كان المذيعُ الشاب الرشيق، بهندامه الأنيق، وعينيه المشعتين ببريق، يُرخي العنان بحماس لصوته الرقيق، وهو يضغط على اسم الضيف الصديق، الذي سيشارك في برنامجه الحواري الشهير، في موضوع الساعة الخطير: "المسألة اللغوية في المدرسة المغربية، ومكانة العربية بين اللغات الأجنبية". وبدا في غاية السعادة وهو يلفظ اسم العالم الألمعي، "عبد الملك بن قُرَيْب الأصمعي". الأصمعي؟ !.. نعم.. الأصمعي. رَنَّ الاسم في أذني رنين مُصفِّق، فانتبهتُ جليّاً غيرَ مُصدِّق.. وفَرَكْتُ عينيَّ مَلِيّاً كالمتحقِّق.. هل صحيح ما يقول؟ هل هذا معقول؟ ! .. أيكون الضيف حقا ذلك العالِم العلامة، الذي أذبل زهرة عمره في جمع شتات العربية من أفواه العامة، من أعراب اليمن والحجاز والشام والعراق واليمامة، وألَّفَ عشرات الصناديق من الكتب في اللغة والشعر، والنبات والشجر، والخيل والإبل والنعم...؟ أم أن الأمر مجرد تشابه في الاسم؟ فَرَكْتُ عينيَّ عدة مرات، وقرصتُ فخذي بضع قرصات، لأشعر بالآلام، وأتأكد أنها ليست أضغاث أحلام.. وها هو الأصمعي بعينيه المتوقدتين، وأنفه الأفطس الواسع الفتحتين، وعمامته الطويلة البيضاء، يمشي الهوينى بلا خُيَلاء، ويلقي بجسمه النحيل الملفوف، في جبة يمانية الصوف، على أريكة من ديباج بديع، بجوار الشاب المذيع. رَحَّبَ به الصحافي الشاب بكلمات محفوظةٍ معدَّدَه، دون أن يبرح مقعده، ثم شرع في تلاوة خطابه المتقادم، عن أهمية اللغة في تطور بني آدم، والتواصل مع العالَم. وما أن طرقت أول جمله أذن ضيفه الكريم، حتى عبس وجهه الذميم، وبدأ يستغفر الغفار الرحيم، من هول ما سمع من خطأ جسيم. ابتسم الصحافي الشاب مُداريا ارتباكه، وقال بأدب لا يخلو من ركاكه: تبارك الله عليك سيدي عبد الملك... فقاطعه الأصمعي مستغربا: - أيجوز هذا؟ .. بل قل: بوركتَ أو باركك الله. ظل الصحافي الأنيق محافظا على ابتسامته وإن كان قد ساورها بعض اليبس والعجل، والارتباك والخجل، ثم قال في شبه اعتذار أو ملل: بوركت أيها العالم الكريم ! أرجو أن تغفروا لي لَحِني(*قاله بكسر الحاء) ! ويسرني أن أسألكم في البداية عن رأيكم في واقع اللغة العربية؟ حَسَر الأصمعي عن رأسه عمامته، وأطلق ساقيه الطويلتين من تحت جبته، فبدَتْ نعلُه الكبيرة العربية الصنع بديعة الدروز. ثم أطرق وهو يغمغم بصوت خافت كمن يقرأ "الحروز": واقع اللغة العربية ؟!.. بل واقعة اللغة العربية !.. وقد وقعت ليس لوقعتها كاذبة... ارتفع صوت الصحافي منبها: خذ "الميكرو" سي عبد الملك !. إننا لا نسمعك. تَدَخَّل أحد العمال ليناوله جهاز مكبر الصوت، فرده الأصمعي بيده قلقا وهو يقف على قدميه، ثم قال بصوته الجهوري: يا بني ! لا تقل "ميكرو"، قل "المجهر".. ما هذه العجمة الفاحشة؟ !.. ثم من قال لك إنني في حاجة لهذا القضيب.. لقد كان صوتي يُسمع في مسجد دار السلام من ناحية الكرخ وضفة نهر دجلة. ابتلع الأصمعي ريقه بغيظ، ثم استطرد مجيبا عن سؤال الصحافي بلا فيض: - اسمع يا بني، وأنتم يا سادتي الكرام ! هي جملة واحدة لا غير، جملة محدودة: مصيبة اللغة العربية هنا في الألف الممدودة ! بدت على الصحافي الشاب وجمهوره الحيرة والاندهاش، وكان واضحا أن عمال المحافظة والديكور أنفسهم لم يفهموا شيئا من النقاش. فأضاف الأصمعي بعد أن نفض القماش: الألف الممدودة في اللحن ! زادت حيرة الحاضرين، فتابع الأصمعي متوجها مباشرة للصحافي المسكين: يا بني ! لقد نَعَتَّ نفسَك قبل قليل باللحِن، بكسر الحاء، والحق أنك أبعد ما تكون عن ذلك، وإنما أنت لاحِنٌ بمد اللام. والفرق بينهما: أن اللَّحِنَ، بكسر الحاء، اسم فاعل يعني الفطِن واليقظ والذكي، أما اللاحِن بمد اللام فهو الخروج عن القصد والنحو في اللغة..