نتطرق من خلال هذه السلسلة (28 مقالا) لاستعراض محطات فكرية وأطروحات فلسفية أنارت طريق الحضارة الغربية في تعاملها مع مسألة حقوق الإنسان التي برزت بشكل يزداد ثقلا وعمقا منذ الربع الأخير من القرن العشرين، والتي تحمل في ثناياها إيديولوجية القرن الواحد والعشرين المفتوحة على كل الاحتمالات. إن الاعتبارات النقدية الواردة في هذه المقالات ليست من باب التسرع في إصدار أحكام القيمة، ولا من باب التحامل المبني على الآراء الجاهزة والاندفاعات العشوائية المتطرفة، وإنما هي قراءة موضوعية في بعض مرجعيات الفكر الفلسفي الغربي الذي تتغذى عليه منظومة حقوق الإنسان المعاصرة. 28/13- فرنسيس بيكون وبناء أسس المدنية الحديثة يجب علينا المراهنة بانتصار العلم على قوى الطبيعة، وحتى لا تذهب الجهود المبذولة أدراج الرياح يجب علينا إحداث ثورة في وسائل البحث والتفكير بهدف تأسيس نظام علمي يدعمه منطق جديد أفضل من منطق أرسطو، منطق يلائم معطيات العصر وينخرط في مناخ الآفاق الرحبة التي يفتحها هذا العالم أمام أذهاننا. هذه باختصار شديد عناصر المشروع الفكري للفيلسوف الإنجليزي فرنسيس بيكون (1561-1626)، ولا شك أنه كان لتحولات عصر النهضة أثر بالغ في تكوين شخصية هذا الفيلسوف ورجل السياسة المنتمي للمذهب التجريبي البراغماتي. ومن جملة هذه التحولات هناك على الخصوص انتقال الحركة التجارية من المجال المتوسطي إلى المجال الأطلنطي كنتيجة لاكتشاف أمريكا، ترتب عنها احتلال الشعوب الأطلنطية الأوربية مركز الصدارة في كل من إسبانيا وفرنسيا وهولندا وإنجلترا، فيما تراجع النفوذ التجاري الإيطالي الاحتكاري، وانتقلت مظاهر النهضة الأوربية ونشاطها من فلورنسا وروما وميلانو والبندقية إلى مدريد وأمستردام ولندن وباريس. وكان سقوط القسطنطينية في دوامة الأزمات الداخلية السبب الرئيسي في تكريس انحطاط العالم الإسلامي الذي كانت الإمبراطورية العثمانية حاملة لمشعله الحضاري في مواجهة الغرب المستيقظ من سبات القرون الوسطى. وعلى صعيد آخر كان لتدمير الأسطول الحربي الإسباني -لارمادا- سنة 1588 الوقع الحاسم بالنسبة لتوسيع النشاط التجاري الإنجليزي على الصعيد العالمي. ومما لا شك فيه كذلك أنه كان لانتماء فرنسيس بيكون إلى أسرة لندنية عريقة لها علاقة وثيقة بالبلاط، أثر على تشكيل شخصيته وانفتاحه على التوجهات السياسية العالمية، سيما وأنه اكتشف جوانب عملية من هذه السياسة وهو ما زال يافعا، حيث التحق بالسفارة البريطانية في باريس ليعمل إلى جانب سفير بلاده. إنه حدث ترك بصمات عميقة في فكره السياسي و الفلسفي، وقد جاءت إشارات واضحة بهذا الصدد في كتابه "تفسير الطبيعة" حيث قال في المقدمة : " لقد اعتقدت بأنني ولدت لخدمة الناس، وقدرت أهمية الخير العام بأن أكرس نفسي لخدمة الواجبات والحقوق العامة، التي يجب أن يتساوى فيها الجميع كمساواتهم في استنشاق الهواء والحصول على الماء، لذلك لقد سألت نفسي عن أكثر الأمور نفعا للناس، وماهي المهمات التي أعدتني الطبيعة لأدائها، أو ما هي المهمات التي تتناسب مع مؤهلاتي الطبيعية، وبعد البحث لم أجد عملا يستحق التقدير أكثر من اكتشاف