الهمة لم يكن شخصيا وإنما كان سياسيا من خلال موقعه السياسي داخل الحزب وهذه الصفة التي يصفه بها الإعلام صفة "صديق الملك " ومؤسس الحزب المعروف ،هي من كان سبب الاختلاف .واللبيب لا يحتاج إلى تفصيل بين ما هو شخصي محض وما هو سياسي .أما لما ابتعد الشخص عن الحزب و أخد صفة رسمية بالمؤسسة الملكية فتصرفاته الآن ستحسب على الملك وسيبقى هو المسؤول عنها لا الآخرين . فتأويل التهنئة وعلاقتها بالكراسي أمر بعيد عن حسن الظن بالناس . وحسن الظن أمر يصعب على الكثيرين فهمه، ومن بينه أن مواقف حزب العدالة والتنمية لم تتبدل ولم تتغير وموقف قياداته وخاصة الأمين العام لم تتغير قيد أنملة في 20 فبراير ولا في غيرها، لأنه عندما يتحدث عن مصلحة الوطن فإنه يعنيها بالفعل ،ولا يزايد ولا يمارس السياسية من أجل السياسية ، ولا تهمه المناصب .ولم يسجل قط أن فاوض الحزب على المناصب مقابل مواقف سياسية. ووقوفه إلى جانب النظام في بعض القضايا ليس ضد أحد وإنما من أجل مصلحة الوطن . والمغاربة لم يمنحوا أصواتهم للعدالة والتنمية عبثا وإنما خبروا صدق مرشحيه الذين تأكد صدقهم ومطابقة أقوالهم لأفعالهم، فليس غريبا أن يشتد الخناق على الحزب من جهة ومن جهة أخرى تعرض الملايين على مناضليه ومستشاريه مقابل تغيير انتمائهم، لقد كان "حزب الدولة " مستعد أن يدفع وزن النائب الواحد ذهبا لكنه فشل في استقطابهم بعد أن كانت تنقصهم التوابل الإسلامية فلم يجدوها إلا في النهضة والفضيلة. إن أسباب المقاطعة لم تعد متوفرة و بدأت تختفي يوما بعد يوم ،واشتراط تهيئ الظروف الكاملة لمنافسة شريفة وديمقراطية كاملة، كشرط للمشاركة أمر مضحك ، فالمشاركة اليوم أنفع وأحسن للوطن والمواطنين ،أما غدا حين تتهيأ الأمور فلا حاجة لمشاركة المقاطعين ،إلا إذا كانون يريدون إعادة إفساد الأجواء فهذا منطق آخر . إن إيديولوجية المظلومية والبكاء على إطلالها انتهى زمانها ، والشعب المغربي دفع في اتجاه التغيير السلمي وأعطى دعما ومعنى للمشاركة وسحب البساط من تحت المقاطعين ، أي رسالة أبلغ يريد هؤلاء أن يرسلها لهم الشعب. كما يحاول البعض إظهار الزهد الفارغ والتعفف من خلال ربط المشاركة بالكراسي واتهام الآخرين بالسعي وراءها ، فهناك فرق كبير بين مناصب الترضية وشراء المواقف وبين المناصب المستحقة انتخابيا والتي يمنحها الشعب ثقته في حزب معين ،وليس مقبولا أن يتركها الحزب الفائز لأحد غيره حتى لا يتهم بالسعي وراء المناصب، فلا يكون بذلك معنى لصوت الشعب ولا للانتخابات . وهذا اللغط كله هدفه التشويش من خلال تقزيم المشاركة في المناصب وحدها . لقد دخل المغرب عهدا جديد ، فلأول مرة يحظى المغاربة برئيس حكومة ذو شعبية واسعة ومقبول لدى الجميع ، ولأول مرة تناقش الأحزاب المغربية في هيئاتها الوطنية قرار المشاركة في الحكومة وفي تحديد عدد المناصب الوزارية بعد أن كانت الأسماء تحدد في الخفاء وتسلم للوزير الأول لتلاوتها . إن المقاطعة والمقاطعين لم يفت أوانهم بعد، فبإمكانهم أن يدعموا الحكومة الجديدة حتى تقدر على مجابهة المفسدين ، فالمعركة ليست معركة بين الحكومة والقصر كما يحاول البعض تصويرها وإنما هي معركة مع لوبيات الفساد المعششة في الإدارات العمومية والمجال الاقتصادي وغيره.فإذا وقف المقاطعون مند اليوم الأول ضد رئيس الحكومة قبل تسلمه مهامه فكيف سيكون موقفهم غدا .إن الاستباق نحو تبني موقف مواجهة الحكومة الجديدة لا يخدم مصلحة الوطن و إنما يخدم الفساد والاستبداد ويضعف الحكومة ويشتت جهودها وتركيزها ، فمن شاء فل يقل خيرا أو ليصمت ،لأن الشعب قال كلمته من لم يشارك فلن تقبل منه شكاية .