هل فهمت الآن واقعة اللغة العربية في بلدكم؟ إنها في هذه الألف الممدودة.. هنا أخذ الأصمعي نفسا قصيرا، ثم أضاف كلاما خطيرا، قال: فمن الواضح أن مدارسكم لم تحدد بعد غايتها: هل تريد تخريج شعب من اللحِنين أم من اللاحنين؟.. هذه هي المسألة. نطق الأصمعي جملته الأخيرة، صافي النفس والسريرة، وهو يحك أنفه الأفطس الدال على قوة البصيرة، على عادته حين يقبض على ناصية قضية خطيرة. ثم دلف نحو الباب مغادرا بيقين، أمام ذهول الصحافي وبقية الحاضرين. فلما توسط القاعة بنجوة، توجه إلى آلات التصوير المصوَّبة نحوه، وصرخ غاضبا في فورة وقوة: والله إنَّ أخشى ما أخشى عليه أن يقع للرباط ومراكش وفاس والبيضاء وطنجة ما وقع لمدينتي البصرة. اشرأبتْ إليه الأعناق، وكادت تقفز من محاجرها الأحداق، وهي تتطلع إلى ما سيخرج من الشفتين الغليظتين لمُدَبّْجِ اللغة والشعر في الأوراق، مَن كان لهارون الرشيد من أعز الرفاق. فكأنها نابت عن ألسنٍ في عقال، لتنطق بالسؤال، عما آلت إليه البصرة من حال؟ أخذ الأصمعي نفَسا أخيرا عميقا من قُمْ، واستجمع ما فيه من دم، ثم انفجرت من حنجرته جملة واحدة كالسيل العرم، قال: واللهِ إنّ تَزندُقَ أكثرَ القوم في البصرة راجعٌ إلى جهلهم باللغة العربية. هنا انفرجت أساريره، بعد أن ألقى محاذيره، وشعر براحة البال، بعد أن حط عن كاهله الأثقال، فاعتمر عمامته البيضاء، وغادر الفناء. أما الصحافي الأنيق، فظل مشدوها لا يفيق، ولا يعرف ماذا يحدث لأمله، في أتعس يوم من أيام عمله، قبل أن يستدرك بعد ثوان، ويعتذر لمشاهديه بفاصل الإعلان. كان الفاصل إعلانا مملا من النوع الطويل، عن سائل التنظيف "جافيل"، ظهر فيه بائع كهل يسوق عربة يدوية وهو يصيح مرددا: جافيل..جافيل.. جافيل... وصل الصوت المكرر والمزعج إلى أذني فانتبهتُ من نومي مذعورا، فإذا هو بائع جافيل يصيح قرب نافذة بيتي. كان كتاب الأصمعي، لصاحبه الأديب المصري أحمد كمال زكي، لا يزال فوق صدري، وسبابتي بين صفحاته، بالضبط في الصفحة 275، الفصل الثاني من الباب الثالث بعنوان "شذرات اللغة". ألا ليت الحلم طال ! وليت بائع "جافيل" تأخر ساعة حتى نستمتع قليلا ببعض نوادر الأصمعي وطرائفه من فمه الذهبي، ونطلع على غضبه في كواليس القناة المغربية قبل دخول البرنامج، حينما طلب منه المكلَّف بالملابس استبدال نعله العربية الغليظة بحذاء "نايك" الأعجمي، وجُبَّته اليمانية الفسيحة بسترة فرنسية ضيقة، واعتراضه على ذلك قائلا: ألا تستح يا رجل؟! لو منحتني نعلا مراكشية أو "بَلْغَة" فاسية لما ترددت في انتعالها، أما أن ينتعل فخر قبيلة باهلة نعل الحمراء والشقراء فلا يكون.. إن أعظم خلفاء العباسيين هارون الرشيد رفض استبدال نعله العربية ولو أتوه بنعل سندية... ألا ليت الحلمَ طال ! ليحكي الأصمعي للمشاهدين عن مدينة السلام وعن كرهه للاسم الأعجمي المشؤوم الذي اختاره لها أبو جعفر المنصور، أي "بغداذ" .. نَعم المشؤوم، لأن الأصمعي كان يراه مُرَكَّبا من كلمتين فارسيتين:(بَغْ) التي تعني الصنم أو إبليس، و(داذ) التي تدل على الأُعطية أو الهدية، أي "هدية إبليس أو الصنم". ألا ليت الحلم طال حتى نهاية البرنامج! لنسمع الأصمعي وهو يختم حديثه بذلك الدعاء العجيب الغريب الذي حفظه عن أعرابي مجهول، يقول فيه: "اللهم إن استغفاري إياك مع كثرة ذنوبي لَلُؤْم، وإن تَرْكي الاستغفارَ مع معرفتي بسعة رحمتك لَعَجْز. اللهم كم تحبَّبْتَ إليَّ بنعمتك وأنت غَنِيٌّ عَنِّي، وكم أتبَغَّضُ إليك بذنوبي وأنا فقير لك !" ألا ليت الحلم طال ! *كلية الآداب والعلوم الإنسانية، وجدة