الفنون والاختراعات وتطويرها للرقي بحياة الإنسان". إن أهمية المبادئ عند بيكون تكمن أساسا في نتائجها العملية، وتمجيده للعقل لا غبار عليه، والعقل عنده هو الإنسان، والمعرفة هي العقل، وليس الإنسان إلا ما يعرف. البناء العظيم إن ما كانت تؤكد عليه فلسفة بيكون وتعمل على تجسيده على أرض الواقع الملموس هو ضرورة قيام العلم على معايير تجريبية بهدف تحقيق نتائج معينة ترمي إلى إسعاد البشرية. وهذا المشروع الطموح الذي يرتكز على قاعدة عملية أكثر منها نظرية هو ما دفعه ليسميه "البناء العظيم"، معتبرا المعرفة كقوة حقيقية وليست نقاشات جوفاء أو أفكارا تجريدية قد يلجأ إليها الإنسان لتبرير مواقفه أو للتبجح والحذلقة المعرفية العقيمة، ويعلل ذلك بقوله:" أنا الآن أعمل لوضع أساس لا لمذهب أو مبدأ، ولكن لفائدة قوة فاعلة. إن قصدي أن أحيط بالمعرفة، وألاحظ الأجزاء المهملة والمغفلة التي تخلى عنها الإنسان ولم يتناولها بالتهذيب. وأن أعمل بتخطيط صادق على حفز النشاط بين الأشخاص الذين يعملون في المجالات الخاصة والعامة لتحسين المجالات المهجورة أو المتروكة". من أجل ذلك اعتمد بيكون منهجا جديدا في الاستقراء، ووضع برنامجا في ثماني نقاط: 1- تصنيف شامل للعلوم المتداولة والمعروفة، 2- اعتماد مبادئ أساسية يقوم عليها تفسير للطبيعة، 3-جرد لحصيلة المعطيات التجريبية المبنية على الملاحظة، 4- القيام باختبارات تجريبية، 5- اعتماد نهج الاستقراء بمفهومه الجديد قصد التحصيل المعرفي، 6-العمل على تعزيز هذا المنهج العلمي الجديد وتوفير الشواهد لبيان نجاحه، 7- إثبات التعميمات التي يمكن استقراؤها من الظواهر الطبيعية، 8- وضع أسس ومرتكزات لفلسفة شاملة في الطبيعة. كان بيكون على بينة تامة من طموح مشروعه، بحيث لم يستطع إنجاز إلا الجزء المتواضع مما سطره، لكن هدفه في الواقع كان قبل كل شيء هو وضع أسس جديدة لبناء الفكر العلمي، وهو في ذلك يقول: "حسبي أن أكون قد ركبت الآلة، وما علي إذا كنت لم أشغلها". وككل مشروع جديد فإن نظرية بيكون تضع بينها وبين النظريات السابقة خطا فاصلا، معتبرة أن خطأ الفلسفة اليونانية الفادح هو كونها اقتصرت على الجانب النظري وأهملت بشكل كبير فوائد الملاحظة وانعكاساتها على تطور البحث العلمي، بمعنى أن الفكر يجب أن يكون مساعدا للملاحظة وليس بديلا لها. وهكذا بعد ألفي سنة من اجترار المنطق الأرسطي من غير تعديله وإغنائه بإسهامات جوهرية سقطت الفلسفة إلى درجة لم تعد فيها تحظى باحترام وتقدير الناس. بعبارة أخرى، يجب القذف بعيدا بنظريات الماضي من خلال تطهير العقل من الأوهام والترسبات الخرافية التي بقيت عالقة به لمدة قرون. وهذه الأوهام هي بمثابة معبودات وثنية رسم لها بيكون خطة من أربعة محاور للقضاء عليها قبل الشروع في العمل وفقا للنهج ألاستنتاجي التجريبي الذي يقترحه. والمحاور هي: - أوهام أو خرافات القبيلة، ويعني بها الطبيعة البشرية القاضية بالاعتقاد أن الحواس تعطى معرفة صحيحة ومباشرة عن الواقع، بينما العكس هو الصحيح لأن إدراكات الإنسان العقلية والحسية هي قبل كل شيء تصوير لنفسه وليس تصويرا للكون، وعلى أي حال فالمعرفة الحسية نسبية بكل تأكيد وكثيرا ما تشوه المعطيات الخارجية. ويرى بيكون أن من أخطاء العقل الإنساني أنه إذا آمن برأي واستقر عليه يتمادى في الدفاع عن هذا الرأي ويحشر كل الأشياء لتأييد وإثبات ذلك الرأي، ولا ينفع معه وجود أدلة كثيرة قاطعة منافية له. ويسوق بيكون كمثال لذلك قصة رجل دخل إلى معبد وعرضت أمامه لوحات كثيرة، علقها الذين نجوا من خطر الغرق في البحر بعد أن تحطمت السفينة التي كانوا على متنها، وكان ذلك بمثابة استجابة لنذورهم التي تقربوا بها إلى الآلهة. بعد هذا العرض طلب من الرجل الزائر للمعبد أن يعترف بقوة الآلهة وفائدة النذور، فكان جوابه: ولكن أين لوحات الذين غرقوا وماتوا في البحر على الرغم من نذورهم وإيمانهم وتضرعهم؟ - والمحور الثاني يعرض بيكون لما أسماه ب "أوهام الكهف"، ويستفاد منه أن لكل إنسان كهفا خاصا به، على شاكلة أسطورة الكهف الأفلاطونية المشهورة، مما يعني طغيان الذاتية على الموضوعية. - وأما المحور الثالث من أخطاء العقل فهي "أوهام السوق" التي تتعلق أساسا باللغة واستعمال الألفاظ في إطار العلاقات الاجتماعية، بمعنى أن الظروف "السوقية" لنشأة اللغة تجعل الألفاظ المتداولة محشوة بالتأويلات المضللة للعقل، ومعانيها تمويهية ومبهمة وكأنما وضعت بهدف الاستغناء عن الوقائع وإخفائها. - و أما المحور الأخير فقد سماه "أوهام المسرح" ويقصد بها جميع الأنظمة الفلسفية المتوارثة، والتي ليست إلا مسرحيات تمثل عالما خلقه الفلاسفة لأنفسهم بطريقة روائية مسرحية، ولا يخفى بيكون تحامله على أفلاطون وأرسطو، داعيا إلى خلق أساليب جديدة للتفكير، ووسائل جديدة للفهم والإدراك بعدما تخلى العقل عن كل هذه الخرافات والأوهام، وأصبح كاللوح المصقول أو الصفحة البيضاء لاستقبال نهجه الاستقرائي الذي يعتمد على قيمة التجارب أكثر من اعتماده على كميتها ، ويدعو إلى إصلاح شامل للعلوم بأسلوب معرفي لا يترك مجالا للصدفة والتلاعبات اللفظية، فالصدفة اسم لشيء غير موجود. وفي مجال علم النفس الاجتماعي يؤكد بيكون بقوله: "يجب على الفلاسفة أن يبحثوا عن قوى وطاقات العرف، والمادة، والتعليم، والمثل، والتقاليد، والمناقشة، والشراكة، والصداقة، والمدح، والتبكيت، والنصح، والحض، والإنذار والسمعة والقوانين والكتب والدراسة إلى آخر ما هنالك. لأن هذه الأشياء تتحكم في أخلاق الناس وتشكل العقل وتخضعه". يحث بيكون على أن المطلوب الأول في النجاح هو المعرفة. وفعلا، لقد نجح هذا الفيلسوف في المجال السياسي رغم كون معرفته لم تكن كافية لتقيه شر مزالق السياسة وأهوائها، لكنه بكل تأكيد نجح في وضع اللبنات الأولى لمنهجية فلسفية يعتد بها إلى اليوم في مقاربات العلوم التجريبية. لقد توفي بيكون بينما كان منهمكا في إجراء تجميد لدجاجة قصد معرفة مدى حاجته من الوقت لحفظ اللحم من التعفن، مات كموت موليير على خشبة المسرح، وكانت وصيته: " أترك روحي إلى الله، ودفن جسدي بغموض واسمي للأجيال القادمة والأمم الأجنبية ". *أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة *أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة [email protected]